تُعد حملة لا للأحزاب الدينيةأحد مظاهر الصراع السياسى الذى تعيشه مصر بحثا عن هوية سياسية مدنية ديمقراطية، تعكس وتجسد كل المبادئ التى حملها دستور 2014. والافتراض الرئيسى الذى تقوم على أساسه الحملة أن هناك بالفعل فى مصر أحزابا دينية أسُست على خلاف القانون والدستور، وبالتالى يجب أن تُحظر وأن تَصدر القرارات القانونية التى توقف عمل تلك الأحزاب فورا. وهو افتراض قابل للنقض خاصة فى شقه القانونى، فالقانون لم يحدد صراحة ما هو الحزب الدينى الذى يجب ألا يُسمح له بالعمل أصلا، أو التحركات الفعلية للحزب إذا كان أعُطى رخصة العمل مسبقا ولكنها تؤدى إلى حظره إذا ما قام بها. هذه هى مهمة لجنة الأحزاب أن تتابع تحركات الحزب وتراقب مدى دستوريتها وقانونيتها، وإذا وجدت فيها ما يدل على أن الحزب خالف القانون، ففى هذه الحالة تلجأ إلى المحكمة الإدارية لوقف عمل الحزب وحظره. وبالتالى فالمسألة هنا تتعلق بالممارسة ولفترة زمنية وجمع شواهد وقرائن تثبت خروج الحزب عن مقتضيات القانون وأنه مارس تمييزا يخرجه من إطار القانون والدستور. أما قبل ذلك فالمسألة ليست سوى صراع سياسى جزء منه مشروع ما دام الأمر يتعلق بالانتخابات. والثابت أن المادة 74 من الدستور تنص على أن للمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية بإخطار ينظمه القانون، ولا يجوز قيامها أو مباشرتها لأي نشاط على أساس ديني، أو التفرقة بين المواطنين بسبب الجنس أو الأصل أو الموقع الجغرافي أو الطائفي أو ممارسة نشاط سري أو معادٍ لمبادئ الديمقراطية، أو ذي طابع عسكري وشبه عسكري، ولا يجوز حل الأحزاب إلا بحكم قضائى. ونص المادة على هذا النحو والذى يعتبر ان نشاط الحزب هو الأساس فى الحكم على مدى التزامها بالقانون وعدم ممارستها أى نشاط على أساس تمييزى بسبب الدين أو غيره، أو مواجهة الدولة والمجتمع بالعنف، وهو يؤيد ما سبق قوله بأن الاصل هو التحرك على الارض وليس الوثائق فى حد ذاتها. والاشكالية هنا أن القانون لم يفصل فى هذه التحركات المرتبطة بما يمكن وصفه بالحزب الدينى غير المسموح به قانونا، ولم يضع معايير واضحة، واتصور أن البرلمان المقبل عليه أن يسد هذه الثغرة حتى تستقيم الحياة الحزبية على النحو المنشود. وفى السياق ذاته سيكون مطلوبا فك الاشتبك بين مفهومى الأساس الذى يقوم عليه الحزب والمرجعية التى يستند إليها الحزب، ولما كانت المادة الثانية للدستور تحدد المرجعية العامة للمجتمع وللتشريع هى الشريعة الاسلامية، فإن تأكيد أى حزب أنه يؤيد هذه المرجعية ويعمل بها لا تضعه مباشرة تحت راية الأحزاب الدينية كما قد يتصور البعض، بل أن أى حزب يناهض هذه المرجعية بمعناها العام يعنى أنه يناهض أحد مبادئ الدستور، وفى هذا تضارب شكلى كبير بحاجة إلى تقنين حتى لا يتوه المجتمع فى مشكلات وقضايا تستهلك منه الوقت والجهد دون طائل حقيقى. ويُعد حزب النور هو المستهدف الأكبر من هذه الحملة، والصحيح أن هناك عددا من الأحزاب التى يمكن أن توصف بأنها دينية بشكل أو بآخر خاصة التى دعمت ووقفت مع جماعة الإخوان الإرهابية بعد 30 يونيو مثل الأصالة والوسط والاستقلال والوطن والبناء والتنمية والفضيلة وغيرها ممن شكلت ما عُرف بتحالف دعم الشرعية،غير أن عزوف الناس عنها بسبب تأييدها لعنف الإخوان جعلها بعيدة عن أن تشكل تحديا حقيقيا فى الانتخابات المقبلة، ومع ذلك فهناك احتمال أن تتسرب عناصر محدودة العدد تنتمى لهذه الأحزاب إلى البرلمان المقبل عبر الانتخابات الفردية قد لا تكون معروفة للكافة بانتمائها الحزبى أو لكونها مدعومة بعصبية ما لا سيما فى المناطق الريفية، ولكنها لن تشكل تحديا حقيقيا لأداء البرلمان، لاسيما إذا استطاعت الأحزاب المدنية بشكل عام أن تشكل الغالبية، أما إذا تمكن حزب النور من تحقيق نسبة تفوق الثلث منفردا، فيمكن حينذاك تصور أن تتوافق هذه العناصر المتسربة مع كتلة حزب النور وبحيث تصبح عقبة أمام التوجه المدنى داخل البرلمان، والذى هو أصلا مشتت بين أكثر من حزب وأكثر من قائمة. إذن، نحن أمام صراع سياسى تلجأ فيه الحملة للرأى العام مستنسخة ما فعلته حركة تمرد من قبل والتى كانت إحدى الآليات الفعالة فى تعبئة المصريين فى وجه حكم الإخوان حتى اسقاطه تماما. لكن الرأى العام وحده لا يكفى فى هذه الحالة إذا كان الهدف هو الحظر القانونى عبر حكم قضائى يلغى وجود حزب النور، أما إذا كان الهدف هم التأثير على حظوظ الحزب فى الحصول على نسبة عالية من مقاعد البرلمان المقبل، فهو أمر مقبول نظريا وعمليا على السواء. ومعروف أن هناك حكميْن سابقيْن لكل من محكمة الأمور المستعجلة فى القاهرة والاسكندرية لم يُقرا بأن حزب النور هو حزب دينى يخالف مواد الدستور والقانون، وبالتالى فهو حزب قانونى تماما. ومعروف أن الأصل فى أحكام القضاء هو الوثائق التى يستند إليها القاضى وليس البيانات والتصريحات السياسية، والواضح أن وثائق تأسيس حزب النور لا تشتمل على أية نزعة دينية عدا تأييدها للمادة الثانية من الدستور التى تنص على أن الشريعة مصدر رئيسى للتشريع، وفى ذلك ما لا يمكن اعتباره مخالفة، بل هو تمسك بمبدأ دستورى أقره المصريون عن طيب خاطر وبنسبة تفوق 98%. يٌضاف إلى ذلك أن الحزب يفتح أبوابه لعضوية المسيحيين فى محاولة لتأكيد أنه لا يميز بين المصريين بسبب الدين، وهناك أسماء مسيحية قد تتضمنها قوائم الحزب الانتخابية، وقد يدعم الحزب فى بعض الدوائر مرشحا مسيحيا. ومهما يٌقال أن هذه مناورة والتفاف شكلى على أيديولوجية الحزب المستمدة من الأفكار السلفية التمييزية المعروفة بين المسلم وغير المسلم والرجل والمرأة، فعلى الصعيد السلوكى تعد حركة لصالح الحزب.ناهيك عن أن الحزب له قاعدة شعبية ما تؤمن بأفكاره وليس من مصلحة المجتمع ككل أن تغيب هذه القاعدة عن البرلمان المقبل، ومهما كان اختلافنا مع هذه الافكار، فالحظر القانونى لن يفيد بل سيكون ضارا، وما دام الأمر صراعا سياسيا فالافضل أن يكون هناك اشتباك جاد ومفصل مع هذه الأفكار وبيان عدم ملاءمتها مع ما يُفضل أن يكون لمصر والمصريين. لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب