برلين رأيت المواطن العادى فى أوروبا ينفعل ويضغط بعد رؤية طوابير اللاجئين الفارين من جحيم الشرق الأوسط على مدى الأيام الماضية وهو ضغط تضاعف بعد رؤية الطفل إيلان كردى صريعا على أحد شواطئ تركيا وبعد العثور على 71 ضحية فى شاحنة على حدود النمسا الأسبوع الماضى. الإنسانية التى أخرجت أفضل ما فى المواطن الأوروبى المتحضر، الذى لم يتقاعس عن مساعدة الناجين من جنون حرب سوريا واستقبلهم بالورد فى محطات الأمل الجديدة ودفع الحكومات إلى مواقف أخلاقية، لم تحرك الحكومات الغربية أبعد من ذلك حتى تضع حداً لواحدة من مآسى التاريخ المعاصر وهى القضاء على دول بكاملها فى المنطقة العربية تحت زعم إسقاط الديكتاتورية والاستبداد، بينما واقع الحال أن تلك الحكومات دعمت إسقاط الشعوب فى مستنقع أسود لا قرار له بعد أن تغاضت عن عمليات تمويل جماعات دموية مجرمة وأنفقت المليارات على حملات جوية ضد أنظمة وجيوش نظامية وعندما قاربت الدول على التفكك تنصلت الدول الغربية من تعهداتها وتركت الشعوب لمآسيها، ويكفى أن سوريا يخرج منها اليوم 25 % من اللاجئين فى العالم. السؤال الأهم من مشاهدات سريعة فى برلين: هل يستمر الرأى العام الغربى فى التعاطف غير المشروط؟ الوصول إلى أوروبا الغربية عبر طرق وعرة فى شرق القارة هو منتهى ما يريده مئات الآلاف من أبناء سوريا والعراق وأفغانستان وجنسيات أخرى عديدة يصارعون الموت فى البحر المتوسط أو يجبرون على مغادرة تركيا التى ضاقت بهم إلى ملاذات آمنة. ليلة غرق عائلة الكردى فى بحر إيجه، كانت هيئة الإذاعة البريطانية «بى بى سى» تعرض فيلما تسجيليا عن فتاة سورية رحلت عن بلدها إلى تركيا ثم تنقلت بين القطارات والطرق الوعرة حتى عبرت حدود صربيا ومنها إلى بودابست، ثم انتهى بها الأمر فى العاصمة السويدية إستوكهولم لتطرق باب أول مركز للشرطة صادفها وتسجل نفسها فى عداد طالبى اللجوء السياسى فى البلاد وهى واحدة من عشرات الآلاف العالقين على حدود أوروبا الغربية. أسئلة الرأى العام الأوروبى والعالمى لا تتوقف عن أسباب موجة النزوح الكبير الآن ولماذا استغرق الأمر ثلاث سنوات حتى تنفجر الأزمة. فى حوارات مع خبراء أوروبيين فى الأيام الماضية، قال أحدهم: إن أعين النازحين كانت على الوصول إلى غرب أوروبا من اللحظة الأولى لوصولهم إلى تركيا أو اليونان والكثيرون خرجوا دون متاع أو أموال وكان عملهم لفترات طويلة (سنوات) بأجور ضئيلة فرصة لتدبير نفقات الرحلة الخطرة، ولو تأملت والد الطفل إيلان ستجد أنه تحدث بعد نجاته عن دفع 4 آلاف يورو للمهربين قبل الرحلة المأساوية وهو مبلغ لم يكن له أن يدفعه ما لم يعمل لساعات وأيام طويلة فى منفاه الإجبارى فى تركيا، وعندما حانت الفرصة أقدم على المغامرة المجنونة فى بحر إيجه مع زوجته وطفليه. حالة السيد «كردى» تتشابه مع عشرات وربما مئات الآلاف من السوريين وجنسيات أخري، هناك من يحالفهم التوفيق، وهناك من يسقطون من القوارب الصغيرة وينتهى بهم الحال أرقاما فى عداد الضحايا. الأمر الثاني، أن بقاء تنظيم داعش دون ردع أو نهاية لزحفه الدامي، دفع بالملايين للتفكير فى الهرب خاصة الشباب الذين يحلمون بأرض جديدة يستطيعون فى حال استقرارهم هناك أن يستدعوا عائلاتهم للعيش معهم بعيدا عن جماعات الإرهاب والتطرف. الأمر الثالث، أوضاع المساعدات الإنسانية التى تقدمها منظمات الأممالمتحدة لم تعد قادرة على ملاحقة الأعداد المهولة من اللاجئين والتى توصف اليوم بأنها أسوأ كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، وباتت المخيمات عبر حدود الدول التى تحتضن الفارين من الحرب الأهلية غير مناسبة للبقاء فترات زمنية طويلة. الموقف الأخلاقى من اللاجئين السوريين لن يكتمل دون أن تتحرك الحكومات الغربية لوضع حد للمأساة على الأرض ويوقف تمويل الحرب الأهلية وتدفق المقاتلين الأجانب على سوريا والعراق، وفى رأيى أن أوروبا والولايات المتحدة لن يتحركا بحزم فى الملف السورى قبل أن تصل أزمة الفارين إلى نقطة الخطر التى ستقلب الرأى العام الأوروبى على الحكومات (المانيا تتوقع 800 ألف طلب لجوء العام الحالي، وأمريكا لم تستقبل أكثر من 1340 لاجئاً حتى الآن)، فاليوم الشعوب تتعاطف مع الشعوب ولكن غداً ربما ينقلب الأمر إلى شيء آخر مع وجود تيارات معادية للأجانب فى أوروبا الغربية وهى تيارات لا يروق لها ما يجرى بدعوى التعامل مع الأمر الواقع! لمزيد من مقالات عزت ابراهيم