انطلاق حملات التوعية بالممارسات الخاطئة في ذبح الأضاحي وكيفية التعامل مع المخلفات في الجيزة    بعد الارتفاع الأخير.. خبير اقتصادي يكشف توقعات أسعار الذهب الفترة المقبلة (فيديو)    تراجع سعر الجنيه الذهب في ختام تعاملات اليوم الجمعة (آخر تحديث)    إسرائيل تهدد حماس بقبول صفقة المحتجزين أو مواجهة التصفية    ثلاثي بشتيل يقترب من الدوري الممتاز    مقتل شاب بطلق ناري في ظروف غامضة بالصف    محمد ممدوح وطه الدسوقي في فيلم "دافنينه سوا" بعد العيد    إكسترا نيوز تطلق تجربة جديدة.. مذيعات بالذكاء الاصطناعى عن مستقبل السينما    وزير التعليم يبحث مع «جوجل» تعزيز دمج التكنولوجيا في تطوير المنظومة التعليمية    "قبل نهائي الأبطال".. تاريخ مواجهات إنتر ميلان وباريس سان جيرمان    أحمد عاطف يعلن رحيله رسمياً عن مودرن سبورت    13 لقبا في 35 ظهور.. ريال مدريد يعلن رحيل فاييخو    بتواجد ثلاثي ليفربول.. محمد صلاح يتصدر فريق الجماهير في الدوري الإنجليزي    زيادة ثقة المستثمرين الأجانب فى الاقتصاد المصرى    مصرع شابين وإصابة 3 آخرين في حادث تصادم دراجتين بخاريتين ببني سويف    "مصر وبوينج" تبحثان تعزيز السلامة الجوية والتحول البيئي في الطيران المدني    تطرق أبواب السياسة بثقة :عصر ذهبى لتمكين المرأة فى مصر.. والدولة تفتح أبواب القيادة أمام النساء    من هو أحمد زعتر زوج أمينة خليل؟    العشر من ذى الحجة    بالمجان| الكشف الطبى على 800 مواطنًا خلال قافلة طبية بعزبة 8 في دمياط    حسام موافي يحذر من أعراض الأنيميا.. وعلاجها بشكل فعّال    وزير الخارجية يلتقي بسفراء الدول الأوروبية المعتمدين في القاهرة    المفتي مكرما حفظة القرآن بالشرقية: لا ينبغي أن يقتصر الحفظ على التكرار والترديد    محمد شريف: وقعت للزمالك سابقًا.. ولكن الأهلي حسم الصفقة في 48 ساعة    ضوابط صارمة لمنع الإخلال بالنظام خلال امتحانات الشهادة الإعدادية في شمال سيناء غدا    4 مشاهدين فقط.. إيرادات فيلم "الصفا ثانوية بنات"    المنطقة الشمالية العسكرية تستكمل تنفيذ حملة «بلدك معاك» لدعم الأسر الأولى بالرعاية    برنامج توعوي مخصص لحجاج السياحة يشمل ندوات دينية وتثقيفية يومية    حملة مكبرة لرفع الإشغالات بشارع 135 بحي غرب شبرا الخيمة - صور    عالم بالأوقاف: كل لحظة في العشر الأوائل من ذي الحجة كنز لا يعوض    وفد من مسئولي برامج الحماية الاجتماعية يتفقد المشروعات المنفذة بحياة كريمة في الدقهلية    سوريا تُرحب بقرار اليابان رفع العقوبات وتجميد الأصول عن 4 مصارف    ألمانيا تربط تسلم أسلحة إسرائيل بتقييم الوضع الإنساني بغزة    ماكرون: إذا تخلينا عن غزة وتركنا إسرائيل تفعل ما تشاء سنفقد مصداقيتنا    شعبة مواد البناء: أسعار الأسمنت ارتفعت 100% رغم ضعف الطلب    الحدائق والشواطئ بالإسكندرية تتزين لاستقبال عيد الأضحى وموسم الصيف    مفتى السعودية: أداء الحج دون تصريح مخالفة شرعية جسيمة    فى ليلة ساحرة.. مروة ناجى تبدع وتستحضر روح أم كلثوم على خشبة مسرح أخر حفلاتها قبل 50 عام    الأحد.. مجلس الشيوخ يناقش الأثر التشريعي لقانون التأمين الصحي والضريبة على العقارات المبنية    الأعلى للجامعات: فتح باب القبول بالدراسات العليا لضباط القوات المسلحة    دعاء العشر الأوائل من ذي الحجة لتيسير الأمور وقضاء الحوائج.. ردده الآن    أزمة تايوان تتفاقم.. واشنطن تعيد تشكيل الردع وبكين تلوّح بالرد    108 ساحة صلاة عيد الأضحى.. أوقاف الإسماعيلية تعلن عن الأماكن المخصصة للصلاة    وزير الزراعة يستعرض جهود قطاع تنمية الثروة الحيوانية والداجنة خلال مايو الجاري    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من مسجد الشهيد بالقليوبية    ليلة في حب وردة وبليغ حمدي.. «الأوبرا» تحتفي بروائع زمن الفن الجميل    كأس العالم للأندية.. ريال مدريد يعلن رسميا ضم أرنولد قادما من ليفربول    الرئيس اللبنانى يزور العراق الأحد المقبل    طهران: تقرير الاستخبارات النمساوية المشكك في سلمية برنامجنا النووي كاذب    ديو "إهدى حبة" يتصدر التريند.. ديانا حداد والدوزي يشعلان الصيف    نائب وزير الصحة يتفقد عددا من المنشآت الصحية فى البحر الأحمر    مصرع طفل بصعق كهربائى داخل منزل أسرته بجرجا فى سوهاج    طقس مائل للحرارة اليوم الجمعة 30 مايو 2025 بشمال سيناء    ريا أبي راشد: أجريت مقابلة تلفزيونية مع مات ديمون بعد ولادة ابنتي بيومين فقط    حملة للتبرع بالدم بمديرية أمن البحر الأحمر    موعد مباراة الاتحاد والقادسية في نهائي كأس خادم الحرمين والقنوات الناقلة    «مالوش طلبات مالية».. إبراهيم عبد الجواد يكشف اقتراب الزمالك من ضم صفقة سوبر    فرنسا تحظر التدخين في الأماكن المفتوحة المخصصة للأطفال بدءًا من يوليو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام الوطنى المصرى
نشر في الأهرام اليومي يوم 30 - 08 - 2015

كان من أهم آثار ثورة 1919 أنها وصلت بالشعور الوطني الجمعي إلي ذروته، وأكملت تجسيد الهوية الوطنية المصرية، وتأسيسها نظرية بعد البدايات التي أرهصت بها، وتبنتها ثورة عرابي نضالا وإبداعا وممارسة وأظن أن مفهوم «الأدب الوطني» - أو «الأدب القومي» بلغة العشرينيات في كتابات محمد حسين هيكل وأحمد ضيف- كان نتيجة الوعي الأدبي بهذه الهوية الوطنية المصرية التي كان لها تجليات متعددة فكرا وإبداعا وتأويلا للتراث علي السواء. مؤكد أن أصول الوعي بهذه الهوية تأسست في علاقة التضاد بينها والآخر: المستعمر - المحتل - المستغل، وذلك خلال عملية صياغة الوعي الإيجابي للأنا في سعيها إلي التحرر والاستقلال، مؤكدة معاني جديدة مضافة إلي كلمتي «الوطن» و»الوطنية» في علاقاتها بمعاني الهوية التي تكتمل بوعي نقيضها. وكان ذلك بعد مقدمات أصبحت راسخة الجذور في التاريخ المصري الحديث، تضمنتها كتابات رفاعة الطهطاوي التي صاغت «مناهج الألباب المصرية» الحديثة، مؤكدة أن «إرادة التمدن للوطن لا تنشأ إلا عن حبه من أهل الفطن»، وأن «صفة الوطنية» تستدعي أن يقوم المواطن بما عليه من واجبات، كي ينال ما له من حقوق، فإذا «لم يوف أحد من أبناء الوطن بحقوق وطنه ضاعت حقوقه المدنية التي يستحقها علي وطنه». هكذا اكتسبت «محبة الأوطان» معناها التحرري في علاقاتها بالهوية الوطنية الصاعدة، وذلك منذ أن كان شعار «مصر للمصريين» علامة علي جماعة «الوطنيين» الذين صاغوا الأساس الفكري للثورة العرابية سنة 1882، واجتمعوا علي ما عرف باسم «الحزب الوطني» وأفكاره التي أشاعتها صحيفة «مصر» التي كانت الصحيفة الأولي في تسجيل هذا الشعار، إلي جانب صحيفة «مصر الفتاة» أولي الصحف الوطنية التي دعت إلي الحرية.
ولم ينقطع الشعور بالهوية الوطنية مع انكسار الثورة العرابية، فقد ظل الحضور القمعي للآخر المحتل دافعا علي استمرار توقد هذا الشعور الذي تعددت صياغاته. ومن أهم هذه الصياغات صياغة قاسم أمين للقيم التي ينطوي عليها «المصريون» فيما نشره سنة 1894 ردا علي ما كتبه دوق داركور. وهي الصياغة التي أكدت الكيفية التي صار بها «حب الوطن دينا جديدا: من اعتنقه ربح، ومن بعد عنه خسر» علي نحو ما نقرأ في «كلمات» قاسم أمين التي كانت عنصرا تكوينيا من العناصر التي تكاملت مع غنائيات مصطفي كامل وشعاراته. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تكون كلمات مصطفي كامل الأصل لأغنية سيد درويش التي فجرتها ثورة 1919 التي أكملت صياغة الوطنية المصرية وعيا وهوية وإبداعا وخصوصية حضارية.
هذا هو السياق التاريخي الذي دفع محمد حسين هيكل إلي صياغة مفاهيم جديدة عن الأدب القومي، وأن يتأسس في الجامعة المصرية كرسي لدراسة هذا الأدب، وهو كرسي الأدب المصري، وأن يكون أول من يشغل منصب الأستاذية لهذا الكرسي هو أمين الخولي الذي أصدر كتابه عن «الأدب المصري» من منطلق خصوصية هذا الأدب، داخل مجال الأدب العربي العام. وكان يوازي خصوصية الأدب عند الخولي خصوصيات موازية له، في مجالات متعددة منها الفكر الديني الإسلامي الذي أضفت عليه «البيئة» المصرية من خصائصها ما دفع بالإمام الشافعي إلي أن يغير ثلاثين مسألة في فقهه، بعد أن ترك العراق واستقر في مصر، وفرضت عليه «البيئة» المصرية حضورها النوعي، فعبقرية المكان إذا استخدمنا لغة جمال حمدان- لها سطوتها المسقطة علي تاريخه وإبداعه، حتي علي الفكر الذي ينتسب إلي كل الديانات السماوية التي جاءت إلي مصر، وآخرها الإسلام.
وكان تمسك مثقفي ثورة 1919 الحاسم والحدي بخصوصية الهوية الوطنية المصرية من هذا المنظور- صادما لعدد من المفكرين العرب الذين تمسكوا تمسكا حماسيا ورمانسيا بالعروبة، وذلك علي نحو ما فعل ساطع الحصري الذي أطلق علي دعاوي الهويات الوطنية مسمي «النظرية الإقليمية» التي رأي فيها نقيضا لدعوته إلي قومية عربية، لا يشوبها شائبة قطرية. وظني أن نقاء الوعي القومي العربي الخالص أمر لا وجود له إلا علي مستوي الجدل النظري، والتمسك بالقومية العربية لا يتناقض والميراث الإقليمي الحضاري وخصوصيته لكل بلد عربي في آن. وكما لا يمكن للعراقي أو السوري أو اللبناني إنكار الخصوصية النوعية لحضاراته القديمة، كذلك لا يمكن لداعية القومية العربية أن ينكر قيامها علي التنوع الذي لا يتناقض والمبادئ العامة للقومية التي هي نوع من وحدة التنوع في آخر المطاف. والمحاجة نفسها تصح علي الإسلام من حيث هو دين وعقيدة، فهناك ثوابت لا خلاف عليها وهي الأصول الثابتة التي يكفر منكرها. لكن هناك الفقه الذي يختلف باختلاف البيئات والأزمنة. ولذلك كان صوابا أن يذهب أمين الخولي، في بحثه عن خصوصية وطنية، إلي وجود بلاغة تميل إلي السهولة والبساطة وإيثار الطبع لا التطبع. وبالقدر نفسه يمكن أن نمضي بنظريته في الأدب المصري- فنري هوية مصرية تحولت إلي هوية دينية، بالمعني الذي يسقط عبقرية المكان علي الزمان، ويسقطهما معا علي الديانات من حيث هي تأويلات بشرية لنصوص إلهية مقدسة. ويعني ذلك أننا يمكن أن نتحدث عن هوية وطنية للدين، هي مجموع التأويلات والأحكام التي يستنبطها علماء كل قطر من النصوص الدينية المقدسة والثابتة، حسب عادات أزمنتهم وخصوصيات أمكنتهم. ولذلك يمكن أن نتحدث عن إسلام مصري، هو إسلام نهر وليس إسلام صحراء، إسلام دولة مركزية بحكم خصائصها اليوسياسية، وعن إسلام منبسط المزاج انبساط وادي النيل، وسمح المبادئ سماحة الحياة حول ضفتيه، إسلام يتقبل الآخر في بيئة سبق الإسلام فيها ديانتان سماويتان، فيتقبل التعددية الدينية، والتنوع الفقهي في مساجده وأزهره الذي يدرس المذاهب السنية الأربعة، ويقر واحد من أهم شيوخه (محمود شلتوت) بجواز التعبد بالمذهب الشيعي الجعفري باعتباره مذهبا إسلاميا كالمذاهب السنية الأربعة، مؤكدا أن الإسلام لا يوجب علي أحد اتباع مذهب بعينه، فإن لكل مسلم الحق في أن يقلّد بادئ ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلا صحيحا والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة، ولمن قلّد مذهبا من هذه المذاهب أن ينتقل إلي غيره، أي مذهب كان، ولا حرج عليه في شيء من ذلك. وهذه كلمات الشيخ شلتوت بنصها لأنه كان يعرف أن الأصل في إسلام المسلم ليس المذهب الديني وإنما الدين في أصوله الكلية ونصوصه المقدسة. ولم يكن من المصادفة أن يكون شلتوت في مطلع شبابه- (ولد في 1893) مشاركا في ثورة 1919، وواحدا من الهاتفين بشعارها: «الدين لله والوطن للجميع»، و»الإسلام» الذي تنطلق منه فتاواه هو إسلام مصري سمح، يستحق صفة الوسطية بمعناها الحق، وليس المعني الزائف الذي يتشدق به من هم أبعد الناس عن الوسطية والاعتدال من المشايخ الذين خضعوا لمؤثرات مضادة لوسطية واعتدال التركيبة المصرية التي أنتجتها عبقرية مكان، تعامدت عليه أزمنة نوعية، فرضت قبول الآخر والعيش المشترك في وطن ينبني علي التنوع والتعددية، ومن ثم ترسيخ مبادئ الوسطية والاعتدال والتسامح السمح لا التعصب المقيت، وقبول الجديد وليس رفضه، مع الإيمان بتغير الفقه مع متغيرات الزمان والمكان.
هذا الإسلام الوطني المصري هو الإسلام الذي نشأ عليه جيلي، وظل قائما شائعا مهيمنا، ما بعد ثورة 1919، إلي ما بعد ثورة يوليو 1952 التي هي استمرار لقيم الثورة الأم، وهي القيم التي ترادفت مع الفهم السمح للإسلام. ولذلك ظلت جماعة الإخوان المسلمين جماعة هامشية تاريخيا منذ نشأتها 1928 إلي سنة 1952. ولم ينجح أي منتم إليها في اقتحام مجلس نيابي مصري إلي سنة 1970، ولم تنتشر تصوراتها السلفية قط إلا بعد هزيمة 1967 والانكسار المأساوي لمشروع الدولة الوطنية القومية. ومنذ هذا العام المشؤوم، والمشروعات السلفية المغلقة (التي أسسها أمثال ابن تيمية) تحاول غزو التأويلات المصرية للدين المصري المعتدل، مدعومة للأسف بأموال النفط. ولكن إذا كانت الدولة الناصرية قد سقطت في 1967، فميراث الدولة الوطنية المصرية لم يسقط، وإنما ظل مستمرا رغم تحالف السادات مع جماعات الإسلام السياسي التي اغتالته. ولقد تجلي إسلام الدولة الوطنية المصرية مرة أخري في ثورة يناير حين هتف الجميع بسقوط نظام جاوز عمره الافتراضي. وجاءت ثورة 30 يونيو بما أعاد بعث الوطنية المصرية، وكان نتيجة لها في الوقت نفسه. ومع عودة الهوية الوطنية المصرية عاد ما يلازمها من هوية دينية تنفرد بها مصر، وظلت مرتبطة بإسلامها الوطني الذي هو جزء أصيل من هويتها الوطنية التي تجمع الديني (المسيحي والإسلامي) والثقافي والإبداعي. وكما أفلحت هذه الهوية في إسقاط مشروع الإخوان الفاشي والتمييزي والسلفي، فإنها ستظل حائط الصد الثقافي الذي يحمي الوطن المصري من كل إرهاب، يناقض إسلامنا المصري السمح الذي كان أحد مكونات ثورة 1919، ولا يزال أهم مكونات مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة التي هي درعنا ومستقبلنا الواعد في آن.
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.