يبدو أن الأرجنتينيين ما زالت لديهم رغبة شديدة فى استمرار تنمية اقتصاد بلادهم بنفس الوتيرة والاستراتيجية التى تبناها الرئيس الأرجنتينى الراحل نيستور كيرشنر منذ 12 عاما. أكبر دليل على ذلك ليس فقط انتخاب زوجته كريستينا فيرنانديز عقب وفاته فى 2007، بل انتخاب دانييل سيولى حاكم مقاطعة بوينس آيرس قبل أيام، حيث حصل الأخير على نحو 55٪ من أصوات الناخبين - وذلك بدعم حزب فيرنانديز - فى الانتخابات الأولية العامة لاختيار المرشحين فى الانتخابات الرئاسية المقبلة. ويعتبر سيولى المرشح الوحيد لحزب "الجبهة من أجل النصر" الحاكم الأوفر حظاً للفوز فى الانتخابات الرئاسية المقررة فى أكتوبر القادم، وذلك بالمقارنة مع النسب التى حصل عليها منافسه ماوريسيو ماكرى -مرشح حزب يمين الوسط المعارض - والذى حصل على 25٪ من الأصوات، وكذلك سيرخيو ماسا مرشح حزب "جبهة التجديد" الذى حصل على 13٪ فقط. ويبدو أن من أهم الأسباب لنجاح سيولى - 58 عاما - هو تعهده فى برنامجه الانتخابى بمواصلة سياسات كيرشنر وفيرنانديز التى تقوم على الحوار والانفتاح والتنمية، مما يعنى إبقاء الوضع الاقتصادى فى البلاد كما هو، كما أنه من أشد المؤيدين للسياسات التقدمية، فخلال فترة توليه منصب حاكم مقاطعة بوينس آيرس كان من أكبر مشجعى الإصلاحات التى تفيد المجتمع، ومنها العمل على تطوير وتنمية المؤسسية والديمقراطية والمناطق الحضرية، بالإضافة إلى تنمية البنية التحتية، وتعزيز الإصلاحات الهيكلية للسلامة العامة، بالإضافة إلى ذلك، فهو من أشد مؤيدى قانون الحق فى السكن لجميع المواطنين، ولديه فى الوقت نفسه دعم واضح من قبل كبار رجال الأعمال فى الأرجنتين، حيث إنه من مؤيدى خطط التقشف الحكومى وتخفيض الضرائب على الشركات، الأمر الذى جعل الكثير يلقبونه ب"منقذ اقتصاد الأرجنتين". وكانت فيرنانديز قد استطاعت خلال الفترتين الرئاسيتين التى تولت فيهما زمام الأمور أن تكمل المسيرة التى بدأها زوجها، حيث نهضت باقتصاد الأرجنتين، عن طريق تبنى حكومتها لخطط زوجها لمواجهة الأزمات، وذلك عن طريق اتباع برامج تقشفية حكومية منذ تسلمها الحكم، مما مكن الأرجنتين من تسديد الجزء الأكبر من ديونها إلى البنك الدولي، ثم تابعت المسيرة عن طريق التعاون مع النقابات العمالية والشركات الكبيرة، وذلك بتخفيف الضرائب عنها مقابل تعيين عدد كبير من المواطنين لدى هذه الشركات، وبهذا خففت من ارتفاع نسبة البطالة فى البلاد. وتعد فيرنانديز امرأة طموحة جدا وقوية الشخصية، وهو ما مكنها من النجاح طوال هذه الفترة، بالإضافة إلى أنها كانت عضوا فى مجلس الشيوخ قبل وصولها إلى سدة الحكم، وقد ذاع صيت حنكتها السياسية أكثر من زوجها الذى كان لفترة طويلة حاكماً لإحدى المقاطعات، بل وساعدت فيرنانديز زوجها فى الوصول إلى الحكم فى الوقت الذى كانت فيه الأرجنتين تمر بأزمة اقتصادية حادة وعلى وشك الانهيار، وأقر كيرشنر فى ذلك الوقت السياسة الحديثة التى تجمع بين الفكرين الاجتماعى الديمقراطى والاجتماعى الليبرالي, وقد أسهمت تلك السياسة فى نمو البلاد بشكل مباشر وإعادة الثقة لاقتصادها. ومن الأمور التى شجعت الكثير من الأرجنتينيين لمنح أصواتهم للرئيسة فيرنانديز عقب وفاة زوجها الراحل كريشنر هو نجاح سياسته خلال الفترة التى تولى فيها الرئاسة, والتى لم تتجاوز أربع سنوات ما بين 2003 إلى 2007، حيث استطاع كيرشنر أن يصعد باقتصاد الأرجنتين من الهاوية فى فترة وجيزة، وأعاد الاستقرار إلى الاقتصاد بعد انهياره إثر الأزمة الاقتصادية الكبيرة التى عصفت بالبلاد عام 2001، مما أدى آنذاك إلى اتساع نطاق الفقر فى البلاد . وتم ذلك عن طريق تنفيذ برنامج وطنى استهدف تحسين مستوى المعيشة، كما استطاع كيرشنر خلال فترة رئاسته أن يضع حدا لسلسلة المظاهرات التى اجتاحت الأرجنتين قبل توليه السلطة، وذلك عن طريق إعادة جدولة الديون وتطبيق خطة إنقاذ تقشفية، حيث وضع متطلبات الفقراء فوق أى اعتبار، عن طريق تخصيص نحو مليار دولار لتحسين الخدمات العامة والتى تشمل إسكان الفقراء وإنشاء الطرق الجديدة، كما دعم كيرشنر تكتلا إقليميا للتجارة الحرة اشتركت فيه الأرجنتين مع البرازيل وأوروجواى وباراجواي، ودعم روابط بلاده مع حكومات أقصى اليسار فى كل من فنزويلا وبوليفيا. والسؤال الذى يطرح نفسه الآن هو : هل سيظل "سيولي" حاملا لإرث عائلة كيرشنر إلى نهاية المطاف، بكل ما تحقق من إيجابيات وسلبيات، وبفضل الرسالة الواضحة التى تلقاها من جماهير الناخبين وتفيد برفضهم تغيير المسار الحالي، أم أنه سيحاول فى يوم من الأيام الخروج من تحت عباءة كيرشنر وزوجته فيرنانديز بشكل تدريجي، لعلاج المشكلات القائمة، لكى يخرج البلاد من الأزمات الاقتصادية التى بدأت تواجهها مع تقادم حكم كريستينا، بأن يتبنى سياسة جديدة تسهم فى الحد من التضخم بشكل مباشر وتعمل على إيجاد فرص عمل للشباب, أم أنه سيظل حاملا للإرث إلى نهاية المطاف.