كتابة تحت ضغوط القلب ونبضاته وإيقاعاته المتلاحقة، وعشقه وولعه وشغفه، كتابة الوجد والمعراج والوصول والتجربة، كتابة التفاصيل وجواهر الألباب والخبرات التى تكتنزها، والرموز وأسرارها المستورة. كتابة خاصة واستثنائية تلك التى فتح بها جمال الغيطانى مساره السردى والروائى الجديد منذ مفتتح عمله الأول أوراق شاب عاش منذ ألف عام، مروراً بمنجزه الروائى المتميز فى الفضاءات السردية العربية، الزينى بركات وحارة الزعفرانى، والتجليات، ونصوصه المتفردة حول المدينة الأثيرة القاهرة المحروسة وأسرارها فى التاريخ، ومكنوناتها فى البشر وحركة الحياة والمعمار وموسيقاه التى تنساب عندما يقترب منه العشاق المتيمون بسيمفونيات الحجر ومتتالياته وبنياته وتشكيلاته، وبالعقل المعمارى وجماليات الأيادى الخشنة التى تبدع جمالها وروحها الوثابة المتحضرة فى عملية البناء ... كتابة ملهوفة دائماً بالإنسان المصرى وعمق أعماقه فيما وراء التاريخ المكتوب وما بعده، وتحاول أن تستنطق عبقريته فى الزمان، وفى البناء. سرود جمال الغيطانى ولغته الخاصة أعطت لعوالمه الروائية ذائقة، ورونقاً، وعمقاً، ولمعاناً وحياة فى الحياة وما وراءها. كتابة تستبطن الجوهرى والأصيل والمستمر فيما بعد الكتابة .. هى كتابة الحياة التى تعانق البقاء، وليست سرد العارض، والزائل الذى يتبدد سريعاً بعد الكتابة. كتابة التجربة والألم والاستبصار والاستكناه، من هنا تأتى فرادتها على مستوى اللغة المشحونة بالوجد، وصيرورات الروح وتجليات الأسرار وبوح المستور بما يكتنزه، لغة الكشف والانكشاف لأيقونات الروح التاريخية كحركة الإنسان المصرى، وتجاربه الوجودية والكينونية ذات النفس والعمق الإنسانى الكونى العابر لتواريخ الوجود.. كتابة مشغوفة بأسئلة الوجود والحياة والعدم، وما وراءها. كتابة تناسلت من نصوص الخروج إلى النهار متون الأهرام من تحولات اللغة وانقطاعاتها من السعى لمعرفة ما قبل الهيروغليفية المستورة فى العلامات والمرموزات وبقايا الأحجار والتماثيل والأبنية التى هوت، والسعى إلى استنطاق لحظاتها التى غادرتها منذ سبعة آلاف سنة مضت، ومحاولة استحضارها من تشريح الروح والأنفاس وحركات قلب مصر القديمة الشابة .. كتابة تجرى فيما وراء الهراطيقية والديموطيقية ولغات تتابعت لتصنع أسرارها فيما وراء أعماق اللغة العربية الوافدة، والتى أعطتها نفساً وروحاً مصرية خالصة، وأصبحت لغتنا، كأننا نحن الذين أبدعناها وصورناها، وأغنيناها بعمقنا فى تاريخ اللغات والحضارات. كتابة حاملة لموسيقى الروح، حيث تبدو وكأنها منحوتات خرجت من تواشج العمارة والنحت والموسيقى ولغة المتصوفة وإنشاد المداحين وسلاسة وبلاغة فى خطابات المصريين فى الأسواق والمنازل وفى الأفراح والآلام العميقة كما ينطق بها الجدات والأمهات، والباعة، والعابرون. كاتب وشخصية نسيج وحدها فيها من اللطف والمحبة وعنفوان الصداقة والصرامة وقوة الشخصية والجدية والروح الفكهة الساخرة، حكاء مولع بالحكايات النادرة، وروح المغامرة، ومقاتل لا يلين عندما تمس شخصيته، أو حقاً له مقدرا ومستحقا، وراءه عصامية صلبة وتجربة حياة استثنائية وكفاح مستمر بلا كلل. كتابة الغيطانى ولغته جاءت من الإبحار فى لغة الحجر والعمارة ومن الموسيقى الطالعة من أحجار المعابد القديمة، ومن التماثيل والأيقونات و«قلايات» الرهبان فى الأديرة المصرية، ومن حوائط المساجد العريقة وجماليات منابرها الخشبية ومقرنصاتها وقبابها، ومن توزيعات النور والظل فى تشكيلاتها، ومن فضاءاتها الداخلية، وموسيقى الأذان، وقراءات القرآن الكريم وتلاواته على تعددها، وتنوع أصوات كبار الكبار من المقرئين الذين حملوا فى أصواتهم العذبة الجميلة، حلاوة المقدس وتجليه فى النص رفيع المكانة والمقام. لغة طالعة من إنشاد المنشدين وخشوع الخاشعين، وتضرع الباحثين والطالبين للمغفرة وحسن الثواب. لغة سردية تستقطر روح الشعر وجزالته وتطوره وكثافته واختزاله وحكمته وتمرده وتعدد وجوهه ومعارجه، لغة يكمن فيها عمق الاطلاع والانخلاع والتحرر والخروج من القوالب النمطية فى الصياغة والسرد والجماليات المألوفة. لغة كاتب مقتدر غاص فى بحور الشعر العربى وكبار شعرائه، وعصوره ومدارسه، وفى نثره وسرديات التاريخ المصرى فى جميع مراحله، ومن هنا سر ولعه بلغة المقريزى والجبرتى وسواهما، واستعارته لها فى يوميات شاب عاش منذ ألف عام، عمله الأول الذى كان مفاجأة للحركة الأدبية والنقدية، وحمل لغة خاصة ومعها عوالمها التاريخية ليكتب عن عصره وحالاته، وفى عمله الكبير الزينى بركات. كانت اللغة والشخوص والبنية والفضاءات يعاد بناؤها وتحريكها ببراعة لمواجهة أسئلة القمع والوشاية والكذب والظلم والاستبداد والتسلط فى حياتنا. مصادر متعددة ومتنوعة جاءت من خلالها لغة الغيطانى ومتجاوزة لها وعلى رأسها كتب الصوفية والمتصوفة وتجاربهم الروحية العميقة والمتحررة من أسر الجسدى واللذائذى والحسى والشهوانى والساعية عبر تجربة الوجد فى الوصول والاتحاد! لغة الغيطانى وتجلياته ليست استنساخاً، أو إعادة إنتاج، أو تلاوة من تلاوات النصوص الصوفية وبحورها، وإنما هى تجليات تجربة ووجد، وليست محضُ استعارة لها كقناع من أقنعة اللغة يتكئ عليها لكتابة تجلياته. تجربة حقيقية تطرح أسئلتها الوجودية وساعية للبحث عن إجابات ما لها. الغيطانى أحد أكبر كتاب الرواية العربية، ومن هنا الاحتفاء الغربى بأعماله ونشرها فى أكبر دور النشر الفرنسية على وجه الخصوص مثل دار «سوي». جمال الغيطانى علامة مضيئة فى خريطة الأدب المصرى والعربي، وإنسان جميل لطيف المعشر، محب لمصر ولأصدقائه وللحياة. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح