خلال السبعينيات، وفى مناخ فكرى أوسع أُفقًا، وأهدأ إيقاعًا، لم أجد حرجًا فى أن أعكف سنين عددًا على إعداد أُطروحتى العلمية عن الفيلسوف الشيعى الإيرانى الفَذّ: صدر الدين الشيرازي، خاتمة «الحكماء» الإسلاميين، وآخرهم زمنًا (ت 1050ه) والذى انتهت إليه وراثة الفكر الفلسفى الإسلامى باتجاهاته الرئيسة الثلاث، على اختلاف أنْساقها، وتنوع اتجاهاتها: الاتجاه المشَّائى لدى الفارابّى والشيخ الرئيس ابن سينا، وتلاميذهما المتتابعين؛ والاتجاه الإشراقى العِرفانى لدى شهاب الدين السُّهْروْردي، ومدرسته؛ ثم الاتجاه الذوقى الوجودى الصوفي، الذى يقوم عماده على «وحدة الوجود» عند الشيخ الأكبر: محيى الدين بن عربي، وتلاميذ مدرسته «الأكْبَريِّة» الممتدة زمانًا وإبداعًا وتأثيرًا. حين انتهت تلك الروافد التى قد تبدو متباعدة حِينًا، ومتنافرة حينًا إلى «صدر المتألِّهين» صدر الدين الشيرازي: تناولها الرجل بِيَدٍ صَنَاع، وبصيرة نافذة؛ فلم يقف عند حد زالنقل عنهاس أو الإفادة منها، أو الانحصار فى النظر المذهبى إليها؛ بل تجاوز ذلك كله إلى المزج الخصب بين مُعْطَياتها الفكرية الجوهرية؛ مُشِّيدًا ما يمكن تسميته زنَسَقًاس؛ تَحْكُم مبادئُه الأولي: نهاياتِه القصوي؛ مُقيمًا بنيانه الفكرى على رؤيته التأسيسية «للوجود العام» أو «الأنطولوجيا» بالمصطلح الفلسفي: مرورًا بالطبيعيات الكونية، ثم منها إلى «الإنسانيات» وارتفاعًا منها إلى الإلهيات؛ دون أن تغيب عن نَاظِريْه أصوله التأسيسية ساعة من نهار!! ولئن كان محور الاهتمام الأكبر للشيرازى فى كتبه بأسرها، ولاسيما فى كتابه الرئيس (الأسفار الأربعة) يَنْصَبُّ على قضية «الوجود» بالمعنى الفلسفي؛ فما ذلك إلا لأنه اقتفى خُطى الشيخ الأكبر (ابن عربي) فى فُتُوحاته المكِّية وغيرها فى اتساع آفاق النظر إلى سائر زوجوداتس الموجودات، لا على أنها وجودات فَرْدة مُفَتَّتةً، وكأنها الذرات المتباعدة المتفاصلة المنغلقة على ذواتها أو «المونادات» إذ استعملنا تعبير ليبنتز؛ بل إن الرجلين ابن عربى والشيرازى رغم تباعد عَصْريهما، واختلاف اتجاههما العَقَدي، ومشربهما المَذْهبي: قد ارتفعا بتلك الوجودات المتكثِّرة المفَتَّتة بفرديتها وذَرِّيتها إلى الوجود الواحد، المُشْتَرك الأعمق الذى يَضُمُّها جميعًا وبأسرها فى إهَابِه؛ برغم اختلافاتها وتعدداتها وكثرتها البادية الظاهرة؛ ثم يرتفع الرجلان معًا فوق ذلك إلى أن هذا «الوجود الواحدسلي» مجرد «حاصل جمع» تكرارى آلى فارغ المضمون،أو مجرد «غلاف» مُصْمَت يضم فُتاتًا متناثرًا من الأشتات؛ بل إن هذا الوجود الواحد ذو كيان متفرِّد حافل بالمعانى والدلالات،ينطق حتى فى سكوته ويشير حتى فى صمته إلى أنه ليس وجودًا مُعَلِّقًا فى الفراغ اللانهائي، كما أنه أعنى هذا الوجود الواحد ليس مجرد مادة صَمَّاء خالية من «المعنيس فاقدة» للدلالة،فارغة» من المضمون، بل إنه مَعْبَرٌ ينتهى بالعقل إلى «الوجود الإلهي» الذى يصونه من التفتت والانهيار، ويضمن له «المعني» ويخلع عليه «القيمة» التى ترتفع به عن أن يكون مجرد حشد مُتراكم من الصخور، أو كتلة صمَّاء من الأحجار. ثم إن الرجلين ابن عربى والشيرازى يَرَيَان أن كل انتقال من العدم إلى الوجود بأى صورة من الصور يُمثل تجسيدًا لحركة زحبس الوجود، فلئن كانت الاتجاهات المادية فى الفلسفة قد فهمت الحركة الطبيعية على أنها مجرد انتقال آلى من السكون إلى الحركة، سواءٌ كان ذلك السكون مكانيًا أو زمانيًا؛ فإن الرجلين لا يفهمان الحركة الكونية على أنها مجرد الانتقال المكانى والزمانى فَحسْب، بل على أنها حركة «حُبْ؛ فلي» ثمة حركة فى الكون إلا وهى زحِبِّيةس على حد تعبير ابن عربي،وشُرَّاح كتابه الرفيع زفصوص الحكمس وبهذا الفهم الدقيق الرقيق يرى ابن عربى ويتبعه كثيرون ان انتقال الأكوان من العدم إلى الوجود: إنما هى فى صميمها حركةٌ يُكَلِّلها زالحبس الإلهى بظلاله الوارفة، التى تمتزج فيها الرحمة بالخيرية، والعناية بالإتقان!! والسؤال الجوهرى الآن: أين نحن فى زماننا هذا الذى تشيع فيه نزعات العدوانية، وغرائز المقاتلة من هذه الآفاق السامية المحلّقة فى ذُرى الفِكْر وآفاق الروح، بينما تعيش الأمة هذا الواقع البئيس الذى يطفح بنزعات العدوانية وغرائز المقاتلة، ونتلظَّى بناره اللَّاهِبَة، تلك التى تشعلها أطراف تصب عليها مزيدًا من اللهب؛ وتؤجج وقودها المشتعل، وهى بمنأيً عنه؛ ثم تحصد منافعه حصدًا؛ بينما نكون نحن الخاسرين، بل أكبر الخاسرين؟!! أين تلك الحكمة التى أنفق فيها الرجلان عُمْرَهما: تأصيلًا لخيرية «الوجود» ووِحْدته اللتين تُشكلان منه اللُّحمة والسُّدي؟ أين هذا كله من الحصاد المُرِّ الذى تتجرعه الأمة كلها بل العالم أجمع: شرقه وغربه فى صورة ميليشيات سوداء، تُفسد فى الأرض وتسفك الدماء، وتتصارع فى كل مكان، تقتل براعم الحب، وتَطْمس بذور الخير، وتُهدر معالم الحق والعدل، وسائر المعانى السامية التى جَهِدَ الرجلان فى التأسيس لها والانطلاق منها، تعبيرًا عن زروح الإسلامس الذى جعلها جزءًا من نسيج «الوجود» وكيانه الحي؟ أين ما جَهِدَ فيه هذان الحكيمان: وهما يُؤسسان لروحانية القيم، ويُثريان طموح الإنسانية واستشرافها إلى «الإنسان الكامل» وشوقها إلى الآفاق العليا من المعانى النابضة بالحيوية فكرًا وروحًا ووجدانًا؟ أين تأثيرهما فى إطفاء جذوة الصراع النووى التدميري، الذى يفوح من وثائق الاتفاقيات المشبوهة، ودخان «الصراع» الظاهر والخفي، سعيًا إلى السيطرة على مواطن الثراء، وبَسْط مناطق النفوذ، والشَرَه المْستَعِر الذى يتخفى وراء رايات المذهبية العمياء،والطائفية الشوهاء؛ ويرفعها فوق رايات المحبة والأخوة والأمن والسلام؟ ألا تنبعث أفكاركما أيها الحكيمان الآن من رقدتها فتبُثَّ فى الكون بأسره: روحَ الوجود الواحد،حيث تسرى زفتوحاتس ابن عربي، وسأسفارس الشيرازي، المُؤسَّسة على الأصول القرءانية والسنَّة المُطهرة؛ فَتُزيل غشاوة الأبصار، وزيغ البصائر؟ ألا يُجسِّد صوتكما صوتُ الحكمة والإشراق طوقَ النجاة للإنسانية التى لا منجاة منها إلا بالانعتاق من غرور القوة، والإنصات لأنَّات الجوعَي، وظَلامات البائسين؟ أليس الاهتمام بالهمِّ الإنسانى العام أَوْلَى من إيقاظ الإِحَن التاريخية والمذهبية من رقدتها الماضَويّة التى تُمثْل عبئًا على الحاضر والمستقبل؟ ثم .. أخيرًا: هل تكون هذه الأمانيّ العِذَاب: نفثةَ مَصْدُور، أو صرخةً فى وادٍ، أو نفخةً فى رماد؟ لمزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى