ربما لم تشهد الساحة السياسية المصرية مثل هذا العدد وذلك التنوع من الإضرابات والوقفات الاحتجاجية العمالية منذ ثورة25 يناير2011 إلا إذا عدنا قليلا إلي العقد الأربعيني من القرن الماضي وأحصينا مئات الإضرابات التي نظمها العمال في كل مواقع العمل. , وتحديدا في منطقة شبرا الخيمة. وهو العقد الذي حصل فيه الأجراء الصناعيين والتجاريون حقهم في تشكيل نقاباتهم ولكن بقيود فرضها عليهم القانون وهي عدم تنظيم عمال الزراعة أو تنظيم العاملين في الخدمات المنزلية أو موظفي الحكومة ثم عدم قيام اتحاد عام للنقابات. ولا أناقش هنا تلك الوقفات الاحتجاجية الخاصة بالمطالب التي يرفعها المواطنون العاديون مطالبين بحل مشاكل لا تدخل في صلب علاقات العمل, مثل قطع الطرق بسبب اختفاء أنابيب البوتاجاز أو الوقود اللازم لسيارات النقل في محطات الوقود أو تلك المشاكل المحلية في المحافظات والتي استمرت دون حل لفترات طويلة. ما أعنيه هنا وأركز عليه هي تلك الحركة الجماعية للعمال التي تنظم في اماكن كثيرة وترفع مطالب اقتصادية مثل إضراب المحلة الكبري أو إضراب عمال النقل العام. ثم وهذا مهم أعني هذه الحركات الجماعية المنظمة والمنفذة في غالبيتها الكبري من قيادات عمالية محلية غير تلك المنتخبة في المنظمات النقابية. هذه الحركات الجماعية هي ما أسعي لفهم وطرح أسبابها حتي نضع علاجا لها, ليس بتطبيق قانون حظر الإضرابات, وإنما من خلال وضع قانون ونظام ثابتين وعمليين لحل مثل هذه التحركات قبل وقوعها. في تقديري أن الأعضاء المنتخبين في المنظمات النقابية القاعدية والتي تعمل علي مستوي الوحدات ليسوا جميعا من النقابيين الذين يستحقون النقد أو الهجوم. فبينهم أعضاء جيدون يفهمون دورهم جيدا وحاولوا تغيير آليات العمل التي تقيد حركتهم, ولكنهم لم يستطيعوا. كما أن بينهم أعضاء لا يستحقون تلك المواقع القيادية القاعدية التي يوجدون فيها لأنهم لم يفهموا حقيقة دورهم النقابي الذي هو دور نضالي في الأساس. فقانون النقابات35 لعام1976 الذي صدر في مرحلة يدخل فيها المجتمع المصري توجها رأسماليا تتميز بتفكيك القطاع العام وانسحاب الدولة من عملية التنمية ومنح كل الفرص للمستثمرين. هذا القانون الذي تتقدم الآن عدة جهات لتغييره كان أحد الأسباب الأساسية في تكاثر وتعاظم تلك المشاكل العمالية التي أدت إلي كل هذه الإضرابات والاحتجاجات الجارية الآن. لأن الذين صاغوا هذا القانون لم يعترفوا أن علاقات العمل التي توجد في القطاع العام غير تلك التي توجد في وحدات القطاع الخاص.وأوضح سمات هذا القانون وما سبقه من قوانين, أنها وضعت القيود علي حركة التشكيلات القاعدية أي ما نسميها الآن باللجان النقابية.. فبالرجوع إلي تاريخ حركة النقابات العمالية المصرية منذ أن حصلت علي حقها في التنظيم في بدايات العقد الأربعيني من القرن الماضي لن نجد في هذا التاريخ أهم عناصر نجاح النقابات في تحقيق الاستقرار علي مستويين, الأول هو هذا الاستقرار علي المستوي الإنتاجي أي علي مستوي وحدات العمل, ثم ذلك الآخر علي مستوي المجتمع بحيث لا تقوم الهبات العمالية خارج نطاق النقابات وتحدث تلك الخلخلات التي نشاهدها الآن. هذا العنصر المفقود في تاريخ حركة النقابات العمالية المصرية هو انعدام وجود اتفاقيات عمل جماعية قطاعية تحدد حقوق العمال وواجباتهم, وكذلك حقوق أصحاب الأعمال وواجباتهم علي مستوي القطاع النوعي الصناعي أو التجاري الواحد, خلال فترة زمنية واحدة, تسري علي كل وحدات القطاع كبيرة أو صغيرة, قريبة من الحضر أو بعيدة عنه. لم توقع النقابات العمالية, سواء كانت منظمات قاعدية أو نقابات عامة, اتفاقيات عمل جماعية بينها, كطرف ممثل للعمال, وبين منظمات أصحاب العمل وإدارتهم. قبل صدور القانون91 لعام1959 كانت النقابات العمالية التي حصلت علي حقها التنظيمي في بدايات الأربعينات, تواجه باستمرار عمليات ضغط من أجل عدم التوحد في نقابات عامة. ثم عندما صدر قانون91 تشكلت النقابات, ولكنها واجهت قطاعا اقتصاديا عاما صناعيا وتجاريا قيل, حينذاك, إنه القطاع المملوك للدولة التي هي الضامنة للحقوق العمالية في التوظيف والأجور والتعليم والإسكان والترقيات, فلماذا عقد اتفاقيات عمل مشتركة بين نقابات العمال وإدارات القطاع العام المملوكة للشعب؟ ولم يمنع هذا الموقف من وجود نقابيين علي مستوي الوحدات استمرت تطالب بالتفاوض الجماعي بالرغم من وجودها في داخل إطار علاقات القطاع العام. وقد استمر هذا الموقف القانوني وتدعم بعد صدور القانون35 لعام1976 بالرغم من تغير التوجه الاقتصادي للدولة, ذلك لأنه دعم موقفين قانونيين: الأول هو أنه جمع أو ركز المهام النقابية الأساسية في مستوي النقابات العامة, وهو المستوي الذي يمكن التحكم فيه وضبط حركة أعضائه. وقد تراوحت هذه المهام بدءا من التفاوض الجماعي لتحسين شروط وظروف العمل نهاية بمناقشة التحرك الجماعي الإضراب إلي اتخاذ القرار به ثم قيادته في حالة فشل التفاوض. وفي حقيقة الأمر لم تكن النقابات العامة تقوم بأي من مهامها هذه, فهي لم تقم بعقد اتفاقيات عمل جماعية قطاعية تضع أسس العلاقات المتقاربة في كل الوحدات التي تقع في تخصصها كقطاع, كما أنها لم تكن تسمح للجان النقابية بتحمل مسئولية الإضرابات والوقفات الاحتجاجية ولا مجرد التفكير في عقد اتفاقية عمل مع الإدارة في الوحدة. لذلك كنا نري, ومازلنا نري, إضرابات لعمال ولعاملات ينتمون لذات القطاع الاقتصادي ولكن يتفاوتون ويتنوعون في مطالبهم. الموقف الثاني أن القانون35 لعام1976 حول اللجان النقابية المصنعية إلي ممر للتحويلات المالية للنقابات العامة لأنها, أي اللجان النقابية, كانت تصب فيها اشتراكات العمال لتحول غالبيتها إلي النقابات العامة وهي اشتراكات لا يعلم عدد هائل من العمال أنهم يدفعونها شهريا. وعادة لا يتبقي من هذه الاشتراكات لنشاط اللجان النقابية إلا القليل. فتحولت اللجان النقابية إلي ممر للأموال ومجرد منظمات تقوم بالأنشطة الصغيرة والجهة التي تحل المشاكل اليومية الفردية التي تواجه العمال والعاملات. بالرغم من أن هذه اللجان القاعدية هي أهم حلقات التنظيم النقابي بل هي الحلقة الأساسية لأي تنظيم نقابي, لأنها المستويات التي تتعايش مع كل مشاكل العمال والعاملات بشكل يومي. فاستمرت المشاكل الجماعية تتعاظم وتتكاثر فاقدة للحلول مع اللجان النقابية لأنها لا تملك سلطات التدخل ولا مع النقابات العامة التي لم ترد التدخل. لذلك لم يكن مستغربا أن يخرج العمال والعاملات علي نقاباتهم المصنعية وهي اللجان النقابية التي لم تكن تملك من سلطات مضربين ومنددين بأعضائها. وكذلك لم يكن مستغربا أن يخرج عمال كل وحدة عمل بمطالب تختلف عن مطالب عمال الوحدات الأخري وفي التوقيت الذي يراه العمال والعاملات ملائما. فعاصرنا ذلك الخلل العام الذي لم يتوقف بعد. المزيد من مقالات أمينة شفيق