يمكننا القول دون أدنى تجاوز للحقيقة إن جزءا مهما من تاريخ مصر الحديث قد ارتبط ارتباطا وثيقا بزراعة القطن واقتصاداته، بل ان أحد الأسباب الأساسية للاحتلال البريطانى لمصر فى مطلع القرن العشرين يرجع بالأساس الى هذه المسالة فى علاقتها بمزارع القطن الهندية ومصانع النسيج البريطانية. وشكل هذا المحصول جانبا لا يستهان به فى الوجدان المصرى ككل وليس فقط الفلاح. ولهذا تغنى به الشعراء والمطربون وكان محورا أساسيا للدراما المصرية السينمائية والتليفزيونية والاذاعية، خاصة خلال حقبتى الخمسينات والستينيات من القرن الماضي. من هنا فان تناول هذا الموضوع الحيوى والشائك يجب ان يدرك هذه الأمور ويأخذها فى الحسبان عند وضع الأطر المناسبة للتعامل مع المشكلات الراهنة والنابعة أساسا من عدم مواكبة المحصول لما يحدث من تغيرات وتطورات عالمية وإقليمية تتعلق بصناعة الغزل والنسيج والتى يشكل القطن فيها نحو75% من إجمالى التكلفة باستثناء الاجور. وبالتالى فإن أى تغيرات يتعرض لها سعر القطن أو نظام تسويقه يؤثر بشكل فعال على أسعار بيعه للمغازل ومن ثم على تكلفة الإنتاج فى صناعة الغزل والنسيج والملابس التى تعانى مشكلات عديدة (سوف نفرد لها مقالا آخر بإذن الله). وتشير الإحصاءات الى ان المساحة المزروعة من الاقطان بجميع اصنافها قد هبطت من 993 ألف فدان عام 1990/1991 الى 731 ألف فدان عام 2001/2002 ثم وصلت الى 288 ألف فدان عام 2013/2014. ولذلك هبطت الكميات المنتجة من 5.8 مليون قنطار مترى و6.3 مليون قنطار الى 1.9 مليون قنطار خلال السنوات 1990/1991 و2001/2002 و2013/2014 على التوالي. وذلك رغم ارتفاع إنتاجية الفدان من 5.6 قنطار الى نحو 8 قناطير. هذا مع ملاحظة ان النسبة الأكبر من التراجع كانت فى الاقطان الممتازة حيث تراجع انتاجها من 1.7 مليون قنطار الى 620 ألفا ووصل الى 96 ألف قنطار فقط خلال السنوات سالفة الذكر على الترتيب. ورغم ذلك زادت كميات المخزون منه بصورة كبيرة للغاية اذ تشير الإحصاءات الى ان إجمالى المعروض من الاقطان بكل أنواعها قد وصل الى 3 ملايين قنطار تقريبا عام 2013/2014 (منه نحو 1.9 مليون انتاج محلى وحوالى 918 ألفا استيراد من العالم الخارجى والباقى فضلة الموسم السابق) بينما بلغ إجمالى الطلب نحو 1.3 مليون قنطار مترى (منه 370 ألف قنطار مترى للمغازل المحلية و934 ألفا للتصدير) بفائض يصل الى 1.7 مليون قنطار متري. وهو ما دفع وزير الزراعة الحالى الى اصدار قراره القاضى بحظر استيراد الاقطان من الخارج فى محاولة منه لتصريف المخزون الحالى، وهو القرار الخاطئ تماما من حيث التوقيت والمضمون الامر الذى دفع رئيس الوزراء بتصحيح الأوضاع من جديد والغائه القرار. وهنا تجدر الإشارة الى انه من الصعوبة بمكان اعتماد المغازل المحلية على الاقطان المصرية الممتازة والطويلة لعدة أسباب منها انها لاتلبى احتياجات الصناعات النسيجية والتى تحتاج الى اقطان قصيرة ومتوسطة وذلك فى ضوء الفن التكنولوجى المستخدم فى هذه المصانع، خاصة الموجودة بقطاع الاعمال العام، بل ان استخدام القطن الممتاز والطويل فى هذه المغازل يؤدى الى ضياع هذه الثروة فهو اشبه بمن يضع قطعة من «الجاتوه الفاخز» داخل «رغيف بلدى» ولنا ان نتخيل المنتج النهائى لهذه الخلطة. هذا فضلا عن أثر ذلك على تكلفة الإنتاج حيث يتميز القطن المصرى بارتفاع ثمنه مقارنة بالأسعار العالمية للقطن المستورد، فضلا عن ارتفاع الهالك من هذه الاقطان نتيجة لعدم ملاءمة المغازل المحلية له. فمن المعروف ان القطن المصرى ممتاز وطويل يستخدم فى انتاج الأنواع الفاخرة من الملابس والغزول وهى تلبى طلبات فئات وشرائح مجتمعية ذات الدخل المرتفع جدا، وهو ما يؤدى الى انخفاض الطلب عليها وهنا تشير الإحصاءات الى تراجع الطلب العالمى على هذه النوعية من الاقطان من 7% تقريبا الى 1.2% فقط خلال العام السابق. ويرجع السبب فى ذلك لعاملين أولهما ضيق القاعدة التى تطلب هذه النوعية من المنتجات وثانيهما وهو الأهم ان التطور التكنولوجى لهذه الصناعة أدى لإنتاج هذه النوعية الفاخرة من الاقطان قصيرة التيلة وبالتالى تخفيض التكلفة ومن ثم الأسعار. فضلا عن تراجع الاستهلاك العالمى من الاقطان ككل والذى بلغ نحو 74% من إجمالى المعروض عام 2013/2014 مقابل 81% من المعروض عام 2012/2013، وهو ما تزامن مع توفر ظروف مناخية ملائمة للإنتاج لدى بلدان أمريكا الجنوبية خاصة البرازيل وكذلك زيادة الإنتاج الأسيوى خاصة الصين، مما أدى الى ارتفاع المخزون العالمى بنحو 41% وأصبحت هناك صعوبات كبيرة فى تصريف المنتج المحلى بالأسواق الخارجية ولذلك تراجعت الصادرات المصرية من هذه الأنواع بشدة حيث هبطت من 3.6 مليون قنطار مترى عام 2002/2003 الى اقل من مليون عام 2013/2014. وذلك بعد ان تراجعت الصادرات المصرية الى الأسواق الاسيوية خاصة الهند وباكستان والصين والذين كانوا يستحوذون على نحو 70% من هذه الصادرات وأصبحوا الان لا يحصلون الا على 30% فقط. وقد حاولت الحكومة المصرية التصدى لهذه المشكلة فقررت شراء فضلة الموسم بسعر 1270 جنيها للقنطار وتسليمه للمغازل المحلية بسعر 920 جنيها بدعم مقداره 350 جنيها للقنطار، ورغم قيام العديد من الشركات العامة والخاصة بشراء كميات كبيرة من الاقطان الا إنها لم يتم استهلاكها ككل وظلت هناك كمية لابأس بها من المخزون. وجدير بالذكر ان سعر القطن ظل يتحدد وفقا للسعر الجبرى المحدد من قبل الدولة خلال عقد السبعينيات والثمانينيات. إلا أن الاتجاه نحو تحرير الاسعار مع تطبيق برنامج الاصلاح الاقتصادى منذ اوائل التسعينيات قد اقترن بالاتجاه نحو تحرير اسعار تسليم القطن منذ 94/1995.ولذلك قامت الدولة بتدعيم المزارعين بدءاً من عام 96/1997 بواسطة إنشاء صندوق موازنة أسعارالقطن لتحمل الفروق بين سعر الضمان للحد الادنى للمزارع وسعر التصدير المعلن فى الخارج. وقد ارتفع دعم القطن من 315 مليون جنيه متوقعا عام 2014/2015 الى 825 مليونا فى موازنة 2015/2016 وذلك لتطبيق قرار وزير الزراعة بقيام بنك الائتمان الزراعى بصرف دعم نقدى 1400 جنيه للفدان المزروع قطنا بتكلفة تصل الى 525 مليون جنيه لعدد 375 ألف فدان بالإضافة الى تقديم دعم للمغازل المحلية بمبلغ 300 مليون لقيامها بشراء القطن المصرى بالإضافة الى مساهمة الدولة فى مقاومة افات القطن بتكلفة 60 مليون جنيه. مما سبق يتضح لنا ان الموضوع من الأهمية بمكان بحيث يجب ان يحتل الأولوية القصوى لدى صانع القرار لحسم الإجابة عن التساؤل المحورى والجوهرى وهو هل تستمر مصر فى زراعة الاقطان طويلة التيلة والممتازة ام يجب ان تتحول الى أصناف أخرى قصيرة؟ ان الإجابة عن هذا التساؤل ليست بالبساطة والسهولة التى يتصورها البعض لأنها تتعلق بالمئات من المزارعين الذين اعتادوا على زراعة هذا المحصول من جهة وأيضا مئات المصانع التى لا تحتاج الى هذا المحصول. وهنا نرى انه من الضرورى إعادة النظر فى التوسّع فى زراعة القطن بحيث يتم زيادة المساحة التى يتم زراعتها بالقطن قصير ومتوسط التيلة بدلاً من القطن طويل التيلة وذلك حتى يتم توفير احتياجات الصناعة من القطن.أو على الأقل السماح باستيراد الأقطان (قصيرة التيلة ومتوسطة التيلة) منذ بداية العام دون الحاجة إلى قرار وزاري. مع ضرورة العمل على استنباط سلالات جديدة ذات إنتاجية مرتفعة وجودة عالية تتلاءم مع الطلب المحلى والعالمى وهو ما يتطلب قيام الحكومة بتقديم جميع أوجه الدعم الفنى والمادى للمزارعين للاقبال على زراعة هذه النوعيات الجديدة مع توفير جميع المرافق والخدمات الأساسية اللازمة لإحداث هذه النقلة الهامة فى الزراعة المصرية. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي