على الرغم من الضجة الإعلامية التى تصاحب جولة أوباما الأفريقية الرابعة التى يزور خلالها كلا من كينياوأثيوبيا فإنها تثير العديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام. فما المغزى الحقيقى من وراء الزيارة ؟ ولماذا هاتان الدولتان فى منطقة شرق إفريقيا؟ قد يذهب البعض بقدر من التبسيط الشديد ويقول إنها تهدف للعودة إلى الجذور حيث أرض الأجداد، وهو ما عبرت عنه صحيفة الجارديان البريطانية التى شبهت زيارة أوباما كينيا بزيارة كينيدى التاريخية لأيرلندا. لا أظن التصريحات الصحفية التى أطلقت فى كل من واشنطن ونيروبى وأديس أبابا تساعدنا على قراءة هذه الجولة الافريقية ،والتى ربما تكون الأخيرة للرئيس أوباما بصفته تلك ، بشكل صحيح. ولكى نضع هذه الجولة فى سياق تطور سياسة أوباما الافريقية نطرح ثلاث ملاحظات أساسية: تتمثل الملاحظة الأولى فى أن جولة أوباما فى شرق افريقيا لن تحقق شيئا ملموسا لمصلحة شعوب المنطقة ، وهو ما يعنى أنها تعبر عن انتهازية سياسية واضحة طبقا لمنظور المصلحة الأمريكي. فقد ظلت افريقيا تعانى من مكانتها الهامشية فى منظومة السياسة الخارجية الأمريكية خلال فترة حكم الرئيس أوباما. إنه على عكس الاعتقاد الشائع ركزت إدارة أوباما على آسيا ، وليس أفريقيا، باعتبارها محركا ودافعا لنمو الاقتصاد العالمي. لقد وضعت إدارة أوباما نصب أعينها صعود الصين اقتصاديا وعسكريا من جهة وتأثيرات السياسة الروسية فى ظل قيادة فلاديمير بوتين على دول حلف شمال الأطلنطى والجمهوريات السوفيتية السابقة من جهة أخري. وعليه فقد تم اختزال أفريقيا فى عدد من الاعتبارات الأمنية والمصالح الاقتصادية للولايات المتحدةالأمريكية. أما الملاحظة الثانية فإنها ترتبط بتوقيت الزيارة حيث إن الرئيس أوباما لايمتلك اليوم تأثيرا يذكر على الكونجرس، وهو ما جعل البعض يشبهه بالبطة العرجاء. فعندما جاء إلى السلطة عام 2008 كان حزبه الديمقراطى يسيطر على كل من مجلس الشيوخ ومجلس النواب، ورغم ذلك فإنه لم يتخذ أى اجراءات راديكالية تغير من مسار العلاقات الأمريكية الأفريقية. ففى أول زيارة إفريقية له فى غانا عام 2009 تحدث عن اللحظة الواعدة لأفريقيا الصاعدة . بيد أن هذا الصعود الأفريقى سرعان ما اعترضته يد الإرهاب والفساد سواء بسواء. وترتبط الملاحظة الثالثة بلقاء أوباما والرئيس النيجيرى محمد بوهارى فى البيت الأبيض قبيل أيام من سفره إلى كينيا. يعنى ذلك من وجهة نظر بعض الكتاب أن نيجيريا تعد واقعيا ضمن جولة أوباما الأفريقية ولكن الاعتبارات الأمنية هى التى تحدد طبيعة الدول الأفريقية التى يزورها الرئيس الأمريكي. إذ ينبغى أن تكون بعيدة عن مناطق العنف المسلح وتوفر بيئة آمنة نسبيا. لقد شهدت العلاقات أوباما لنيجيرية الأمريكية تصدعا كبيرا فى نوفمبر 2014 عندما انتقدت أبوجا إدارة أوباما لعدم توفيرها الأسلحة المتقدمة للجيش النيجيرى بحجة عدم احترامه لحقوق الانسان. وعليه فإن لقاء أوباما بوهارى يعنى إعادة ترتيب أولويات الإدارة الأمريكية فى أفريقيا حيث أضحت اعتبارات الأمن والتجارة تأتى فى المقدمة بينما تراجعت قضايا الديمقراطية والحكم الرشيد . من الواضح تماما أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تبنت منهجا واقعيا فى التعامل مع بعض الأنظمة غير الليبرالية التى استطاعت أن تدعم سلطتها فى الداخل والخارج وتتصدى بحسم لمطالب التغيير. ويمكن أن نشير هنا إلى حالات رواندا وأوغندة وتشاد وأثيوبيا.يعنى ذلك أن أوباما يرغب فى مواجهة مكامن العنف والإرهاب فى كل من دولتى السودان والصومال وشمال كينيا وذلك من خلال إقامة تحالف مع أنظمة أفريقية غير ديمقراطية بالأساس. وتمثل القمة الأمريكية الأفريقية الأولى التى عقدت فى واشنطن أواخر أغسطس من العام الماضى نقطة انطلاق حقيقية يمكن من خلالها فهم السياق الجيواستراتيجى لزيارة أوباما شرق أفريقيا.فقد استضاف الرئيس اوباما نحو خمسين زعيم دولة إفريقية بغض النظر عن اعتبارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولعل ذلك يمثل تغيرا حاسما فى الموقف الأمريكى تجاه القارة. لقد أضحت قضايا التجارة والاستثمار لها الأولوية فى حين تراجع منطق العلاقات المعتمدة على تقديم المنح والمساعدات. . وتمتلك كينيا قطاعا خاصا يتميز بالديناميكية والفاعلية ، فضلا عن وجود شريحة كبرى متعلمة ومدربة فى صفوف الطبقة الوسطى تستطيع قيادة النمو الاقتصادى فى البلاد. ومن المقرر أن يستضيف الرئيس أوباما والرئيس أوهورو كينياتا مؤتمر القمة العالمية. وإذا كانت الملاحظات السابقة المرتبطة بزيارة أوباما لشرق أفريقيا واضحة وغير خافية فإن المسكوت عنه هو الذى يعنينا فى مصر والعالم العربي. إذ تحاول الولاياتالمتحدة التى أرهقها التدخل العسكرى المباشر فى كثير من مناطق الصراعات العالمية إعادة تشكيل الخريطة الجيواستراتيجية لكثير من الأقاليم المتوترة ومن بينها الشرق الأوسط وشرق أفريقيا. إنها تحاول المساعدة فى بروز قوى إقليمية جديدة تتولى بالانابة إدارة شئون الأقاليم الموجودة فيها. ولعل هذا هو المأمول من الاتفاق النووى مع ايران . وفى جميع الأحوال فإن ولادة هذه الأقاليم الجيواستراتيجية الجديدة سوف تمثل خصما من النظام الاقليمى العربى حيث تبرز قوى اقليمية غير عربية ( تركياايران اسرائيل أثيوبيا). ولعل ما يحدث فى شرق أفريقيا هو استكمال لهذا المنطق التفكيكي. فأثيوبيا لديها دور مؤثر فى نطاق جماعة « الايجاد» ، وتقوم بدور محورى فى كل من الصومال وجنوب السودان، فضلا عن مكانتها التاريخية المرتبطة بالعمل الأفريقى المشترك. ويمكن فهم هذا الصعود الأثيوبى المدعوم أمريكيا وغربيا من الموقف المتعنت الذى تتخذه أديس أبابا فى مفاوضات سد النهضة مع مصر. إذ على الرغم من الموقف المصرى الداعم للتوصل لحل تفاوضى يراعى مصالح جميع الأطراف وفقا لقاعدة « لاضرر ولاضرار» فإن أثيوبيا لا تزال تعتمد على استراتيجية الخداع والمماطلة. علينا أن ندرك تماما أن أثيوبيا التى تتمتع بدعم غربى تتصرف بحسبانها قوة إقليمية كبري. ولا شك أن هذا التحول ، ولو على مستوى مدركات صانع القرار الأثيوبي، يفرض علينا إعادة النظر فى الإستراتيجيات المتبعة والتفكير فى أدوات جديدة للمناورة والتفاوض بما يحافظ على كل من المكانة والمصالح فى آن واحد. هذا هو الدرس الذى ينبغى أن نخرج به من رحلة أوباما لمناطق أعالى النيل. لمزيد من مقالات د. حمدى عبد الرحمن