عادة ما يعشق الجنرالات نمط الحياة العسكرى، ذا البناء الهيراركى الصارم القائم على انضباط شديد يرتبط لديهم بالقدرة على الإنجاز والحسم. إنه النمط الذى لم يعرفوا غيره، ولا يستطيعون، بسهولة، التكيف مع نقيضه المدني، خصوصا الديمقراطي. فإذا ما اضطروا إلى قبول هذا الأخير فإنهم غالبا ما يختزلونه فى الشكل الإجرائى، تجنبا لجوهره الليبرالى، الحاضن للشخصية الإنسانية بكل مقومات تفردها وتمايزها، رغباتها وميولها، التى تستعصى على التحكم والسيطرة، ولا تقبل الخضوع والإذعان، فهذه المفردات تتبدى للجنرال محض نزعات عبثية، حاملة لبذور تفسخ اجتماعى وفوضى سياسية، يتوجب تنظيمهما ليصير المجتمع متماسكا غير منقسم بين فرقاء متصارعين، ويصير الوطن آمنا غير مخترق من قبل أجانب متآمرين. وهكذا يسعى الجنرال دوما، ولو من دون أن يقصد، إلى التحكم فى الطبيعة الإنسانية تقليصا لعوامل تفردها، وتنميطا للكتلة البشرية التى يحكمها، أى صبها فى وعى بالتجانس لا يأبه بالاختلاف، ينكره أو يرفضه، تحقيقا لأهداف كبرى من ذلك النوع الكلى الذى يتصوره الجنرال ضرورة لشعبه، وذلك من دون استفتاء هذا الشعب، بذريعة أنها أهداف عليا، تحكمها اعتبارات السيادة، فلا يفترض أن يعارضها مواطن وإلا كان غير صالح، يجب اجتثاثه كى يختفى من الصورة، فلا يعدى الآخرين، حيث الجمع هنا يسبق الفرد، والوطن يعلو على الشخص، وإن صار الوطن فى النهاية هو شخص بعينه، امتطى المقعد، وراودته الأحلام، فقام بنفى الجموع. يعتقد الجنرال أن الحاكم القوى يستطيع الجمع بين الاستبداد والعدل، ومن ثم فهو الأمين علي الأمة، القادر على تحقيق صلاحها، بعيدا عن ضغوط نظام ديمقراطى تعددى، يقوم على أحزاب متصارعة، وينطوى على جماعات ضغط متحفزة، أى على فرقاء فى الميول الإيديولوجية، والمواقع الاقتصادية، وكذلك فى رؤية العالم وفى كيفية التعاطى مع الآخرين. هذا الاختلاف يجعل إدارة الشأن العام نتاجا لعمليات مساومة دقيقة، وتفاوض دائم وصدامات مؤقتة تجعل من مهمة اتخاذ القرارات الكبيرة وشق التوجهات الجديدة عملية صعبة وبطيئة، تفرض على القائد المدنى حدودا فى الحركة وقيودا فى الزمن لا يستطيع تخطيها إلا بصعوبة بالغة، وهذا مالا يطيقه الجنرال كونه حاكما إسثنائيا، وقائدا ضروريا، ومالكا حصريا للبصيرة السياسية!. غير أن التاريخ يعطينا، دولا ومجتمعات وأفرادا، درسا رائقا وهو أن الاستبداد لا يكون عادلا أبدا، ولو وجد مستبد واحد عادل فعلا، وكان عهده زاخرا بالرخاء حقا، على منوال الفاروق عمر بن الخطاب، الذى أسس للدولة على قاعدة العدل والشورى والاجتهاد، ولكنه يظل صدفة لا تتكرر كثيرا، ولا يتوجب على مجتمعاتنا انتظارها. أما الاستبداد نفسه فيمثل بنية معقدة، وسياقا ممتدا، يقود إلى الفساد والترهل والضعف والركود، ومن ثم يصير هو الظلم بعينه، وهكذا لا يمكن لحاكم مستبد ولو كان عادلا، أن يقيم مجتمع العدل بدافع قيدين أساسيين: القيد الأول: يتعلق بطبيعة المجتمع الحديث، الموسوم بالاتساع الكبير والقائم على التخصص الشديد، ومن ثم يصعب على الحاكم الفرد ممارسة عدله على نطاق يتسع لكل دولته، فطاقته الإنسانية محدودة، وقدرته على المتابعة ضئيلة. كما أنه غير قادر على فهم جميع الظواهر المحيطة به، واتخاذ القرارت فى كل المشكلات التى تواجهه نتيجة لتقسيم العمل المعقد. ومن ثم فهو إما غير قادر على رؤية كل شىء بنفسه، وإما أنه غير قادر على فهم حقيقة كل ما يراه. وفى الحالين سيكون مضطرا للاستعانة بآخرين سواء لينقلوا إليه ما لم يره بنفسه وهم (رجال السياسة والإدارة). أو ليحللوا له ما استغلق عليه فهمه وهم (رجال العلم والمعرفة). وهكذا يتحول هؤلاء الرجال من الصنفين، إلى حكام حقيقيين، سرعان ما يصطبغون بالبيئة السياسية التى يعملون في سياقها: فهى إما بيئة حرية وسيادة قانون، يصيرون معها نخبة حاكمة جيدة، خشية عقاب القانون ورقابة البرلمان، وسطوة الإعلام الحر، وضغوط الصحافة المستقلة.. وإما بيئة تسلط وفساد، يتحولون فيها، بتأثير غياب الشفافية والرقابة القانونية والبرلمانية الفعالة، إلى بطانة سوء، وجماعة مصلحة، لا تتنافس مع آخرين للفوز بالسلطة، بل تجد السلطة فى يدها، مثل ثمرة يانعة، تقبض على زمامها بسهولة لتدبر بها منافعها. والقيد الثانى يتعلق بالطبيعة الإنسانية المحدودة بالزمن، فالحاكم مهما كان صحيح البدن، له عمر رجل واحد لا يستطيع تجاوزه، ليرثه آخرون، غالبا ما يكون عدلهم أمرا محتملا، يعكس أملا فى صدفة جديد سعيدة غالبا ما تكون نادرة. وفى المقابل، فإن استبداهم يظل أمرا مؤكدا، إذ لم يعرف التاريخ تقريبا حاكما عادلا ورثه آخر أعدل منه، فيما عرف التاريخ كثيرا من الحكام الفاسدين والظالمين ورثهم من هم أفسد وأظلم منهم. فإذا كان عبد الناصر عادلا مع الاستبداد، فقدر ورث السادات استبداده من دون عدله، مع كونه رجل دولة حقيقيا، بينما ورث حسنى مبارك الاستبداد من دون عدل ناصر، ودهاء السادات، فاستحالت مصر ليس فقط بلدا غير ديمقراطى، ولكنه أيضا غير عادل إذ جمع بين ثراء المهراجات، وفقر الشحاذين. بل الأهم من ذلك أنه صار بلدا رخوا، استحال ساحة للمنافسة عليه، يعيش حياته يوما بيوم، على طريقة عمال التراحيل أو الباعة الجائلين، من دون يقين بمستقبل آت، أو تخطيط لغد قادم سوى مشروع التوريث الحزين، الذى كان بمثابة انقلاب على التراث الجمهورى كله، دعا الناس إلى الثورة عليه. درس التاريخ إذن.. أن المستبد العادل ليس إلا صدفة سعيدة تواتى مجتمعا ما فى لحظة ما، لا يتوجب انتظارها، أما العدل فقيمة كبرى يتعين على كل المجتمعات تأسيسها، لتكون ديدنها، ومنارتها الهادية، فتبقى سيدة لنفسها، مالكة لمصيرها، عصية على الغواية والخداع، ولن يكون ذلك إلا بالحرية، حيث القواعد الواضحة تنظم عمل الحاكم والمحكوم، والقوانين الصارمة تضبط المسافة بينهما على الحد الصحيح. غير أن هؤلاء المستبدين، يتصرفون دوما كالمحبين، الذين يتصورون فى بدء علاقتهم أن مشاعرهم غير مسبوقة فى صدقها، ومن ثم سيكون زواجهم استثنائيا فى نجاحه، فإذا بهما بعد قليل أكثر المتزوجين فشلا، وأن عاطفتهم وزواجهم وفشلهم محض حالة تكررت ملايين المرات. وهكذا المستبدون، يتصورون دوما أن استبدادهم سيأتى بعدل استثنائى وازدهار لا مسبوق، فإذا بهم بعد سنوات قليلة يدركون أن الاستبداد واحد، محض آفة بشرية، وأن العدل سنة كونية، قرينة من قرائن الحرية، فهل يتعلم المستبدون ؟. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم