هو العمل الدرامى الأكثر تميزا فى مسلسلات رمضان هذا العام، ليس فقط لجمعه بين نجوم كبار فى التأليف والإخراج والتمثيل, والذين كانوا جميعهم بلا استثناء شديدى الإجادة والإتقان فى أدائهم لأدوارهم مع اختلاف مواقعهم فى العمل, ولكن أيضا لكونه مسلسلا سياسيا بامتياز يتسم بالجرأة ويمتلك رؤية ووجهة نظر ورسالة من خلال تناوله لفترة مهمة وخصبة من تاريخ مصر المعاصر وهى فترة الأربعينيات من القرن الماضى, والتى تعد المحطة الأخيرة للحقبة الليبرالية الأولى من ناحية ولبدايات ثورة يوليو 1952 من ناحية أخرى, أى أنها تقع فى الوسط بين حقبتين وتجربتين سياسيتين مختلفتين. كما أنها مرحلة مليئة بالمتناقضات بحكم التيارات السياسية المتصارعة التى شهدتها من ليبرالية ويسارية وفاشية قومية أو دينية (حركتى مصر الفتاة والاخوان المسلمين) وكان لهذا الصراع وما آل اليه أثره البالغ على مجمل المسار السياسى والاجتماعى والثقافى بعد ذلك, إن لم يكن على تركيبة المجتمع المصرى ككل. اختار د.مدحت العدل - مؤلف العمل - «حارة اليهود» كحى شعبى قديم, يعود انشاؤه إلى منتصف القرن ال 19 مع انشاء حى الموسكى, ويتبع حى الجمالية بعبقه التاريخى الساحرالذى دائما ما تجسده روايات نجيب محفوظ, ومعروف أن هذه الأحياء تعبر بدقة عن الطبقة المتوسطة المصرية الصغيرة - القطاع الأوسع للمصريين - ساكنة المدينة (من حرفيين وتجار وأصحاب محال وصغار ملاك) قبل أن تُكمل رحلتها فى الترقى والانتقال الى أحياء وسط البلد مثل عابدين وباب اللوق ثم الى العباسية ومصر الجديدة وغيرها, وكانت المقاهى جزءا لا يتجزأ من حياتها تعكس من خلال لقاءاتها بها كل ما يدور فى الحياة السياسية مثلما كانت مرآة لأسلوب الحياة المعيشية اليومية والتعاملات بين البشر على اختلاف ألوانهم, لذا فاختيارهذا المكان (حارة اليهود) له رمزيته الشديدة لأنه حى بتركيبته السكانية التى جمعت بين المسلمين والمسيحيين واليهود إنما يرمز للمجتمع بالمعنى الواسع أو مصر كما كانت فى زمن مضى حيث كان التعايش بين أصحاب مختلف الأديان والجنسيات واقعا حقيقيا وليس مجرد شعار يُرفع بين الحين والآخر. أما التركيز على اليهود تحديدا فلا يخل من دلالة أيضا, فبسبب الصراع الطويل بين العرب واسرائيل حول القضية الفلسطينية حدث خلط واضح بين اليهودية ك «ديانة» والموقف من إسرائيل ك «سياسة». والفارق بينهما يفصله خيط رفيع أظهره وحافظ عليه المسلسل ببراعة ملحوظة, ولا شك أن ذلك يُحسب لمؤلفه لأنه اختارأسلوب المعالجة الواقعية وهى الأصعب, فالأكثر سهولة أو «استسهالا» هو تناول الشخصية اليهودية بالطريقة التقليدية التى اعتدناها فى الأعمال الدرامية السابقة التى لا تخرج عن القوالب النمطية سواء من حيث الشكل (لبس القبعة اليهودية) أوأسلوب الحديث أوالطباع الشخصية, أى الأقرب الى الصورة «الكاريكاتورية» التى قد لا تُؤخذ فى النهاية بجدية كى توصل رسالة ما. نفس الشىء ينطبق على النظرة الى المعابد اوأماكن إقامة الشعائر الدينية اليهودية التى لم تعد مقبولة اليوم وتُروى عنها حكايات ربما تخلط بين الحقيقة والخيال مثلما قيل عن احتفالات مولد الحاخام «أبو حصيرة» التى كانت تقام فى مصر منذ عشرات السنين قبل أن يصدر مؤخرا حكما قضائي بمنعها. فى الزمن الماضى كان هناك ما يقرب من ال 13 معبدا يهوديا تُمارس فيه الشعائر دون حساسية أشهرها «ابن ميمون» الذى عرض له المسلسل بصدق وموضوعية, بل وكان لليهود تواجد كبير فى صلب الحياة الاقتصادية والسياسية والفنية المصرية. فقد أسسوا أوائل البنوك (البنك العقارى, والأهلى الذى تحول الى البنك المركزى, والتجارى الذى كان يُعرف ببنك التسليف الفرنسى فضلا عن المساهمة فى بنك طلعت حرب,الذى تأسس كشركة مساهمة مصرية (من خلال يوسف قطاوى الذى انتمى الى أكبر العائلات اليهودية المصرية والتى كان لها - حضور سياسى قوى بجانب الاقتصاد). كذلك الحال فى مجالات أخرى عديدة مثل تجارة الورق والأقمشة والملابس والأثاث (محلات شيكوريل, شملا, شالون, بونتريمولى, جاتينيو, عدس, بنزايون, هانو, ريفولى, عمر أفندى الذى كان يسمى أوروزدى باك, صيدناوى, الصالون الأخضر, وأغلبها مازال يحتفظ بأسمائه) والفنادق (كونتينتال, ميناهاوس, سافوى, سان استيفانو) وفى الصحافة أنشأوا أكثر من 50 صحيفة, وكان يعقوب صنوع من أبرز الأسماء فى هذا المجال الذى اشتُهر باسم «أبو نضارة». أما فى الفن فكانت أيقونة الغناء ليلى مراد وعائلتها منير وزكى مراد, والملحن داوود حسنى والمخرج والمنتج توجو مزراحى الذى يعد من رواد السينما المصرية وهو الذى أنتج فيلم «سلامة» لأم كلثوم (1947), فضلا عن عشرات الأسماء الأخرى المعروفة فى مجال التمثيل (ستيفان روستى, كاميليا، راقية ابراهيم, نجمة ابراهيم, سامية رشدى وغيرهم كثيرون كانوا قاسما مشتركا فى أفلام الأبيض والأسود التى أحببناها).ليس هذا بالطبع تأريخا للوجود اليهودى فى مصر ولكنه عرض لملمح من ملامح التراث الليبرالي الثقافى المصرى الذى اتسم بالتنوع والثراء والتعددية بمعناها الأشمل الذى يتجاوز النطاق السياسى المباشر, فاليهود لم يكونوا سوى جزء من منظومة أكبر احتضنت مواطنين من أصول غير مصرية وجاليات أجنبية من يونانيين وإيطاليين وأرمن وفرنسيين وغيرهم , وهو ما أدى بصورة طبيعية لمزج الثقافتين الشرقية بالغربية لتنتج فى النهاية ثقافة مصرية متميزة ومتسامحة بل شديدة الخصوصية. واذا كان انشاء دولة اسرئيل فى 1948 والحروب الى أعقبتها (عدوان 1956 وحرب 1967) قد أدت الى تقلص وجود اليهود فى مصرإن لم يكن إنهائه بسبب الدورالذى لعبه البعض منهم فى دعم الدولة الجديدة والهجرة اليها وتغير نظرة الدولة اليهم ومعها قطاع واسع من الرأى العام, الا أن التحول من الرأسمالية الى الاشتراكية وما صاحبها من قرارات التأميم فى أوائل الستينيات قد أدت الى تصفية الشركات والمصالح المملوكة للأجانب عموما وليس فقط لليهود. هذه القرارات كانت تعبيرا عن الاستقلال الوطنى الا أن آثارها الجانبية أتت - عن دون قصد - على النمط الثقافى المتنوع المتجاوز للمحلية أوكما يُطلق عليه «الكوزموبوليتان». أما أخطر العوامل التى غيرت ليس فقط من طبيعة الثقافة المصرية بل وفتحت الباب للتطرف ورفض «الآخر» المختلف أيا ما كان, فيتمثل فى فكر جماعة الاخوان وما تفرع عنها من جماعات الاسلام السياسى التى سعت بكل السبل ، بما فيها العنف الذى اضطلعت به منذ الأربعينيات وحتى الآن, لفرض أيديولوجيتها وأفكارها على المجتمع بأسره مستفيدة من المناخ المُفرط فى محليته وانغلاقه. لمزيد من مقالات د . هالة مصطفى