بعد معاناة مع رؤي لطالما قطعت مواعيد عدة للقضاء علي آخر إرهابي، ورؤي أخري بررت العمليات الإرهابية بنجاح المؤتمر الاقتصادي، حتي بات النجاح متهماً!، بالقطع لم يعد الأمر يتيح فرصاً لمواصلة طرح رؤي غير محترفة لم يثبت نجاحها؛ وإن حملت من الوجاهة قدراً يعينها علي بناء قناعات مطلوبة بالفعل؛ بيد أن موضوعية مفتقدة باتت أكثر ضرورة. فقد أوضحت العمليات الإرهابية الأخيرة أن اتجاهاً مُغايراً ينبغي أن تسلكه الدولة في مجابهتها للتحديات والمخاطر المُحدقة بها. فليس إلا استراتيجية وطنية متكاملة، تستوعب الكثير من الرؤي الوطنية المتشعبة والمشتتة، فضلاً على استلهام الدروس من التجارب الدولية ذات الصلة بسُبل مواجهة الدولة المعاصرة لكل ما يهدد بقاءها، فيما يمكن أن نؤسس من خلاله لعقيدة وطنية حاكمة لمسيرة الوطن صوب تجسيد مبادئ وأهداف ثورته. فواقع الأمر أن جهوداً شتي تُبذل من جانب مؤسسات الدولة، علي مختلف الصعد، دون أن نلمس اتساقاً وتناغماً يشير إلي وجود استراتيجية متكاملة تستجمع جميع مقومات الدولة المصرية، ومختلف عناصر قوتها الشاملة. في هذا الإطار، ينبغي أن تدرك الدولة كيف أن أمنها القومي لم يعد مرتبطاً بحدودها الجغرافية؛ ومن ثم فجهود حماية الأمن القومي للوطن ينبغي أن تطال مناطق بعيدة تنطلق منها موجات الإرهاب، بأشكالها المختلفة، المسلحة والاقتصادية، والسياسية كذلك. ولو أن استيعاباً علي هذا النحو شكل قناعات حقيقية لدينا؛ ومن ثم جري العمل بموجبه، لما استمرت ممارسات منظمة حماس، ولا نقول غزة، تشكل تهديداً متواصلاً، ولما وصلت الأمور في ليبيا إلي حد أن خلت الساحة الليبية الملاصقة، من دور مصري فاعل إزاء تحولها إلي متجر كبير ومفتوح لشتي أنواع الأسلحة، فضلاً على المليشيات الواردة من هنا وهناك. ولعل من أبرز مهام الاستراتيجية الوطنية المطلوبة، توحيد الفكر الحاكم لسلوك الدولة طالما استند علي عقيدة وطنية مدروسة بعناية؛ فكما تسعي الدولة إلي «تسريع» المحاكمات لتشكل ردعاً مطلوباً، فقد بات علينا أن ندرك سبيلاً إلي ذلك للتعامل مع المخاطر الواردة من الجهات الحدودية، خاصة من جهة غزة وليبيا، فلا يحد من حركتنا في هذا الاتجاه انتظار «موافقات»؛ فقد سقطت أقنعة كثيرة أسفرت عن حقيقة ما نواجهه من حرب لا تستهدف أقل من الإجهاز علي الدولة، وليس النظام الحاكم، أو مجرد إضعاف الدور الإقليمي للدولة المصرية. من جانب آخر، لا يعد الإعلام، بوجهه الحالي، معبراً عن مسئوليته الوطنية المتعاظمة، فما زالت قضايا فرعية تشغلنا، ومساجلات واسعة لا تتبني القضايا الأساسية للوطن؛ ومن ثم لا ينبغي أن تخلو الاستراتيجية الوطنية من محور إعلامي من شأنه بلورة وعي عام بخطورة الأوضاع التي يواجهها الوطن، مع بيان للدور المطلوب من «الجبهة الداخلية»، خاصة وقد نفذ إليها أعداء الوطن؛ ففي ذلك استبعاد لكثير من التفاصيل الحياتية التي تتشتت حولها جهود الدولة، خصماً من حتمية توحيد الجهود في مواجهة أعداء الوطن. وسياسياً، لا يمكن الزعم بأن الوطن يعاني عدم استقرار سياسي، وهي نغمة تصاعدت للأسف في الأيام الأخيرة، ترويجاً للأمر باعتباره أحد أسباب تصاعد العمليات الإرهابية؛ ولعل في ذلك إشارة إلي حجم معاناة الوطن جراء الكثير من «الرؤي» غير المسئولة، فغياب البرلمان، وإن كان مكوناً دستورياً مهما لم نكن نفضل تأخره إلي الآن، إلا أنه لا يعد عامل هدم لاستقرار الدولة الذي تحقق خلال العام الأول من حكم الرئيس السيسي. ويبقي في الجانب السياسي، أن يدرك أطراف العملية السياسية حجم مسئولياتهم الوطنية في المرحلة الراهنة، فتعلو المصلحة الوطنية علي منافع صغيرة تضيق عن استيعاب المصالح الوطنية العليا؛ ومن ثم ينتظر الوطن وعياً أكبر بموجبه تقدم الأحزاب والقوي السياسية رؤاها السياسية للدولة الجديدة، من خلال برامج جادة لا تسعي إلي البحث عن مقاعد برلمانية هربت، ولا ملاحقة لمكاسب سياسية تهاوت، ليبقي خطابها السياسي فارغاً من مضمونه الوطني. وفي الشق الاقتصادي، تشير اللحظة الراهنة إلي ضرورة إجراء مراجعات للأولويات المدرجة علي أجندة الدولة، لتتراجع مشروعات تداعب المشاعر والآمال علي نحو يزيد كثيراً على قدرتها علي تلبية الاحتياجات الضرورية لمجتمع يواجه حرب بقاء؛ وعليه فموارد أكبر ينبغي أن تخصص لكل ما من شأنه دعم قوة الدولة في مواجهة تحدياتها، مع التذكير الدائم بمقومات القوة الشاملة للدولة، إذ لم تعد القوة العسكرية والاقتصادية والكتلة السكانية، بدائل عن القوة التكنولوجية والعلمية والإعلامية وغيرها مما يمكن أن تستنهض به الدولة مكونات لم تقدم دورها الطبيعي حتي الآن. لتبقي للقوة الأمنية أولوية مُستحقة، ومراجعات حاسمة أجدر بها أبناؤها، لا شك أنها تجري بالفعل، لتواصل تقديم نموذجها الحي والفريد، وقد استحقت بموجبه موقعها الأثير الباقي في الضمير الوطني، لطالما عجزت مؤامرات الداخل والخارج عن النيل منه. لمزيد من مقالات عصام شيحة