التواضع صفةٌ عظيمة وسلوك يُرضي الله تعالى، وخُلق تربى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أمره الله تعالى به فقال عز مِن قائل: «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ»، وقال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ»، وهو خلق ربَّى عليه الأنبياء والصالحون أبناءهم، فهذا لقمان يعظ ابنه بقوله: «وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ»، بل هو فضيلة امتدح الله تعالى المتصفين بها من المؤمنين فقال عز وجل: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا». ولقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى التحلي بصفة التواضع حين قال: «إنَّ الله أوحى إليَّ أن تَواضَعُوا، حتى لا يَبغِي أحدٌ على أحدٍ، ولا يفخَرَ أحدٌ على أحدٍ»، وهذا لما لفضيلة التواضع من أثر عظيم في نفوس المسلمين، ولما يحدثه من ألفة بينهم، حيث ينزع من القلوب الغل والحقد والمشاحنة، ويخلق مجتمعًا منسجمًا فيما بينه، كبيره يعطف على صغيره، وغنيه ينفق على فقيره، ويقبل الأعلى ممن هو دونه الرأي والمشورة إن كان الرأي سديدًا فلا يمنعه الكبر عن الأخذ به، فقد قال بعض السلف: التواضع أن تقبل الحقَّ من كل من جاء به، وإن كان صغيرًا، فمن قبل الحق ممن جاء به، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، وسواء كان يحبه أو لا يحبه، فهو متواضع، ومن أبى قبول الحق تعاظمًا عليه، فهو متكبر. ولقد سئل الفضيل بن عياض عن التواضع؟ فقال: يخضع للحق، وينقاد له، ويقبله ممن قاله. فالتواضع يعني التذلل لله والتلطف مع الخلق، وبمعنى آخر هو التخلي عن التكبر والاغترار بالنفس والخيلاء والعجب، والتحلي بالسكينة والوقار في غير تكبر ولا استعلاء قال تعالى: «وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا»، وأشار ابن القيم إلى أن معناه: أن يتواضع العبد لصولة الحق؛ يعني: أن يتلقى سلطان الحق بالخضوع له، والذل، والانقياد، والدخول تحت رقه؛ بحيث يكون الحق متصرفًا فيه تصرف المالك في مملوكه، فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع، ولهذا فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بضده. فقال: «الكبر بطر الحق، وغمط الناس»، فبطر الحق: رده وجحده، والدفع في صدره، كدفع الصائل، وغمط الناس: احتقارهم وازدراؤهم. ومتى احتقرهم وازدراهم: منع حقوقهم. وجحدها، واستهان بها. فعن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس». ولقد ذُكر عن سفيان الثوري رحمه الله، أنه قال: أعز الخلق خمسة أنفس: عالم زاهد، وفقيه صوفي، وغني متواضع، وفقير شاكر، وشريف سَني، وقال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها. هكذا كان يفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم عندما يخالج قلوبهم شيء من كبر، كانوا يسارعون إلى لفظه خارج أنفسهم مخافة الزلل. بذلك ربى الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وهكذا تربى أصحابه، وهذا ما ينبغي أن نوطن عليه أنفسنا وننشئ على منهجه أبناءنا، لنجد مجتمعًا تخلو من أركانه آثار الكبر المهلك، ويشيع على أرضه المحبة والألفة اللذان هما أساس التعاون والتكامل وبناء الحضارات واستقرار المجتمعات . مفتى الجمهورية لمزيد من مقالات د شوقى علام