لا شك أن حرص الإنسان على أجله ورزقه هو الشغل الشاغل الذى يسيطر على عقله وقلبه، بل هو الهم الأول الذى من اجله يعمل الناس.. وهذه فطرة الله التى فطر الناس عليها، لا إنكار فى الأمر ولا مجال للمزايدة عليه. لكن مجال الإنكار على المسلم الحق، هو انشغاله بالتفكير فى هذين الأمرين وما يستتبعهما، وامتلاك هذا التفكير على قلبه وعقله بالكلية، بل وما يتبع هذا التفكير المرضى من أفعال تتنافى وصحيح الدين، فيكذب ظنا منه أنه بذلك يزيد رزقه، وينافق ويعادي، بل ويقاتل ويصارع من أجل هذا الأمر!! لكن المسلم الحق ينبغى أن يدرك أن مهمته الأولى فى الدنيا هى العبادة، وأن حرصه على الرزق أو الأجل ينبغى ان يكون خادما لهذه الفكرة لا مصادما لها، ولذا فإن رب العزة جل وعلا قد حدد للمسلمين بل وللناس جميعا تلك المهمة حين قال سبحانه: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). وأنا أوجه الخطاب هنا للصائمين على وجه التحديد، أنت أيها الصائم، يا من وثقت فى امر ربك وامتثلت له، وصمت عن الحرام وعن الشهوات، بطنا وفرجا ولسانا وعينا، كل الجوارح.. لماذا لا يصوم قلبك وعقلك عن هذا الحرص المبالغ فيه على هذه الدنيا؟ اتظن أن بإمكانك الحصول على رزق أكثر مما قسم الله لك؟ أتظن أن بإمكانك إذا نافقت من هو اعلى منك غنيا كان او صاحب سلطة.. اتظن أنه يمكن أن يزيد فى رزقك أو ينقص؟! اتظن أيها المسلم الصائم أنك ستحصل على اكثر مما قسم الله لك بما تسميه أنت شطارة وهو غش وتدليس ونفاق؟! إن ثقتك فى قدرة ربك وفى انه صاحب التصرف الوحيد فى هذا الكون، وفى انه مالك الارزاق.. خزائن الدنيا والآخرة بيده.. هذه الثقة إذا ما تمكنت من قلبك، زالت عنك هموم الدنيا ووحشتها، زال عنك هذا التفكير الذى يقض مضجعك ليلا ونهارا، تفكيرك فى الغد، تفكيرك فى مستقبل أبنائك الذى تريد أن تؤمنه حسب تعبير كثير من الناس.. ونسى هؤلاء أن الغد والمستقبل بيد الله عز وجل، وأن الإنسان ما عليه إلا أن يأخذ بأسباب الدنيا، فرزقه معلوم واجله محتوم. واستمع إلى ربك وهو يطمئنك على رزقك الذى يشغلك ويقول جل شأنه: (وفى السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما انكم تنطقون). المسألة إذن محسومة.. ويؤكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: ( إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله)، وفى الحديث الذى رواه الطبرانى فى الاوسط عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو فر أحدكم من رزقه أدركه كما يدركه الموت. وللثقة فى الله أشكال كثيرة يحتاجها المسلم ليحيا حياة طيبة، بلا هموم ولا منغصات، والنوع الفردى منها هو ما أسلفنا الحديث عنه فى الدقائق السابقة.. ان يثق المسلم فى أن رزقه بيد خالقه، فلا يحزن ولا يخش أحدا إلا ربه جل وعلا. وهناك نوع أجل وأعلى، وهو الثقة فى قدرة الله المطلقة، وفى انه سبحانه ناصر دينه، ومؤيد عباده الصالحين، وهذا المعنى يحتاجه الفرد ويحتاجه المجتمع حين تدلهم الخطوب، وتحاصره المحن والشرور، وتتجمع عليه الاعداء من كل حدب وصوب، فتعلو ساعتها أصوات اهل الباطل، وينخرون كالسوس فى عظام الامة، يثبطونها، ويسودون الصورة أمام أعينها، لكن الواثقين فى قدرة ربهم يقفون بالمرصاد، ويحاولون توجيه بوصلة الرؤية لدى الأمة نحو قدرته سبحانه، وأنه المتصرف الوحيد، وأنه مالك الملك، وأنه لاراد لقضائه ولا معقب لحكمه، وأن الارض أرضه يورثها من يشاء من عباده، وأن الملك ملكه يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء.. جل شأن الله. وقد حفل القرآن الكريم بكثير من الإشارات التى تحمل الامة على هذه الثقة حملا، وتظهر التجارب السابقة أمام اعينها وكأنها دليل على قدرة الله جل وعلا إن احتاج الناس لدليل! فهذه أم موسى عليه السلام، يأمرها ربها، إلهاما أو وحيا بغض النظر، لكنها تثق فى الامر، وتثق فى ان الله لن يضيعها، فيقول سبحانه: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).وهذه هاجر عليها السلام، حينما يتركها إبراهيم ووليدها فى صحراء قاحلة، لا زرع ولا ماء ولا بشر.. وتسأله سؤالا مباشرا آالله امرك بهذا؟ فقال نعم، قالت إذن لن يضيعنا.. إن الله لا يضيع اهله.. نعم. اهل الله هم الموقنون به، الواثقون فيه، المستمسكون بشرعه، أهل الله هم أولئك الذين يثقون بما عند الله اكثر من ثقتهم بانفسهم، اهل الله لن يضيعوا أبدا حتى لو اجتمعت عليهم كل قوى الشر فى الدنيا، لأن الله يحميهم، ولأن الله يقف معهم، وهم بذلك يوقنون وعليه يتوكلون. ومن وثق بالله كذلك نجاه من كل كرب أهمه (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) لمزيد من مقالات د شوقى علام