التوكل علي الله في الأمر كله من واجبات الإيمان. ومن مقتضي التسليم للرحمن. وليس معني التوكل ترك الأسباب. بل إن الأخذ بالأسباب من تمام التوكل. ثم إن الأسباب تنقسم إلي: مادية. ودينية. فالأولي: تقع للمسلم والكافر. والثانية: لا تقع إلا لأولياء الله. وهي كثيرة ومتعددة. وقد دل عليها الشرع وصدقها الواقع. فكم من قصص واقعية صدقت ذلك. سواء في الزمان المتقدم أو في وقتنا الحاضر. حقيقة التوكلپ روي الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وغيرهم بسند صحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "لو أنكم توكلون علي الله حق توكله» لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً". تدبر معي كلام النبي صلي الله عليه وسلم مرة أخري: "تغدوا خماصاً". أي: تخرج في الصباح الباكر وبطونها فارغة. لا تملك إدارة ولا تملك كمبيوتر ولا تملك إنترنت. "وتروح بطاناً". أي: ترجع في وقت الروحة وقد رزقها الرزاق ذو القوة المتين. وجوب التوكل علي الله مع وجوب الأخذ بالأسبابپ فحقيقة التوكل أن نأخذ بالأسباب. وأن تكون قلوبنا في الوقت ذاته معلقة بمسبب الأسباب. إذ إن الأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع ولا ترزق ولا تمنع إلا بأمر مسبب الأسباب. فالمؤمن يأخذ بالسبب. ويعلق قلبه بمسبب السبب. فإن تيسر أمر فبتيسيره. وإن تعسر أمر فبتقديره. وأنا لا أعلم الآن أمة قد ضيعت قانون السببية كأمة سيد البشرية. ولا حول ولا قوة إلا بالله. فالأمة الآن متواكلة إلا من رحم ربك جل وعلا. إذ إن الأمة قد ضيعت الأسباب وظنت أنها لعلاقتها بالله تبارك وتعالي. وبنسبتها للنبي صلي الله عليه وسلم -دون أن تأخذ بالأسباب - ظنت أن الله سينصرها! ولله سنن ربانية في الكون لا تتبدل ولا تتغير. ولا تحابي هذه السنن أحداً من الخلق بحال. مهما ادعي لنفسه من مقومات المحاباة. فالمصطفي كان قائد المعركة في أحد. فلما تخلي بعض أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم عن أسباب النصر كانت الهزيمة. إن لله سنناً ربانية في الكون لا تتبدل ولا تتغير. ولا تحابي تلك السنن أحداً من الخلق بحال. مهما ادعي لنفسه من مقومات المحاباة. فالتوكل علي الله أن نأخذ بالأسباب: أن نأخذ بأسباب القوة. وأن نأخذ بأسباب النصر. وأن نأخذ بأسباب العزة والاستخلاف والتمكين. وأن نعلق قلوبنا بمسبب الأسباب لا بالأسباب. وهذا هو الفارق بين المؤمن الذي وحد الله جل جلاله. وبين الكافر الذي يأخذ بالأسباب ولا يعلق قلبه إلا بالأسباب فقط. فحقيقة التوكل صدق اعتماد القلب علي الله مع الأخذ بالأسباب. فالتوكل هو جماع الإيمان. وهو نهاية تحقيق التوحيد. قال سهل بن عبد الله التستري: من طعن في الأسباب فقد طعن في السنة. ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان. فالدخول في الأسباب سنة النبي صلي الله عليه وسلم. والتوكل حال النبي صلي الله عليه وسلم. فمن عمل علي سنته فلا يتركن حاله. فسيد المتوكلين هو رسول الله. ومع ذلك ظاهر يوم أحد بين درعين. واستأجر يوم الهجرة دليلاً مشركاً ليدله علي طريق الهجرة. وهو الصادق الذي هدي الله به العالمين. وكان يدخر القوت لأهل بيته. وكان إذا سافر للجهاد والحج والعمرة حمل الزاد والمزاد وهو صاحب القلب الذي لم يتعلق قط إلا بالله رب العالمين. پفضل التوكل والمتوكلينپپپپ فهذه هي حقيقة التوكل ومن ثم أمر الله نبيه صلي الله عليه وسلم بتحقيق التوكل فقال: وَتَوَكَّلْ عَلَي الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ "الفرقان:58". وقال تعالي: فَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ إِنَّكَ عَلَي الْحَقِّ الْمُبِينِ "النمل:79". وقال تعالي: وَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ وَكَفَي بِاللَّهِ وَكِيلًا "الأحزاب:3". وقال تعالي: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ "آل عمران:159". وأثني علي أنبيائه ورسله الذين حققوا التوكل فقالوا: "وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا" "إبراهيم:12". وأثني علي أوليائه الذين قالوا: "رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" "الممتحنة:4". وأثني علي أصحاب النبي "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةي مِنَ اللَّهِ وَفَضْلي لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءى" "آل عمران:173-174". وأمر المؤمنين بتحقيق التوكل فقال سبحانه: "وَعَلَي اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" "آل عمران:122". وجعل التوكل ثمرة حتمية للإيمان به سبحانه فقال جل وعلا: "وَعَلَي اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ" "المائدة:23". هذا هو التوكل وهذه حقيقته. هذا هو التوكل الذي جعله المصطفي ثمرة كريمة من ثمار الإيمان. وجعله المصطفي سبباً رئيسياً من أسباب الرزق. الرزق ثمرة التوكلپپپ وهذا هو عنصرنا الثاني: الرزق ثمرة التوكل. ونبدأ بالمفهوم الشامل للرزق قال ابن منظور في لسان العرب: الرزق هو ما تقوم به حياة كل كائن حي. مادياً كان أو معنوياً. وكثير من الناس يظن أن الرزق هو المال فقط. وهذا فهم قاصر وخاطئ. فالرزق أوسع مدلولاً من المال. فالإيمان رزق. وحب النبي صلي الله عليه وسلم رزق. وحب الصحابة رزق. وحب آل بيت النبي صلي الله عليه وسلم رزق. واليقين رزق. والتوكل علي الله رزق. والخوف من الله رزق. والإنابة رزق. والتوبة رزق. والحلم رزق. والحكمة رزق. والعلم رزق. ومحبة الناس لك رزق. والزوجة الصالحة رزق. والذرية الطيبة رزق. والمال رزق. والذي يرزق كل هذه الأرزاق هو الرزاق. قال تعالي: "وَمَا مِنْ دَابَّةي فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَي اللَّهِ رِزْقُهَا" "هود:6". لا علي أوروبا ولا علي أمريكا. لا علي شرق ملحد ولا علي غرب كافر. "وَمَا مِنْ دَابَّةي فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَي اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلّى فِي كِتَابي مُبِيني" "هود:6". جلس إبراهيم بن أدهم ليأكل بعض قطع اللحم المشوي. فجاءت قطة فخطفت قطعة لحم وجرت. فقام وراءها ليراقب هذا الموقف. فوجد القطة قد وضعت قطعة اللحم أمام جحر في باطن الأرض في مكان مهجور ثم انصرفت. فازداد عجبه! وفجأة رأي ثعبان أعمي يخرج من هذا الجحر ليجر قطعة اللحم إلي جحره. فرفع إبراهيم رأسه إلي السماء وقال: سبحانك يا من سخرت الأعداء يرزق بعضهم بعضاً. "وَمَا مِنْ دَابَّةي فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَي اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلّى فِي كِتَابي مُبِيني" "هود:6". وقال تعالي: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ "الذاريات:22". كيف ذلك والزرع في الأرض. والضرع في الأرض. والإدارة في الأرض. والشركات في الأرض. والوظيفة في الأرض. والله جل وعلا يقول: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ "الذاريات:22"؟! لتعلم يقيناً أن كل ما تملكه في الأرض إنما هو الأسباب. والأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع. ولا ترزق ولا تمنع إلا بأمر من استوي علي العرش. "وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقّى مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ" "الذاريات:22-23". سمع الآية الكريمة أعرابي فقال: من ذا الذي أغضب الكريم حتي يقسم؟ كيفية تحقيق التوكلپ سئل حاتم الأصم فقيل له: يا حاتم ! كيف حققت التوكل؟ سؤال جميل يحتاجه كل واحد منا. فقال حاتم الأصم وهو من سادة المتوكلين من التابعين: حققت التوكل علي الله بأربع خصال. قيل له: ما هي؟ قال: علمت بأن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي. وعلمت بأن عملي لا يعمله غيري فانشغلت به. وعلمت بأن الله مطلع علي فاستحييت أن يراني علي معصية. وعلمت بأن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء الله. هؤلاء هم المتوكلون. "وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقّى مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ" "الذاريات:22-23". ولكن الله جل جلاله لحكمته وكمال مشيئته قدر الرزق. وقدر للزرق أسباباً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه: ما من شيء في الدنيا ولا في الآخرة إلا بسبب. والله خالق الأسباب والمسببات. للحديث بقية إن شاء الله