وزير الصحة يلتقي نظيره السوداني لبحث أوجه التعاون المشترك    الجامعة البريطانية تحتفل بتخرج الدفعة الثانية من برنامج زمالة زراعة الأسنان    «العالمية لتصنيع مهمات الحفر» تضيف تعاقدات جديدة ب215 مليون دولار خلال 2024    تراجع أسعار الذهب في مصر بقيمة 20 جنيهًا    السيسي يصدق على ربط الحساب الختامي لموازنة هيئة التنمية السياحية 2023-2024    السيسي يبحث مع رئيس وزراء بريطانيا تعزيز التعاون المشترك بمختلف المجالات    الزمالك يكشف تطورات شكوى ميشالاك وجوميز    فيرنانديز يثير التكهنات حول مستقبله مع مانشستر يونايتد    «تنفيذ الوعد».. قرار هام من مجلس الزمالك للاعبين    أدى لإصابة 16 شخصًا.. النيابة العامة تحقق في حادث انقلاب ميكروباص بشمال سيناء    ضبط عصابة تخصصت في جلب المخدرات بحوزتهم مواد ب27 مليون جنيه في الإسماعيلية    الأمن يضبط 8 أطنان أسمدة زراعية مجهولة المصدر في المنوفية    تموين البحيرة: ضبط 2214 أسطوانة غاز منزلية بأبو المطامير قبل بيعها بالسوق السوداء    أدعية دخول الامتحان.. أفضل الأدعية لتسهيل الحفظ والفهم    بمناسبة اليوم العالمي ل«نظافة الأيدي».. المستشفيات الجامعية تنظم احتفالية    مجلس وزراء الصحة العرب يؤكد دعمه للقطاع الصحي الفلسطيني    المؤتمر: تعديلات قوانين الانتخابات استجابة للواقع الديموجرافي الجديد    "وسطاء فقط".. مفاجأة بشأن رحيل إمام عاشور للدوري السعودي    كرة يد - إنجاز تاريخي.. سيدات الأهلي إلى نهائي كأس الكؤوس للمرة الأولى    "طيب وبعدين؟ ده انتوا ملحقتوش".. شوبير يحذر الزمالك بعد الشكوى الجديدة    الرئيس يوجه باتخاذ كل ما يلزم من إجراءات بشكل مسبق لضمان استقرار التغذية الكهربائية    زلزال يضرب بني سويف دون خسائر أو إصابات    أوروجواي تستدعي السفيرة الإسرائيلية بعد الهجوم على دبلوماسيين في جنين    أمريكا ستتحمل المسؤولية.. إيران تحذر من نوايا إسرائيلية للهجوم على منشآتها النووية    3 مصابين في حريق منزل بالشرقية    ماتت تحت الأنقاض.. مصرع طفلة في انهيار منزل بسوهاج    رئيس المنطقة الأزهرية بالمنوفية يتابع امتحانات الشفوي لمعاهد القراءات بشبين الكوم    برنامج "فضفضت أوى" يتصدر الأكثر مشاهدة على Watch it بعد عرض حلقته الأولي    مملكة الحرير على "ON" قريبا    أول تعليق من مايان السيد بعد تكريمها من السيدة انتصار السيسي في احتفالية "أسرتي.. قوتي"    مكتبة الإسكندرية تحتفل باليوم العالمي للمتاحف    مهرجان كان، إيل فانينج تخطف الأنظار في جلسة تصوير فيلم Sentimental Value    بدلة فريدة وإطلالة عصرية.. «مسلم» يخطف الأنظار في حفل زفافه (صور)    الجوازات السعودية تكشف حقيقة إعفاء مواليد المملكة من رسوم المرافقين لعام 2025    أمين الفتوى: هذا سبب زيادة حدوث الزلازل    الأزهر للفتوى يوضح أحكام المرأة في الحج    خالد الجندي: يوضح حكم الصلاة في المساجد التي تضم أضرحة؟    رئيس مصلحة الضرائب: إصلاحات ضريبية شاملة لدمج الاقتصاد غير الرسمي    بحوث "مباشر" تحدد القيمة العادلة لسهم "بنيان" عند 7.94 جنيه    وزير الصحة يبحث دعم تصنيع اللقاحات والتوسع في خدمات التطعيم بأفريقيا    الدكتور محمد خليل رئيسًا لفرع التأمين الصحي في كفر الشيخ    الجامعة البريطانية تحتفل بتخرج الدفعة الثانية من برنامج زمالة زراعة الأسنان    وزير الداخلية الفرنسي يأمر بتعزيز المراقبة الأمنية في المواقع المرتبطة باليهود بالبلاد    إعلام عبري: إسرائيل تستعد للسيطرة على 75% من أراضي غزة    «سلوكك مرآتك على الطريق».. حملة توعوية جديدة لمجمع البحوث الإسلامية    «القومي للمرأة»: استحداث اختصاص اضافي للجنة البحث العلمي    سون هيونج مين يقود توتنهام لتحقيق لقب الدوري الأوروبي ويصف نفسه ب"أسطورة ليوم واحد"    مباشر مباراة الأهلي والمنتدى المغربي في نصف نهائي الكؤوس الأفريقية لكرة اليد    وزير البيئة: ربط التنوع البيولوجي بأهداف التنمية المستدامة أولوية قصوى    الكشف عن اسم وألقاب صاحب مقبرة Kampp23 بمنطقة العساسيف بالبر الغربي بالأقصر    وزارة الخارجية تشارك فى تدشين مسارات مستدامة لأول مرة بمطار القاهرة    الزراعة : تعزيز الاستقرار الوبائي في المحافظات وتحصين أكثر من 4.5 مليون طائر منذ 2025    راتب 28 ألف جنيه شهريًا.. بدء اختبارات المُتقدمين لوظيفة عمال زراعة بالأردن    محافظ القاهرة يُسلّم تأشيرات ل179 حاجًا (تفاصيل)    «فولكانو ديسكفري»: نشاط زلزالي محتمل في الإسكندرية أو القرب منها    طلاب الصف الأول الثانوي يؤدون اليوم امتحان العلوم المتكاملة بالدقهلية    هبة مجدي بعد تكريمها من السيدة انتصار السيسي: فرحت من قلبي    حكم من يحج وتارك للصلاة.. دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التعليم الذى نريد

شخصية المتعلم كالنبات بحاجة إلى الغذاء والهواء الطلق.. والفرصة للتعبير بعيدا عن التخويف والقهر والاضطهاد لن أكسر مِغْزلي.. هي عبارة منسوبة إلي الإمام أبو حامد الغزالي، الذي قيل أن اسمه هذا كان نسبة إلي اشتغاله فترة من الوقت بغزل الصوف، ولما اشتد عليه الهجوم من البعض،
قال بهذه المقولة تعبيرا عن موقف مقاوِم يرفض الاستسلام لضغوط تستهدف التوقف عن التعبير عن الرأي الذي لم يعجب البعض، وسارت مثلا.. دفع الراحل الدكتور زكي نجيب محمود إلي أن يتخذه عنوانا لأحد مواقفه ..
في السادس من شهر يناير عام 1970، نشر الأهرام لي مقالا أُعلن فيه نقدا لقرار كان وزير التربية وقتها (الدكتور محمد حافظ غانم) قد اتخذه بحذف فصل عن الماركسية من كتاب لي كان قد فاز مقررا علي الثانوية العام عام 1968، بناء علي تقرير كان قد رفعه من سُمي في تقريره «مسئول التعليم في الاتحاد الاشتراكي» يتهمني فيه بالترويج للماركسية، خاصة أن الكتاب كان مقررا كذلك علي المعاهد الأزهرية، ومدارس غزة.
وبعدها بيومين، كان كاريكاتير صلاح جاهين الرئيسي يدور حول المقال نفسه..
واشتعلت معظم الصحف والمجلات بعديد من المقالات والتحقيقات حول القضية..فكان أن تراجع وزير التربية عن قراره، وعاد ما كان محذوفا..
امتلأتُ وقتها حماسا، وأيقنت أن دور الفكر هو «التحريك» ، فرُحت أكتب في مختلف الصحف والمجلات، علي اختلاف اتجاهاتها ونوعياتها، آملا أن أحرك ماء آسنا هنا أو هناك، أو أزيل حجرا علي هذا الطريق أو ذاك..
لكن.. ما كان كل ما يتمناه المرء يدركه..
وصدّق عزيزي القارئ، أنه منذ السادس من يناير 1970، وحتي الآن، يونيو 2015، أي ما يزيد قليلا على (45) عاما..لم أستطع أن أحرك ذرة رمل واحدة، ويتبين لي أن دور الفكر تحول من «التحريك« إلي «التنفيس»؟!!
والمفروض بناء علي هذا ألا تكون مهمة يسيرة أن يقوم مواطن مثلي بمواصلة الكتابة علي طريق الإصلاح والتطوير للتعليم، كما يأمله كل مواطن يضع مصر، ماضيا، وحاضرا ومستقبلا في سويداء قلبه وعقله، سلوكا وممارسة، لا فكرا وشعورا فحسب، عندما يري أن كل ما كتب، لا يعدو أن يكون نقشا علي الماء ، مما لابد معه من رفع الراية البيضاء!!
لكن ، ماذا يفعل إزاء كلمات تصرخ به من أمام ومن خلف، وعن يمين وعن يسار بألا يرفع الراية البيضاء، ويكسر مِغزله، إلا عندما تهمد دقات قلبه..خاصة وهذه كلمات يقرأ فيها قوله تعالي في سورة البقرة: (...وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ ... (283)، فضلا عن المقولة الشهيرة: الساكت عن الحق، شيطان أخرس...
فأين يكمن موضع الخلل؟!!
فاعل أو مفعول به ؟
عبر عدة عقود ماضية، تعودنا أن نقرأ في الخطاب السياسي للقيادات، وفي ما لا يتيسر حصره من بحوث ومقالات، فضلا عن الكتب، وفي المؤتمرات والتقارير والاستراتيجيات، أن التعليم هو زناد النهضة، بل وسماه البعض ( مخ الحضارة)..إلي غير هذا وذاك من توصيفات تصب كلها فيما يبدو عليه التعليم وكأنه قد أصبح بمثابة «مصباح علاء الدين السحري» القادر علي أن ينشر العدل، ويُجري أنهار لبن وعسل علي أرض الوطن، ويبث دماء صحة وعافية في عروق المجتمع، وأنه قاهر الضعف ومزيل التخلف، وأنه.. وأنه ..إلخ.
ومن المفترض أن نفرح نحن العاملين في ساحة العلوم التربوية بمثل هذه التوقعات، وتلك النظرة، حيث إنها بالتالي ترفع من مقام علمائها، وتُعلي من قدرهم أمام الناس، ويزدادون ثقة في أنفسهم..
ونحن لا نشكك في منطق هذه المقولة وصحتها، لكن بشرط أن نربط ذلك بالوعاء المجتمعي الذي نتحدث عن التعليم فيه، ومن ثم، يصبح ما سبق حقيقيا وصادقا عندما تكون البيئة المجتمعية بيئة صديقة، إذا صح هذا التشبيه، يملك مواطنوها أمر المسيرة الكلية للمجتمع، لكن ما هكذا يكون الأمر في كثير من المجتمعات المتخلفة، التي تكون، دون غيرها، أشد حاجة إلي التعليم الفعال، والتربية الناهضة.
ففي المجتمعات المتخلفة، نجد تركزا للسلطة السياسية في يد فرد أو مجموعة قليلة من الأفراد، وهذه السلطة هي التي تختار قيادة التعليم، بخيرها أو شرها، بتميزها، أو خللها، وبالتالي تسري الروح الفردية السلطوية نفسها، لأنهم لن يختاروا قيادة تعليمية تعزف علي غير اللحن الذن يغنون وفقه..وهكذا قل الشىء نفسه بالنسبة لمن يتولي سلطة التعليم، بالنسبة لمن يختارهم للمعاونة في إدارة التعليم وتسييره.
والمسألة لا تقف عند حد سلطة سياسية، ففي الغالب ترتبط هذه السلطة بظهير اجتماعي واقتصادي يؤازر ويدعم التوجه القائم، وتكون هناك شبكة عنكبوتية من المصالح المتبادلة والحريصة علي الارتفاع الدائم لقوة نفوذها وتغلغلها في خلايا النظام الاجتماعي القائم، وهي لا تستطيع أن تطمئن إلي مواقعها ، والسير علي طريق مصالحها إلا إذا « سيّدت» ثقافة خاصة تعزز من وجودها وجعلها منبت منظومة من القيم والمعايير الاجتماعية التي تحدد ما يصح وما لا يصح ، في دائرة مصالحها ونفوذها وديمومتها.
ولننظر علي سبيل المثال كيف أن مثل هذه المنظومة السلطوية عادة ما ترتبط بروابط وشيجة بقوي الهيمنة الخارجية، وتسير في الغالب وفق نهج المسايرة لا المغايرة، ومن يختار نهج المغايرة، تجتمع عليه قوي الهيمنة العالمية لتكسر إرادة مثل هؤلاء، وهذا ما حدث زمن محمد علي ، وما حدث زمن جمال عبد الناصر.
وهكذا تجد تسيدا للغة الأجنبية، في مواقع العمل والخدمة والإنتاج، ويصبح علي التعليم أن يتحول إلي تلبية طلبات « الزبون «، فتتواري منظومة التعليم حاملة السمات الوطنية، لتتقدم عليها منظومة تعليم أخري، تربي وتنشّئ من ينسجمون مع قوي الهيمنة المحلية والعالمية، فإذا باللغة الوطنية تتواري شيئا فشيئا.
ومثلما يتردد من أن الغِني يؤدي إلي مزيد من الغِني- غالبا- والفقر يؤدي إلي مزيد من الفقر، يزداد الارتباط بثقافة الخارج، وتضعف الروابط بثقافة الوطن والأمة والقوم والمجتمع، إذ اللغة هي « الحبل السري» الذي يصل الإنسان بمنابع الثقافة الوطنية، وتعجز الأجيال التالية عن أن تتصل بكتابات رواد النهضة العربية والمصرية، لا منذ قرون، بل منذ عقود، مثل طه حسين وزكي مبارك وزكي نجيب محمود ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، ومن سار علي دربهم، من الشعراء والروائيين والفنانين.
وانظر كذلك إلي ما يكون عليه النظام الاقتصادي في هذا المجتمع أو ذاك، وكيف أنه بالضرورة يطبع التعليم بطابعه، فعن طريق الاقتصاد يتمول التعليم، بكل عناصره ومشروعاته ومراحله وآلياته، وهل هو اقتصاد قائم علي الدخول الريعية والخدمات أم قائم علي الإنتاج ؟
ففي حال الاقتصاد القائم علي الدخول الريعية يميل إلي طريق « الخدمات» ، بعكس النوع الثاني القائم علي الإنتاج..
في الحالة الأولي يتطلب نوعية معينة من العاملين، تختلف عنها بالنسبة للنوع الآخر..
النوع الأول قد لا يجد في البحث العلمي أداة ضرورية، مما يُكسب التعليم العلمي قيمة أدني، حيث الاعتماد أكثر علي الاستيراد، علي عكس اقتصاد الإنتاج الذي يتغذي دائما علي البحث العلمي، ومن ثم يكون في حاجة دائمة للكوادر المؤهلة علميا، والنشطة بحثيا، والمتابعة للجديد في العلم ، وبحكم حاجته المستمرة لتصدير ما ينتج ويفيض علي حاجة مستهلكي مجتمعه، يلهث وراء الجديد، ويتابع ما عند الآخرين كي يتمكن من منافستهم، ويجد الحاجة مستمرة للتجديد والتدريب لحسن مسايرة التطورات العلمية والاقتصادية المذهلة.
ويستحيل أن يكون التعليم متساويا بين هذه الحال وتلك...
أما إذا نظرنا إلي « الحال الديمقراطي « في المجتمعات المتخلفة ، من حيث التنظيمات والممارسات وصور الجزاء، والثواب والعقاب، ومنظومة العدالة، والبنية التشريعية، فغالبا ما لا يبشر الموقف بخير كثير..
قد يتصور البعض أن العلاقة هنا ضعيفة مع التعليم، والواقع عكس ذلك، فجوهر العملية التربوية، كما أجمع علي ذلك مختلف الآباء والرواد المؤسسين شغلها الشاغل هو « النمو» ..نمو شخصية المتعلم..
ونمو شخصية المتعلم، مثلها مثل نمو النبات الطبيعي، الذي يكون بحاجة إلي التغذي علي الهواء الطلق، والإزالة المستمرة للشوائب، والتعرض للشمس، والتغذي المستمر علي الأسمدة النظيفة الصحية..
ومعني هذا أن تكون الفرص متاحة أمام المتعلم لأن يعبر عما يراه، بعيدا عن احتمالات قهر وتخويف واضطهاد، وترسانة تُجَرم هذا وذاك مما لا ضرورة له، فيجد الإنسان نفسه يعيش خوفا من التعبير عما يري، خوفا من أن يقع تحت طائلة ترسانة من القوانين المكبلة للحريات، الخانقة للإرادات..تعتبر كل وجهة نظر حرة، تهديدا، وحيودا عن الخط الوطني!!
ولعل هذا يمكن أن يفسر هذه الجموع الحاشدة في الكثرة الغالبة من مناطق المدن الكبري من جحافل الباعة الجائلين، الذين هم الوجه الآخر للبطالة، فهذا الذي يتم بيعه ليس صورة من صور العمل الصحيح ، بل هي بطالة مقنعة، وهو ما يفسر تلك النتائج الغريبة التي كشفت عنها دراسة الدكتور أحمد النجار في تقاريره الاقتصادية الصادرة عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، من أن نسبة البطالة ترتبط سلبا بمستوي التعليم، فإذا بها أقل بين الأميين، وأكثر كلما تصاعدنا في مستوي التعليم لتبلغ ذروتها بين الجامعيين، وهو ما يؤكد علي تلك العروة الوثقي بين الأوضاع المجتمعية وبين التعليم، فهو يكشف عن أن المنتج التعليمي، غير مرغوب فيه بالنسبة لقطاعات العمل المختلفة، أو أن السوق متشبع من هذه الناحية، وهو ينبئ كذلك بتدني المستوي التنموي للمجتمع بحيث لم يعد يشكل طلبا علي المستويات التعليمية العالية.
وبهذا تختفي المقولة التي هيمنت ردحا طويلا من الزمن، وهي تلك القاضية بأن التعليم قد شكّل بالنسبة للمواطن « مصعدا اجتماعيا»، لتبرز سبل ووسائل أخري لتشكل قدرة المصاعد الجديدة للارتفاع الطبقي، والتي لا تصب كلها في صالح الرقي الأخلاقي، والحس الوطني، والتحصيل العلمي.
شروخ في جدار التعليم:
بعيدا عن عمليات ترهيب تصرخ بمن ينتقد ويكشف أوجه الخلل وصور العيوب، بألا نجلد الذات، وأن نبصر نورا في أواخر النفق، لكن النور الذي يمكن أن يكون في آخر النفق، لا يتم الوصول إليه، إلا بعد الوعي أولا، ثم الإزالة والمحو ثانيا، لما يكون من سواتر ومتاريس ، فضلا عن أنني أراهن علي اختيار أي مواطن يسير في الطريق العام صدفة الآن، لنسأله عن حال التعليم، فسوف نجد أن إجابته لا تسر عدوا ولا حبيبا، بل ربما فاجأنا بقوله : أين هو التعليم أصلا حتي أقول رأيي فيه؟
ومع ذلك فسوف نقوم بنظرة طائر علي تشخيص بعض مظاهر الحال، كما يفعل زملاؤنا الأطباء في مرحلة التشخيص، والتعليل، لننطلق إلي اقتراح الدواء...
غياب مؤسف للاتفاق القومي علي أبجدية التكوين المجتمعي، ألا وهي «الهوية الوطنية»، والتي هي أساس لا غني عنه لإمكان رسم معالم شخصية المواطن الذي نريد، والتي منها أيضا تتحدد معالم طريق التعليم والتنشئة، كيف نأمن البصر الصحيح بأوجه القصور، وتصويب المسار، واقتراح الحلول؟
إذا كانت السلطات المسئولة تؤكد أن التعليم هو قضية أمن مجتمعي، فإن هذه المقولة تفرض أولوية بين مختلف الرؤي والاهتمامات القومية، لكن ترجمة هذا بالنسبة لسلم الإنفاق الرسمي علي التعليم، وخاصة إذا طرحنا منه ما يخص الرواتب، سوف يقول لنا العكس من ذلك، وهو أن التعليم واقعا وفعلا-لا يحظي بمكانة متقدمة في سلم الأولويات.
التزايد التدريجي في مساحة ما يمكن تسميته «التعليم الموازي»، المتمثل فيما يتم من دروس خصوصية في البيوت والمراكز الخاصة، الكم الأكثر من ساعات الليل والنهار، فخطورة مثل هذا النشاط أنه هو الأشد تأثيرا ، وهو المستنفد أكثر للأموال والجهود، وأبعث علي الاهتمام والقلق.
ويرتفق بهذا بالضرورة، ظاهرة الغياب الواسع، وخاصة في النصف الثاني من العام الدراسي، من المدارس الرسمية خاصة، ليس الثانوية العامة كما يُشاع فقط، بل بدأ هذا الغياب يزحف إلي باقي سنوات الدراسة.
ويُبرز هذا تساؤلا مؤلما: علي ما، ومن: ننفق إذن مليارات الجنيهات من خزانة الدولة شهريا؟ وهل ثمة حساب علي ما يمكن اعتباره إهدارا للمال العام؟
الاتجاه السريع إلي مزيد من الاهتمام بتعليم الشرائح العليا من أبناء المجتمع، اقتصاديا، والتساقط المستمر لآلاف من أبناء الشرائح الدنيا، تحت أقدام الارتفاع المستمر لتكلفة الخدمة التعليمية.
اتساع مستمر في دائرة ما يمكن تسميته المستوطنات التعليمية الأجنبية التي تُنَشّئ وتعد وتربي لبيئات اجتماعية لا تقع داخل حدود الوطن، لأنها ببساطة تستهدي بقيم وثقافة مجتمعات أخري أجنبية.
الانقطاع التدريجي بين التعليم وموروثنا الثقافي ، لا القديم ، حيث الحضارة العربية الإسلامية فحسب، منذ عدة قرون، بل موروث عصر النهضة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين.
الفحص الموضوعي والواقعي لحال التعليم الفني، الذي يستوعب- كما هو واقع ومفروض- أكثر من 60% من طلاب التعليم الثانوي، يشير إلي أن الفلسفة المحركة له في حقيقة الأمر، هي أن يخفف الضغط علي التعليم العام والتعليم العالي، لا أن يعد ما تتطلبه الحياة الاقتصادية من قوي عاملة علي درجة كافية من التأهل التقني والعلمي المعاصر.
كثير من طلاب الصفوف الأولي في التعليم الابتدائي لا يعرفون القراءة والكتابة، بل تنشر صحيفة الشروق يوم الاثنين 4/5/2015 تصريحا لوزير التعليم الفني نفسه يصدمنا بأن 50% من طلاب التعليم الفني أميون، فإذا تذكرنا أن هؤلاء قد سبق لهم الحصول علي الإعدادية، أي تعلموا تسع سنوات، تكاثرت علامات الاستفهام، بل أصابع اتهام.
هناك ما يقرب من عشرين مليون مواطن مصري يعانون الأمية الأبجدية، التي تجاوزتها شعوب متعددة، بدأت تعمل علي التخلص من صور أخري من الأمية مثل الأمية التقنية..والأمية الثقافية، إذا صح التعبير..
فُرقة قومية محزنة، يتسيدها مبدأ شيطاني هو: من ليس معي فهو عدوي، وأنني وحدي البصير بالحق، ومن يغايرني، شيطان يجب محاربته. إن نهج التماسك الاجتماعي هو 1+1+1 = الكثير بقدر الإضافة، أما نهج الفُرقة فهو 1-1-1= صفر دائما..
بأي ذنب قُتلت؟!
ولعل أبرز ما شهدناه ، مما يخصم من رصيدنا في القدرة علي تطوير التعليم، هو ما حدث للمجالس القومية المتخصصة عامة، والمجلس القومي للتعليم والبحث العلمي خاصة .
فمنذ بيان مارس الذي ألقاه جمال عبد الناصر عام 1968، عقب مظاهرات لأول مرة في العهد الناصري- احتجاجا علي أحكام ما عرف بقضية الطيران، جاءت إشارة إلي أهمية توافر مجالس تمثل بنك أفكار إصلاح وتطوير قومي، لم تتح الظروف خروجه إلي حيز النور، إلي أن نص دستور 1971 علي ضرورة إنشاء مجالس قومية متخصصة، خرجت إلي حيز التنفيذ بالفعل عام 1974، وكان المايسترو لها هو الدكتور محمد عبد القادر حاتم.
وما من مشكلة في التعليم، سواء العام أو الفني، أو العالي إلا تم بحثها ووضع تقرير واف بكل ما يتصل بها وكيفية مواجهتها.
لكن الدولة مع الأسف الشديد بدأت منذ وقت مبكر توفر مناخا لا يساعد علي تفعيل العمل العظيم الذي كان يتم.
لم يفكر أحد في أن يدرس خبرة عشرات السنين للمجالس، ويبحث في أسباب ما قد يكون من قصور، ولكن فجأة يتم إلغاؤها، وإحلال ما سمي بمجالس تخصصية ، وكأن الفرق أن السابقة كانت «متخصصة» ، وأصبحت الجديدة «تخصصية»!!
وكانت الصدمة عندما ظهر مجلس التعليم، فإذا بالجامعة الأمريكية يكون لها التسيد في التكوين، وكأن آلاف أساتذة الجامعات المصرية يعجزون عن التفكير المتطور المتجدد!!
ثم تجيء بعض المخرجات المتمثلة في تصريحات محزنة تتصل بوجهة نظرهم مجانية التعليم بمسئوليتها عن تدهوره، وهي وجهة نظر الشرائح الاجتماعية التي طفت علي السطح خلال عشرات السنين القليلة الماضية، ولا تستند إلي أسس منطقية وعلمية، ليس هنا مكان بيان تهافتها.
ثم يجيء القول المحزن: إن مجلس التعليم سيقوم بتدريب آلاف المعلمين، ووجه الكارثة هنا أن هذه مسألة تنفيذية، والمفروض أن المجلس يختص بالرؤي الاستراتيجية، فضلا عن تصريح مدمر يري عدم إشراك الكليات التي تعد المعلمين، علي اعتبار أنها سبب المشكلة، والمتسبب في مشكلة، لا يملك الحل لها، دون نظر بعين الاعتبار إلي أن هناك أكاديمية أقامتها الدولة منذ عدة سنوات هي الأكاديمية المهنية للمعلمين، تقع هذه المهمة علي عاتقها.وإذا كانت كليات التربية مقصورة عن ذلك، أفلا يدفع المنهج العلمي إلي البحث عن علل هذا ومعالجتها، أم تركها علي حالها، علي فرض صحة هذه المقولة؟.
ومرة أخري ، لماذا ندرس ونبحث ونُقَيّم الخبرات السابقة لنستفيد منها، إذا كان هناك قصور هنا أو هناك ، أم هي هواية هدم كل ما سبق وإنشاء أخري، وبذلك تضيع خبرة أعوام طويلة، وكأن ملايين ما أنفق، هي مجرد أكوم تراب، لا تفيد في البناء، بقدر ما تفيد في الدفن و«التقبير» ، نسبة إلي وضع شيء في القبر؟
من فكر « التنفيس» إلي فكر « التحريك»:
وإذا كنا قد عبرنا عن مرارة في حلوقنا أن يتحول ما يتم تقديمه من فكر، إلي مجرد «طق حنك» ، علي رأي إخواننا في الشام، ومن ثم تكون وظيفة الفكر هي مجرد « التنفيس»، فإن ما نأمله أن تتحول هذه الوظيفة إلي الاتجاه النهوضي، فتكون وظيفة الفكر هي « التحريك» إلي أمام، ودفع إلي أعلي، وذلك، وفقا لما نسوقه فيما يلي من توجهات:
= الإصلاح المجتمعي: حتي لا نقع في مرمي الاتهام بالخيال والغرق في الأحلام، فإننا نُذكر» لعل الذكري تنفع المؤمنين «، بالإجابة التي وجد نفسه أمامها ، مؤسس مصر الحديثة في أوائل القرن التاسع عشر، الحاكم الأمي، محمد علي، عندما تساءل عن كيفية النهوض بمصر لتنافس أو علي الأقل، لتواكب ركب التحضر الذي كانت معالمه قد بدأت تعرف آثارها علي الطريق، دول مختلفة من دول الغرب الأوربي؟؟
فما من مؤسسة تعليمية أنشأها إلا وكانت سدا لمطلب تحديث في البني المجتمعية، ولعل أشهرها: تكوين جيش وطني حديث، فكانت عدة مدارس عليا عسكرية..وهكذا في كثير من الشئون.
بل إن النكسة الكبري التي حدثت في أواخر حكمه، تظل مؤيدة لما نذهب إليه، فعندما حوصرت مظاهر التحديث والتقدم، إذا بمؤسسات التعليم تُغلق، الواحدة تلو الأخري!!
= مجلس وطني للتعليم: علي الرغم من أننا سبق أن طرحنا الفكرة عقب ثورة يناير العظيمة 2011، وكررناها في أكثر من مناسبة، لن نمل من معاودة طرحها، لقوة إيماننا بضرورتها ، فضلا عن أنها طالما لم تعرف طريقها إلي التنفيذ، تظل في دائرة التمني والإلحاح في الطلب، وهي تقوم علي حاجة عمليات ومستويات التنشئة والتكوين( التربية والتعليم- الأزهر- التعليم العالي- الثقافة- التعليم الفني) إلي:
السير وفق سياسة تعرف الاستقرار النسبي بعيدا عن تغيير الوزراء، وهو الداء الوبيل الذي يعانيه التعليم عبر عشرات السنين.
التنسيق والتكامل بين كل ما أشرنا إليه من وزارات وهيئات .
ولا نريد التفصيل في تكوينها، حيث نطمح إلي أن يكون ذلك موضوع حوار مجتمعيا، ومتخصصا، وغاية ما نأمل تحقيقه في مثل هذا المجلس:
أن يكون مستقلا ، مثله في ذلك مثل القضاء.
أن يكون ما يصل إليه من سياسات وخطط واستراتيجيات ملزما للوزارات المعنية.
ألا ينشغل بتفاصيل وفرعيات وجزئيات، بل ينحصر همه في المبادئ الكلية والسياسة التعليمية العامة والخطط الاستراتيجية.
أن ترشح كل وزارة ممثلا لها علي مستوي عال.
كذلك يرشح المجلس الأعلي للجامعات اثنين من رؤساء الجامعات وفقا لما يختاره من معايير الاختيار.
أن يضم المجلس عددا محدودا من المفكرين والعلماء والمثقفين.
أن ينتخب الأعضاء رئيسا لهم لا تزيد مدته علي ثلاث سنوات.
للمجلس أن يشكل عددا من اللجان الفرعية، يستعين فيها ببعض المتميزين لدراسة ما يكون المجلس بحاجة الي دراساته من مشكلات.
= كليات التربية: داء التعليم ودواؤه : وهو ما سبق أن ألححنا عليه، فمشهور هو دور المعلم المركزي في كل ما يتصل بالتعليم، فإذا كانت كليات التربية تُخَرّج لنا كل عام آلافا من المعلمين، ينبثون في أرجاء البلاد يُعَلّمون ملايين من الأبناء، يصبح من الخطورة بمكان أن تظل هذه الكليات علي حالها الحالي، منذ أن تعرضت في أواسط العقد الأول من القرن إلي عمليات مسخ وطلاء شكلي، وخضوع لما هو مفارق للعلم ومنهجيته والإصلاح وسياساته.
ورأينا المبدئي الذي كررناه أيضا أكثر من مرة، هو ضرورة مد فترة الدراسة بهذه الكليات إلي خمس سنوات، حتي يتخرج طلابها علي درجة وافية من التمكن العلمي التخصصي، وكذلك التمكن المهني، فضلا عن جوانب أخري تتصل بالإصلاح الهيكلي للأقسام، والمقررات، واستحداث مدارس تجريبية ملحقة..إلي غير هذا وذاك مما يضيق به المقام.
= الطريق إلي فك لغز الثانوية العامة: فإذا كنا لا نجد في الكثرة الغالبة من مجتمعات اليوم هذا الذي نشهده في مصر مما يتصل بالثانوية العامة من غمامة سوداء تطول معظم البيوت المصرية، فلا أدري لِمَ لا ننتبه إلي أن المسألة في أصلها إذا كانت مفارقة بين العرض والطلب، وإذا كانت الأسرة المصرية تنفق ما لا يقل عن 15 مليار جنيه سنويا علي الدروس الخصوصية، وهو المبلغ الذي يمكن أن نقيم به العديد من المشروعات الاقتصادية الإنتاجية، فلا أقل من التفكير في كيفية أن يُخصص أولياء أمور الطلاب ، مليارا واحدا سنويا لإنشاء جامعة جديدة، إلي أن نصل إلي التوازن بين العرض والطلب، وساعتها لن تحتاج الأسرة المصرية إلي إنفاق مثل هذا المبلغ.
= التأسيس اللغوي العربي: فإذا كانت معظم الأسر في وقتنا الحاضر تحرص علي أن يتعلم أطفالها لغة أجنبية في بداية الطريق التعليمي، فهذا أمر جيد، لكن انفراد اللغة الأجنبية بعقول أطفالنا وقلوبهم يتحول مع الوقت إلي عملية تهجير قسري لهذه العقول وتلك القلوب إلي شعوب أخري، ومن ثم يمكن اعتبارها عملية « استغناء» تاريخية محزنة عن التربة الثقافية الوطنية، التي هي المَحْضن الحقيقي لكل ما يحتاجه أي وطن للاعتزاز به وبثقافته وبتاريخه، وبآماله وطموحاته، مما يوجب أن يتم التعامل بالمثل مع لغة الوطن..العربية، منذ لحظات التعليم الأولي.
= استقلال الجامعة ودمقرطتها: فنظرة مدققة للكثرة الغالبة من الدول المتخلفة، من حيث درجة ومستوي التنمية فيها، ومساهماتها في التقدم العلمي والتقني والفكري، ومقارنتها بكثرة غالبة من الدول المتقدمة، من حيث هذه الدوائر نفسها، سوف تظهر لنا أن الفئة الأولي مستبد بها، والأخري تعيش ممارسات ديمقراطية واضحة، مع التسليم بأن التعميم في المسائل الإنسانية يقبل بعض الاستثناءات، وهو ما يؤكد المقولة المؤكدة أن الممارسة الديمقراطية هي السبيل الأفضل لإطلاق طاقات المواطنين للمساهمة في حركة التطوير الحضاري، والعكس صحيح.
وتطبيق ذلك علي الجامع، يعني ضرورة تحقيق استقلال حقيقي للجامعة، بعيدا عن ادعاء أنها، إذ تنفق عليها الدولة فلابد من الحذر في توفير الاستقلال، ذلك أن مؤسسة مركزية مثل القضاء مؤسسة تتمتع بالاستقلال، وهي في الوقت نفسه، ممولة من الدولة.
ويعزز من مطلبنا هذا أن شباب الجامعة، علي أبواب التخرج من الجامعة للانغماس في المجتمع، عملا ومشاركة، مما يوجب أمانة التدرب علي الممارسة الديمقراطية.
ومن المتوقع أن يهب البعض بالقول: إن الظروف التي تمر بها البلاد لا تسمح بذلك، ونحن نؤكد أن هذه الظروف ليست سببا، بل هي نتيجة للحرمان من الممارسة الديمقراطية، فضلا عن أن كاتب هذه السطور، إذ امتد وعيه من منتصف أربعينيات القرن الماضي، حتي الآن في عام 2015، يتساءل: بعد مرور ما يقرب من سبعين عاما: ألم يئن الوقت لبلوغ سن الرشد بعد؟!!
= جسر الفجوة بين التعليمين؛ الديني والمدني: فالتماسك الاجتماعي المفروض توافره في الوطن، لابد له من تأسيس تعليمي في سنوات التلقي الأولي، وهي مرحلة التعليم الممتدة من الابتدائي حتي نهاية الإعدادية، مما يقتضي:
محو ما هو قائم حتي الآن من ثنائيات في التعليم المدني، بين تعليم يتم باللغة الأجنبية وآخر باللغة العربية، مع تفاوت في مستوي وحكم ودرجة كل نوع.
التقريب التدريجي بين التعليمين المدني والديني، وبدء التخصص بينهما في التعليم الثانوي.
= الانتقال بنظام التعليم من نهج» الغسالة إلي نهج» الثلاجة»؟! فإذا قارنا بين جهازين مثل الغسالة والثلاجة، فسوف نجد أنهما، مع اختلافات جوهرية بين مكونات كل منهما، فضلا عما بين هذه المكونات من علاقات وتفاعلات، يتفقان في أمور..
فكل منهما، جهاز يسير وفق برنامج دقيق، كل خطوة، تؤدي إلي خطوة تليها..وهكذا، بحيث يتم في النهاية تحقيق « الهدف» المراد من كل منهما..
والهدف من الغسالة، كما هو معروف، « تنظيف الملابس « ، بينما في الثلاجة، يكون الهدف منها حفظ ما نضعه فيها من مأكولات مثلا- في درجة حرارة دنيا ، نحددها نحن.
لكن، ماذا يحدث، عندما نجد أن الغسالة قد انتهت من برنامجها، دون أن تحقق الهدف، وهو تنظيف الملابس؟
هنا، لا مفر من أن نعيد الكَرّة مرة أخري، ومن هنا نصف طريقة العمل في الغسالة بأنها تسير وفق طريق « خطّي «، أي وفق طريق مستقيم، أفقي، ممتد..
بينما إذا وجدنا أن الثلاجة لم « تُبَرّد « ما بها ، مثلما أردنا، نظرا لكثرة فتحها مثلا، أو إدخال أشياء ذات حرارة مرتفعة نسبيا، نستطيع، بتحريك »الترموستات»، أن نصحح ما حدث، ليتم تحقيق الهدف المنشود.
هنا نقول إن نظام الثلاجة من الأنظمة ذات «التصحيح الذاتي» ...
ومن هنا لك أن تتساءل: إلي أي النهجين ينتمي «نظامنا« التعليمي؟
من المفروض أن ينتمي إلي النظم « ذات التصحيح الذاتي» ، بحيث إذا لم يحقق المطلوب منه، نجد حركة تصحيح سريعة لتصويب المسار نحو الهدف المنشود.
علي المستوي الصغير، حيث العملية التعليمية التي تتم في المدارس، تنتهي دائما « بتقويم «، مفروض أن يكشف لنا عن درجة التقدم أو التأخر، وأوجه الصواب والخطأ، لنقوم علي الفور بالتصويب والتعديل، فهل هذا يحدث؟
كلا، فعملية التقويم، التي من المفروض أن تكون مثل «الترموستات « داخل الثلاجة، تتحول في واقعنا إلي «امتحان«، وشتان لدي المتخصصين بين المقصود «بالتقويم« ، و»الامتحان»، قد لا يتسع المقام مع الأسف لبيانه، لكن أقصي ما يمكن ذكره، أن عناصر العمل التعليمي لها بدورها مكونات متعددة، يشكل «تعليم وتعلم« الطلاب كذا وكذا من المقررات الدراسية ، أحدها، وليس كل المكونات، والامتحان عندنا هو الذي ينفرد بالقياس، أما المكونات الأخري، فلكل منها طريقته في التقويم، لا تتناغم بالضرورة مع « مركز التقويم «، ألا وهو تعلم الطلاب.
وفضلا عن هذا، فالهدف من التعليم هو التنمية الشاملة المتكاملة لشخصية الطلاب، اجتماعيا وثقافيا وجسميا ومعرفيا، ووجدانيا، ومهاريا، ولكل جانب مفرداته وطرق تقويمه، لكن التعليم عندنا يدور كله حول « الجانب المعرفي»، وبالتالي ينفرد الامتحان بمركز الاهتمام والتقويم.
ونستطيع أن نقول الكثير عن مدي صلاحية الامتحان لتقويم نتائج التعلم والتعليم، ..
من هنا تجد أن نظام التعليم يخلو من « الترموستات « التي تعين علي تحقيق الهدف، وتقوم بعملية التصحيح الذاتي، حتي يتم لنا ما نبتغيه .
ومن ثم كان لنا أن نشبه نظام التعليم في مصر بنظام تشغيل الغسالة، الذي يسير وفق نهج « خَطّي «، لا يعاود تصحيح ذاته، عندما لا تتحقق الأهداف المرجوة منه، وطريق الإصلاح والتطوير بناء علي هذا يكون بالبحث عن كيفية تشغيل النظام التعليمي وفقا لنهج الثلاجة، يملك « مكونا» ، مثل الترموستات، صالحا وليس معطوبا، حتي نضمن عملية التصحيح الذاتي ، فيتم لنا جني ثمرات حلوة المذاق، وبدون ذلك سوف تمر السنون والأعوام، ويجيء هذا ويذهب ذاك من الوزراء، ولا نلمس نقلة حقيقية للتعليم إلي الأمام!!
= (...وفي أنفسكم أفلا تبصرون)؟ فكل ما سبق أن عرضنا لاقتراحه اليوم، وما سقناه من قبل ، لا يستقيم أمره من غير النظر بعين النقد والمراجعة إلي الجماعة المهنية التربوية نفسها التي يقع علي عاتقها رسميا إدارة وتنفيذ وتوجيه كل ما يتصل بالتعليم في مختلف مراحله ومستوياته وأنواعه.
لكنها مع الأسف الشديد لا تشكل قوة ضغط في الرأي العام، لأسباب متعددة، ليس هنا مكان مناقشتها، لكن يكفي الإشارة إلي أن الجماعة التربوية تعمل وتتحرك في صورة أفراد، وفئات( كل في فلك يسبحون) ، مما يوقع كل منها في جُب الذاتية والمصلحة الخاصة والفئوية، ومن ثم يكون المطلوب هو إيجاد سبل تعاون وتآزر بين وحدات هذه الجماعة، مثل الجمعيات التربوية، وكذلك الأقسام التربوية في كليات التربية، كأن يكون هناك اتحاد عام يجمع الجمعيات التربوية، وضرورة التفكير فيما يشبه الإلزام في مشروعات مشتركة بين الأقسام التربوية، وتعاون في الإشراف ومناقشة الرسائل.
وإذا كنا قد تعودنا على أن نتجه بما نقترح ونأمل إلي « الدولة» بحكم ما لها من سلطة الإدارة والتنفيذ والتشريع والتمويل، فإننا في هذه المرة، نتجه إلي أهل الدار التعليمية...مسئولي التعليم « العلميين»..من أعضاء هيئات التدريس بكليات ومعاهد إعداد المعلم، فهم بالآلاف، ، ويُعلمون عشرات الآلاف ويُخرجونهم سنويا..
لقد أشبع المتخصصون قضية الامتحانات مثلا- بحثا ودرسا واقتراحات، مبثوثة في صفحات مئات البحوث والدراسات، فضلا عن الكتب والتقارير، حتي إنني لأذكر أن الراحل الدكتور فؤاد أبو حطب، منشئ المركز القومي للتقويم والامتحانات، عندما استضفناه في رابطة التربية الحديثة في عهدها الذهبي، وكان ذلك في أواخر الثمانينيات، عرض لنا قضية الامتحانات، بمظاهرها وبأسبابها، وسبل مواجهتها، وأعجب الحاضرون للغاية بهذا الطرح، ثم إذا به يفاجئنا بما صدمنا..قال إن كل ما عرضه هو نص ما كان قد تم التوصل إليه في مؤتمر عقدته الرابطة عن الامتحانات سنة 1938!!
فكأن خمسين عاما مرت، ولا جديد تحت الشمس..
وأنا نفسي، كتبت في القضية نفسها، في كتابي (إنهم يخربون التعليم) في سلسلة كتاب الأهالي عام 1986..ومازال الحال علي ما هو عليه؟؟!!
من هنا كان لابد من سلوك سبيل جديد، يتصل بهذه الفئة المتخصصة، التي يُبح صوتها عبر عشرات السنين، ثم تذهب أفكارهم أدراج الرياح، فلم.؟
لدينا عشرات كليات التربية..
بها مئات الأقسام العلمية المهنية المتخصص..
ولدينا العديد من الجمعيات العلمية المتخصصة..
لكنهم متفرقون..كل في فلك يسبحون..
ولو توحدوا في كيان وطني أهلي، أعلي هذه الكيانات، لشكلوا قوة ضغط مجتمعي أدبي ومهني، سواء علي السلطة الرسمية للتعليم، أو علي قوي المجتمع المدني، أو علي قوي الإعلام، أو علي قوي رأس المال الخاص..بحيث يخطون بالوطن نحو طريق التنفيذ.. فيُشفي الوطن، ويُعالج أبناؤه..شباب المستقبل من هذا المرض الذي يخرب العقول، ويُفسد مقومات التنشئة، فهل من مجيب؟
لمزيد من مقالات د. سعيد إسماعيل على


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.