كانت هناك جسور: كان ذلك فى أواخر العام 1951، عندما دخل مدرس الجغرافيا فصلا فى الفرقة الأولى الثانوية - قديم، تقابل الآن ثانية ثالثة إعدادى- فقام له الطلاب كعادة طلابنا فى بدء الحصة، ما عدا طالب كان يدفن رأسه فى « الدرج»، منشغلا بشىء ما. وأمر المدرس الطلاب بالجلوس، آمرا الطالب المنشغل عن دخوله بالقيام فورا بلهجة بدت فيها الحدة واضحة. سأل الطالب عما يفعل بحيث لم يشعر بدخول المدرس، فيشارك زملاءه القيام له؟ فأجاب الطالب متأسفا أنه كان يقرأ فى مجلة. فسأله المدرس عن اسم هذه المجلة؟ فأجاب: روز اليوسف، وكانت وقتها من أشهر وأقوى المجلات السياسية بصفة خاصة. فوجئ الطلاب بالمدرس يوالى توجيه الأسئلة للطالب، بعد أن كانوا يتوقعون أن يقوم بصفعه على وجهه جراء الانشغال عن القيام، فسأله عما كان يقرأ؟ فأجاب: المقال الافتتاحى لإحسان عبدالقدوس رئيس التحرير. ويسأل المدرس طالبه عن آخرين يكتبون للمجلة ويقرأ لهم؟ فأجاب الطالب، مشيرا إلى كوكبة من الكتاب تألقوا فيما بعد وأصبحوا أعلام الفكر والثقافة مثل أحمد بهاء الدين، ولطفى الخولى، وصلاح حافظ، وأنور عبدالملك، ومحمود أمين العالم، وأحمد عباس صالح، وغيرهم. ولا يكتفى المدرس بذلك، بل يسأل عن دلالة اسم المجلة، فيجيب الطالب بأنه اسم عُرفت به صاحبة المجلة (فاطمة اليوسف)، وأنها والدة إحسان، وكانت ممثلة مسرحية كبيرة. ومضى ما يقرب من نصف وقت الحصة فى هذا الحوار العجيب، والذى انتهى بأن كال المدرس الكثير من صور التقدير والإعجاب بالطالب، بدلا من توقع ضربه ومجازاته. لم يكتف المدرس بذلك، بل إذا به، عندما علم أن الطالب فى امتحان «الفترة» الذى كان يجرى كل ثلاثة أشهر، يتسلم فى نهايتها الطالب شهادة بنتائجه، قد لا يكون ترتيبه « الأول»، بل الثانى أو الثالث، فإذا به يدور على مدرسى الفصل، جالسا مع كل منهم على حدة، راجيا، ملحا فى الرجاء بأن الطالب إياه لابد أن يكون ترتيبه هو الأول، مستندا فى حكمه هذا بأنه لمس فى عقل الطالب«لمبة» تنير له ما حوله، هذه اللمبة هى «الثقافة»، وكان هناك هامش فى الدرجات، بعيدا عن الامتحانات، يسمح بالتغيير زيادة ونقصا. ولابد هنا من التنبيه إلى أن المدرس كان قبطيا والطالب مسلما، قبل أن يُصاب المجتمع المصرى منذ أوائل السبعينيات بذلك الداء الطائفى السخيف، وبالتالى فقد حكم التقديرمعايير موضوعية، بعيدا عن التحيزات المذهبية والشخصية. وكانت فلسفة المدرس -الذى كان يدرس الجغرافيا- أنه لا يهمه أن يحسب التلميذ المحطات التى سوف يقف قطار الصعيد بها عندما ينطلق من القاهرة مثلا، حتى يصل إلى أسوان، وإنما يهمه أن يلمس أنه يعرف كيف يفكر، ويلمس فيه الوعى بمجريات الحياة العامة فى وطنه، وأن المعرفة ليست «بضاعة» يخزنها فى مستودع الذاكرة، بل هى «وسيلة» يغالب بها الإنسان الحياة، وأن يرى الأمور متصل بعضها ببعض. وكان المدرس المشار إليه متسقا أشد ما يكون الاتساق مع المنطق الذى انطلق منه مفكر مصر المعاصرة، الدكتور طه حسين، الذى يُنبئ كتابه الشهير (مستقبل الثقافة فى مصر) عن قضيتنا، حيث يقول العنوان إن الموضوع هو عن الثقافة، فإذا قلبت صفحاته، وجدت ثلاثة أرباعها عن التعليم، وربعها عن الثقافة، لا لأن الثقافة عنده أقل أهمية وخطرا عن التعليم، لكن لأنه لم ينظر إلى الثقافة فى مجالاتها وأنواعها وتفصيلاتها الجزئية هنا وهناك، بل فى كليتها ومساراتها الأساسية، ليتخذ منها منطلقا للتصدى لمشكلات التعليم، والترتيب لمستقبله المنشود. وهكذا، خصص طه حسين 21 موضوعا من كتابه عن الثقافة، و79 موضوعا عن التعليم، ولم يكن طه حسين منفردا بمثل هذا الوعى بأن تطوير التعليم فى مصر، رهن بتطوير الثقافة، وأن وجود فجوة بينهما لابد أن تبث فى عروق كل منهما أسباب وَهَن وضعف. القضية، ليست قضية تُدخلنا فى متاهة «تفلسف» يتم التبارى فيه بمجرد الشقشقة اللفظية، والأقيسة المنطقية المجردة، وإنما محاولة للنفاذ إلى أعماق قضيتى الثقافة والتعليم، كل منهما على حدة، ثم فيما يكون بينهما من جسور واتصال وتفاعل؟ لماذا الرباط مقدس بين الثقافة والتعليم؟ باختصار شديد إن الثقافة هى: «كل ما تنتجه يد الإنسان وعقله وقلبه»، واليد هنا كناية عن التقنيات والأجهزة والمنشآت، والعقل، كناية عن الفلسفات والنظريات والأفكار، والقلب كناية عن عالم الفن والجمال. ولفيلسوف التربية الأمريكى الشهير جون ديوى، أحد زعماء الفلسفة البرجماتية، إجابة واسعة متعمقة عن السؤال المطروح حول معنى الثقافة، شرحها فى كتاب شهير له، ترجم إلى العربية بعنوان: «الديمقراطية والتربية». فما يجعل المجتمع مجتمعا Community، هو ما يكون «مشتركا وعاما» Common بين أفراده، فى شئون مختلفة وجوانب متعددة ، ولا يصل المجتمع إلى ما هو عام ومشترك إلا عن طريق عملية اتصال Communication، بموجبها يتم نقل ما توصلت إليه الأجيال السابقة إلى الأجيال التالية، وهو بالضبط ما نقوم به عن طريق عملية التعليم. وما يلفت النظر حقا هو هذا الاشتراك فى الحروف الأربعة الأولى بين الكلمات الثلاث، وهذا يؤكد أن المجتمع بحاجة إلى الثقافة، حتى تكون هناك «لُحمة» مشتركة بين أفراده، وأن هذا المشترك بين الأجيال السابقة والحالية، لا يكون إلا عن طريق التعليم. لكننا نظل بحاجة إلى توضيح أكثر لأساس هذا الرأى، الذى يجعل من الثقافة حقيقة أى مجتمع. الحق أن ما يميز مثلا- الإنجليزى، عن الفرنسى، عن المصرى، عن السورى، ليس هو ما يكون عليه شكل الجسم، على الرغم مما تمثله الأصول «العرقية» من ركن مهم هنا. إن الذى يميز المواطن الإنجليزى، عن المواطن المصرى، هو ما يحمله كل منهما من ثقافة. من جانب آخر، فنحن- من استقراء حقائق التاريخ- نجد أن الشعب المصرى، مستمر الوجود عبر آلاف السنين، وذلك من خلال استمرار ثقافته. بالطبع سوف يقفز البعض إلى التنبيه إلى ما حدث للثقافة المصرية من تحولات ضخمة عبر بعض المحطات التاريخية الكبرى، لعل أبرزها دخول الإسلام مصر، وبالتالى تعرب اللسان المصرى، لكننا نعترف بأن استمرار الثقافة عبر العصور لا يعنى ثباتها، وإنما هى مثل الكائن الحى تلحقها تغيرات وتحولات وتطورات، لكنها، أيضا مثل الكائن الحى إذ تتطور وتتغير، تظل هناك قسمات أساسية يسهل ملاحظتها، وأشهر ما يمكن الإشارة إليه، هو أن العربية التى يتحدث بها المصريون، ليست هى بالضبط التى يتحدث بها المسلمون العرب فى أقطار أخرى، فضلا عن «مدارس مصرية» مشهورة فى عدد منهما من الأنساق المعرفية العربية الإسلامية، لتبرز الملامح المصرية. وعلى العكس من ذلك، نرى فى الشمال، دولتين ، وشعبين: اليونان بشعبها، وإيطاليا بشعبها، بحيث يصعب أن تقول إن يونانيى اليوم هم استمرار لإغريق الأمس، وكذلك لا نعد إيطاليى اليوم امتدادا لروم الأمس، لأن كلا من الثقافتين الإغريقية والرومانية قد هجرت المجتمعين، واكتفت بالسكنى بين بطون الكتب والأوراق. والفارق الأساسى بين كل من الشعب المصرى، والشعبين اليونانى، والإيطالى، هو استمرار ثقافة المصريين، واندثار ثقافة الإغريق والرومان. ومن هنا تحرص كل جماعة بشرية على تعليم أجيالها الجديدة ثقافة الآباء والأجداد، حتى يستمر المجتمع فى الوجود، مع التسليم بطبيعة الحال بمهمة أخرى يقوم بها التعليم، ألا وهى تجديد الثقافة وتطويرها، لأن هذا إذا لم يحدث، تصاب الثقافة بالانقراض. وهكذا نعود إلى المقولة الأولى، ألا وهى أن المجتمع لكى يكون مجتمعا، لابد من توافر روابط مشتركة من التقنيات والأفكار والعقائد والفنون، وأن هذا لا يتم إلا عن طريق عملية التعليم، التى تقوم بعملية نقل عبر الأجيال، طولا زمنيا، ونقل بين أبناء الوطن، عرضا، من حيث شرائحه وفئاته وطبقاته. كيف جَرّ كل منهما الآخر، صعودا وهبوطا؟ لسنا بحاجة إلى بيان كيف كانت معاهد التعليم فى طول العالم العربى والإسلامى تزخر بالعديد من مظاهر النهوض الحضارى الذى أنتج حضارة سادت العالم عدة قرون، ثم إذا بمؤسسات التعليم ، منذ العهد العثمانى لا تتجمد فقط، وإنما تتراجع كذلك عن صور تقدم كانت تزين ما كان قائما، حتى أواخر عهد المماليك، فيصيب الثقافة من جراء ذلك جمود وتخلف. ولعل خير من يصور لنا هذا، ما جاء بتاريخ الجبرتى، ضمن حوادث عام 1162 الهجرى، حيث صور مقابلة بين أحمد باشا، المعروف بكور وزير، والذى تولى أمر مصر فى ذلك الوقت، وكان من أرباب الفضائل، وله رغبة فى العلوم الرياضية، وبين صدور العلماء فى ذلك الوقت، وهم الشيخ عبد الله الشبراوى شيخ الجامع الأزهر، والشيخ سالم النفراوى، والشيخ سليمان المنصورى، فتكلم معهم وناقشهم وباحثهم، ثم تكلم معهم فى الرياضيات، فأحجموا، وقالوا: لا نعرف هذه العلوم، فتعجب وسكت. واستمر الحوار، بين طرف محلى يحاول أن يحصر وظيفة التعليم والقائمين عليه فى دائرة «الخدمات»، مثلما كنا نصف البعض من نواب مجلس الشعب سابقا، ويتصور أن الدين لا تلزمه صور من المعرفة العلمية والرياضية، وطرف قادم من خارج، كان لا يزال متأثرا بما كان من نهضة ثقافية وتعليمية فى مصر، فصدمته حالة التخلف الثقافى والتعليمى، ويرى أن العلوم الرياضية والفلكية والطبيعية ضرورية للجميع، بمن فيهم علماء الدين. ومن هنا، فإن الشيخ حسن العطار، الذى ترأس الجامع الأزهر، واختلط بالفرنسيين وقت حملتهم، ولمس بنفسه مدى التقدم الذى شهده عالم ما وراء البحر، أطلق صيحته الشهيرة: «إن بلادنا لابد أن تتقدم، فتعلم من العلوم ما ليس فيها»!! وكان للعطار دوره فى اختيار رائد النهضة الثقافية الحديثة فى العالم العربى، رفاعة الطهطاوى، إماما دينيا لبعثة مصرية إلى فرنسا. وحانت الفرصة بالفعل لمحمد على أن يفتح أبواب مصر لرياح التحديث والتغيير، لكنه مع الأسف سلك نهجا، قد يكون مبهرا لأول وهلة، لكنه، على مدى بعيد، ترك آثارا سلبية مؤسفة، تصل إلى حد إحداث أخدود ثقافى بين نهجين وعقليتين، ذلك أنه ترك النظام التعليم القائم على ثقافة متخلفة، تتزين بزى دينى متخلف على حاله، وأنشأ نظاما آخر حديثا، مرتبطا بالآخر الحضارى. وكان محمد على يبرر نهجه هذا، بأنه كبير فى السن، ويحب أن يرى غرس يده قبل أن يحل عليه الأجل، وشبّه أحد الزوار الأجانب هذا بأن محمد على، بدلا من أن يبذر بذرة، وينتظر حتى تنمو وتترعرع، عمد إلى شراء شجرة جاهزة!! ولم تكن السن وحدها هى المبرر، لكن ما لم يصرح به محمد على أنه كان يبنى «دولة»، لا «مجتمعا»، وفرق شاسع بين الأمرين من حيث النهج الذى يحتاجه كل منهما: الأول يمكن أن يتم بأوامر وتجنيد وقوة وتمويل، ولا يستغرق إلا سنوات معدودة لتظهر نتائجه، لكن الثانى يحتاج تدرجا وتجذيرا، مما يستغرق وقتا، لكن الحقيقة المؤلمة، أن الأول لم يستطع أن يصمد أمام الهجوم الخارجى!! وقد وعى على مبارك عمق القضية، فأراد أن يسلك طريقا آخر، بأن ينشئ مؤسسة تعليمية جديدة تجمع بين الثقافتين: العربية الإسلامية، والغربية الحديثة، فكان إنشاء «دار العلوم» عام 1871، لكن طريقها اتخذ مسارا آخر بعد ذلك، حيث سارت على طريق أن تكون معهدا لإعداد معلمى العلوم باللغة العربية. وعندما نالت دولة غانا استقلالها، أواخر خمسينيات القرنى الماضى، وأعدت العدة للاحتفال بهذا الاستقلال، أرسل عبد الناصر كلا من أنور السادات، والصحفى النابه أحمد بهاء الدين لتمثيل مصر فى هذه المناسبة، وكتب بهاء بعد ذلك أنهما لاحظا، عند التجوال بين بعض القبائل الإفريقية، كيف أن رجال الإرساليات الأجنبية الدينية لم يكونوا يعظون الناس بالكلام، والخطب والمواعظ، وإنما بتقديم المساعدات الصحية، والإرشادات الزراعية، وتعليم القراءة والكتابة، وكل هذا مجانا، فلما كان الناس يسألون: لماذا يفعلون لهم هذا؟ كانت الإجابة بأن دينهم يأمرهم بمساعدة الضعفاء والحدب عليهم، فيقبلون على اعتناق ديانتهم. وعلى العكس من ذلك، لاحظ بهاء الدين أن مبعوثى الأزهر فى ذلك الوقت، كانوا خبراء «كلام فى كلام»، بتقديم العِظات التى لا تخرج عن دائرة الألفاظ والجمل، واستنتج من ذلك أن من الضرورى أن يكون بعض خريجى الأزهر على دراية بالعلوم الحديثة، التطبيقية والنظرية، وألا يبتَعث إلا هؤلاء إلى مثل هذه المجتمعات المتخلفة الفقيرة. وكان هذا بداية التفكير فى «تحديث» الأزهر، عام 1961، بإدخال التخصصات العلمية النظرية والتطبيقية فى مناهجه فتتغير الثقافة الأزهرية من الاقتصار على الدائرة الدينية بالمفهوم الضيق، إلى رحابة الأفق الثقافى الواسع، والتناغم مع إيقاع التقدم العصرى. كما بينا فى دراسة سابقة، فإن هذه التجربة، لم تسر وفق منهجية علمية سليمة، فاقتصرت نتائجها على إضافة نفس التخصصات القائمة فى الجامعات المدنية، وكأن كليات الأزهر المسماة «الحديثة» مجرد أوعية ملئ كل منها بزيت وماء، فظل الزيت زيتا، والماء ماء!! ولعلنا الآن يمكن أن نشير إلى مجموعة آفاق نتصور أنها تمثل طرقا منهجية علمية لتجسر الفجوة بين الثقافة والتعليم: أولا- بالنسبة للتعليم: 1- خرافة التصنيف إلى «العلمى» و»الأدبى»: فالصراخ محتدم منذ عدة سنوات حول تلك الظاهرة المؤسفة التى تؤكد تضاؤل الإقبال على التخصص العلمى، وازدياد الإقبال على التخصص الأدبى، لكن أحدا لا يسأل ابتداء: وهل هذا التقسيم صحيح أصلا، وهو ما يمتد كذلك إلى كليات الجامعة، فيقال: هذه كليات أدبية، وتلك كليات علمية؟! إن القضية يمكن أن تجرنا إلى نقاش مطول، لكن، محاولة لاختصار الطريق، فإن الصفة العلمية إنما تنصرف بالدرجة الأولى إلى «منهج التفكير والبحث»، وبالتالى فإننا نجد دراسات متعددة فى اللغة، هى «علمية» بالدرجة الأساسية، وهكذا قل بالنسبة للجغرافيا والتاريخ، بل وهناك تيار كبير فى الفلسفة يقيمها على أسس علمية، وكان من مظهر ذلك تأليف الدكتور زكى نجيب محمود عام 1957 كتابا بعنوان (نحو فلسفة علمية) كان من حسن حظى الشخصى أن درسته على يديه فى آداب القاهرة فى ذلك الوقت. لقد أضر هذا التصنيف غير العلمى كلا من التربية والثقافة، حيث يكاد يعلن بصريح العبارة أن اللغات والدراسات الإنسانية والاجتماعية غير علمية، وبالتالى فهى تخاصم التوجه العصرى فى مختلف أنحاء العالم، كما تعتقل طلاب التخصص العلمى- بالمعنى الحالى- فى المعامل، بعيدا عن عالم الإنسان الرحب، والاجتماع الواسع. فالأقرب إلى الصواب إذن أن نقترح تصنيفا آخر، وليكن: الثقافة الإنسانية، والثقافة الطبيعية، مع ضرورة التزاوج بين هذا القسم وذاك، بحيث يدرس الطالب بعضا من القسم الآخر، إلى جوار تخصصه، ومن ثم نردم تلك الهوة السخيفة بين المتعلمين. 2- معلم المعلم: من المقولات المستقر الرأى عليها فى مختلف الثقافات ونظم التعليم، أن يكون محور التغيير والتطوير هو «المعلم»، وإذا كانت هذه القضية واسعة المساحة، متشعبة القضايا الداخلية، فإننا نركز هنا على ما يُعرف باسم «معلم المعلم»، وهو ما يكون قائما فى كليات التربية، وأبسط ما يمكن الإشارة إليه هنا أن آلاف الطلاب الذين نُعِدهم فى كليات التربية كمعلمين، سوف يقومون هم، بعد تخرجهم بدورهم بتعليم ملايين الأبناء، مما يلفت النظر إلى خطورة مثل هذه الكليات وتأثيرها على أجيال ضخمة، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر لا قدر الله. وحتى نعرف مكانة الإعداد الثقافى لمن سوف يكون معلما، نجد أن الإعداد فى مادة التخصص يستغرق 70% من جملة ساعات الدراسة، والعلوم التربوية والنفسية: 25%، فلا يتبقى للإعداد الثقافى سوى 5%، مع أن المتفق عليه الآن، هو التركيز على توفير قاعدة علمية وثقافية كلية عامة، حيث إن ما يتصل بالتخصصات الدقيقة، يتغير من وقت لآخر، مما يجعل ما يتلقاه الطالب خلال دراسته منها، عديم الفائدة بعد فترة قصيرة، لكن الإعداد الكلى العام يتيح الفرصة لسرعة استيعاب ما يستجد بعد فترة قصيرة من التدريب، ونتيجة هذا لابد من توسيع دائرة الإعداد الثقافى. كذلك.. فنحن بحاجة إلى تصحيح ثلاث خطوات تخريبية تمت داخل الكثرة الغالبة فى كليات التربية، خلال العقد الأول من القرن الحالى: أولاها: تغييب الوعى التاريخى بما شهدته المجتمعات الإنسانية من تجارب ونظم وأفكار فى التعليم، مما كان يتم تدريسه تحت عنوان (تاريخ التربية)، وكذلك اغتيال ذاكرة الوطن التعليمية، وهى مهمة ما يسمى (تاريخ التعليم فى مصر)، بالقدر نفسه، بحجة مخجلة، ألا وهى أن المعلم ليس بحاجة إلى هذه الذاكرة. ثانيتها: تغييب الوعى الفلسفى، الذى هو أساس الوعى الثقافى، بمحو ما يتصل بالأصول الفلسفية للتربية، وفلسفة التربية، وبالتالى لا ندرى كيف نأمن لمعلم نُسلمه فلذات أكبادنا وهويجهل التيارات الفكرية الأساسية فى العالم؟ ثالثها: كان برنامج الإعداد سابقا يحرص على توفير ساعة حرة تقوم على حوار مفتوح لمناقشة قضايا التعليم ومشكلاته، مما كان سبيلا لتوسيع الآفاق، ولَحْم الطالب بمشكلات العصر وقضاياه، فإذا بهذا الجانب يحذف بجرة قلم!! 3- المستعمرات الأجنبية الثقافية: وهى جملة المؤسسات التعليمية، سواء على مستوى التعليم الجامعى أو ما قبله، التى تُعَلم بلغة أجنبية، خاصة تلك التابعة لهيئات غير مصرية، وقد كنا قد اسميناها فى دراستنا السابقة بالأهرام: «مستوطنات»، لكنها فى الحقيقة «مستعمرات»، حيث كل ما يتم داخل جدرانها يكرس للثقافة غيرالعربية المصرية. ونكرر هنا ما سبق أن أكدنا عليه من أن القوانين، إذا كانت تفرض على هذه المستعمرات: تعليم اللغة العربية، والتاريخ الوطنى، والدين، فإننا نؤكد أن هذا حبر على ورق. ووزارة الثقافة، إذ تحمل مسئولية قيادة العمل الثقافى فى مصر، لا ينبغى أن تنظر إلى هذه القضية باعتبارها شأن وزارة أخرى، فالمسئولية الوزارية تضامنية، فماذا لو كان عمل وزارة يسير فى طريق مغاير كثيرا للطريق الذى تختص بتأمينه وطنيا وزارة أخرى متخصصة؟ إن ما تنتجه وزارة الثقافة مما ترى أنه يصب فى طريق تعزيز الهوية الوطنية، بما تقوم عليه من لغة قومية، وتاريخ وطنى، ودين، زبائنه يتناقصون عاما بعد عام، لا عن تناقص فى عدد السكان، بل لأن مصانع التنشئة تقوم بصياغة شخصيات، إذ تحمل الجنسية المصرية، لكن عقولها ومشاعرها وذاكرتها وانتماءها يسير فى اتجاه دول أخرى أجنبية. 4- العقول الخاوية: فإذا كان بعض المواطنين أرادوا التعبير عن موقفهم المعارض لبعض السياسات القائمة، بما سموه «الأمعاء الخاوية»، نتيجة الإضراب عن الطعام، فإن الأخطر حقا هو أن ما لا يقل عن 17 مليون مصرى، يعيشون حالة «عقول خاوية»، نتيجة افتقادهم لأبسط أدوات التواصل مع المعرفة، وهى القراءة والكتابة. إن مما يُشعرنى بالمهانة الوطنية، أن الدعوة لإزالة وصمة الأمية بدأت فى مصر عام 1866، تحت قبة أول مجلس نيابى، وقبل أن تظهر عشرات الدول على خريطة العالم، وكان عدد سكان مصر 5 ملايين نسمة، فكيف بالله علينا يمكن أن يغمض لنا جفن، عندما نعرف أن عدد الأميين، بعد 147 عاما، أصبح أكثر من ثلاثة أضعاف عدد سكان مصر فى تلك الفترة؟ إنها ليست مسئولية وزارة التربية وحدها، بل لابد أن تشارك وزارة الثقافة المسئولية فى هذا (فضلا كذلك عن وزارات أخرى)، حيث ان هذا العدد يعنى حرمانه من الثمرات الثقافية التى تنتجها الوزارة المختصة بالثقافة، فى وقت نشكو فيه دور النشر من تراجع مؤسف فى توزيع الكتب، حيث أصبح ملايين الأميين يجدون ملاذا آمنا لأميتهم لدى أجهزة إعلام عليها تحفظات أكثر من أن تعد وتحصى فى صياغة العقول والمشاعر. 5- تقويم لا امتحانات: فمنذ أكثر من ثلاثين عاما، عقدت ندوة فى رحاب جامعة عين شمس، صدرت فى كتاب بعنوان (التقويم كمدخل لتطوير التعليم) أبرزت فيها خطورة «فيروس» الامتحانات فى مصر، وكيف أنه إذ يتمحور حول قياس «المعرفة» وحدها، فسوف تنجر كل أجهزة ومسئوليات وطرق التعليم حول اللهث وراء نتائج الامتحانات، فضلا عن الانتشار الوبائى للدروس الخصوصية. إن لدينا رصيدا مذهلا من البحوث والدراسات والكتب والمشروعات، منذ عشرات السنين، التى تناولت هذه المشكلة، واقترحت حلولا لها، ومن ثم فلسنا بحاجة إلى أن نمضى وقتا آخر، يستغرق شهورا لدراسة هذه القضية التى تكاد تقضى على مهمتى التعليم والتعليم، حيث أصبح الهدف للجميع، هو مجرد الحصول على مجموع درجات عال، ترسم له الامتحانات كيفية الحصول عليه، بمجرد « الخزن المعرفى » ، لا كيفية التفكير، وسعة العقول، وثراء الثقافة، وارتفاع مستوى التذوق الجمالى، واكتساب مهارات التناول العملى الإجرائى. 6- التعليم البنكى: وهو مصطلح صكه المفكر البرازيلى باولو فرير ليعبر به عن نوعية التعليم الذى يركز على حشو أدمغة التلاميذ بالمعلومات المجردة، من غير أن يصاحب هذا عمليات نقد وتصنيف وتحليل وتوظيف، فكأن المعهد التعليمى «يودِع» لدى الطلاب رصيده المعرفى، وفى وقت الامتحان يقوم باسترداه، وإن كان فرير حسن الظن، فالودائع البنكية تزيد عادة وفق نسب الربح المخصصة، ومن ثم فالأقرب للتوصيف، أن المعاهد التعليمية تتعامل مع الطلاب مثلهم مثل صناديق الخضار والفاكهة، فبعد تفريغها لا نجد أن الصناديق قد تأثرت بما كان فيها، مما يجعلنا نتفهم منظر الطلاب، عقب الامتحانات وهم يقذفون كتبهم المدرسية فى سلات المهملات. والحق، أن مدارسنا بحاجة ماسة إلى أن تضج بصور من الأنشطة، خارج نطاق المناهج المقررة الرسمية الجافة، تلك الأنشطة التى نكاد نؤكد أنها قد اختفت من الكثرة الغالبة من المدارس، حتى تستطيع أن تواجه الطلب المتزايد على الالتحاق بالتعليم، فى الوقت الذى لا تتنامى فيه المبانى التعليمية مع نسبة الإقبال. إن هذه الأنشطة كانت هى « المشتل» الحقيقى لممارسة الصور المختلفة للإبداع الفكرى والفنى والثقافى على وجه العموم، ومفروض ألا تترك وزارة الثقافة وزارة التربية وحدها تواجه هذا الموقف. إن جمعيات الخطابة، والعلوم، والموسيقى، واللغة العربية..وغيرها هى ساحات التعليم الحقيقى . وفى هذا الشأن فلابد أن يتحرك المجتمع لإنقاذ جوهر عملية التربية، التى تتناول تنمية المهارات التكنولوجية، وصورالتذوق الجمالى، ومقومات الكفاءة الجسمية، والتوجهات الأساسية للتربية السياسية الوطنية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بصندوق قومى لتمويل التعليم، بحيث يتجاوز الأشكال القائمة، حيث قلما تثمر أو تغنى من جوع. إن مشروع قناة السويس الذى هرع إليه كثير من المواطنين يدفعون عن طيب خاطر، لا ينبغى أن يعلو فوق المشروع الوطنى الحقيقى وهو بناء الإنسان بناء غير ذى عوج كما أصبح الأمر عليه الآن، وإلا فإن هذا الإنسان « الأعوج» يمكن، لا سمح الله، أن يضيع كل هذه الجهود الضخمة فى الاستثمار المادى. ثانيا : وزارة الثقافة: وتحت مظلتها، نجد الكثير من المرافق التى يمكن أن تعين على جسر الفجوة بين الثقافة والتعليم، وهو الأمر الذى قد يحتاج إلى دارسة مطولة مستقلة ، لكننا نكتفى هنا ببعض الأمثلة: 1- المجلس الأعلى للثقافة: وهو الذراع القوى فى المهمة الثقافية، وهو يضم الكثير من اللجان التى لا تكاد تترك جانبا من جوانب الثقافة إلا ويخصص له لجنة تضم أبرز المتخصصين، وهناك لجنتان لهما دور واضح فى عملية التنشئة والتكوين التربوى، وهما لجنة ثقافة الطفل، ولجنة علم النفس، فضلا عن لجنة متخصصة باسم (لجنة التربية)، التى أشرف بأن أكون مقررا لها . وقد سعت لجنة التربية أن تنسق فى العام الماضى بينها وبين لجنة علم النفس، حول قضية : ما الذى يمكن لعلم النفس أن يقدمه للتربية، وما الذى يمكن للتربية أن تقدمه لعلم النفس، لكن ظروفا لا محل لها هنا، لم تيسر تحقيق التعاون المأمول. ومن أبرز ما يقوم به المجلس أيضا هذا الكم الضخم من الإصدارات فى مختلف التخصصات، مما كان له أثره فى إثراء الثقافة فى مصر وخارجها، وزاد هذا بظهور مركز قومى للترجمة، لكن الغريب، أننا قلما نجد كتبا فى التربية، هنا وهناك. صحيح أن الكتب المترجمة، غالبا ما يتقدم بها مهتمون ومتخصصون، وبالتالى فإن التقصير هنا يرجع فى جزء كبير منه إلى أساتذة التربية الذين لم يقدموا كتبا بحاجة إلى الترجمة. وهنا نلفت النظر إلى علة جوهرية تكمن وراء ذلك، فاللجان العلمية للترقية بكليات التربية لا تعتبر الترجمة من الأعمال الأساسية التى تدخل فى التقويم، فيتكاسل كثيرون عن بذل الجهد المطلوب للترجمة، وهو جهد ضخم بغير شك، ما دام غير ذى وزن للترقية، ومواجهة هذا الوضع السيئ فى يد المجلس الأعلى للجامعات، ذلك أن استمرار هذا الباب مغلقا، يحرم الثقافة فى مصر من ثمرات العديد من الأعمال العلمية الجديدة والمتميزة فى عالم التعليم. وعلى سبيل المثال، فقد اقترحنا عمل كتاب نعيد فيه نشر مقالات ودراسات كتبها مفكرون ومثقفون، غير التربويين المتخصصين، لتأكيد أن قضية التعليم من الخطورة بحيث لا ينبغى أن ينفرد بها التربويون وحدهم، فإذا بالإجابة الصادمة، بأن الوضع المالى لا يتيح هذا. والشىء نفسه، بالنسبة لاقتراحنا إصدار دورية متخصصة فى الدراسات التربوية، والتى يمكن أن تربط المئات من أساتذة العلوم التربوية بهذه المظلة الثقافية، خاصة وأن فكرة المجلة ألا تكون مجرد وعاء لنشر بحوث فنية متخصصة، من أجل الترقيات، بل تحمل دراسات فكرية، ذات توجه ثقافى، فضلا عن السعى لإشراك مثقفين ومفكرين ، من مجالات شتى للمساهمة فى هذا الجهد الذى حلمنا به، فإذا به لا يعرف طريقه للتنفيذ ، فضلا عن مجرد تقديمه أصلا، عندما عرفنا بالضيق المالى الخانق. 2- فإذا ولينا وجهنا شطر الهيئة المصرية العامة للكتاب، وخصصنا بالذكر المشروع القومى الرائع المعروف بمكتبة الأسرة، فإننا نلاحظ ندرة تضمينه لكتب لعلماء التربية المصريين، باستثناء بعض ما حظيت به بعض كتابات أستاذنا الدكتور حامد عمار، وهى إضافة رائعة حقا، لكن الحق يؤكد أن هناك كتابات أخرى كثيرة تستحق النشر، ولا تنشر. 3- ولا ينكر إلا جاحد ما تقوم به الهيئة الخاصة بقصور الثقافة، التى تقوم بنشر عدة سلاسل، لكننا نطمع أن تفتح الباب لسلسلة تربوية تسد احتياجات الآباء والأمهات، بل وكل من له صلة بعملية التنشئة لتقديم قضايا ومشكلات، يتناولها متخصصون بأسلوب بسيط، بعيدا عن جفاف البحوث والدراسات المتخصصة، وسلسلة مثل هذه تقع فى قلب مهمة قصور الثقافة، التى هى فى الأصل مرحلة متطورة من البذرة الأصلية التى كان اسمها ( الجامعة الشعبية) ، مما يعزز مأمولنا فى إيجاد صورة من صورما يمكن تسميته ب « التربية الشعبية» ! 4- المعاهد الفنية، مثل معهد السينما، ومعهد الباليه، وغيرهما من معاهد متخصصة فى قطاعات الفنون المختلفة، وهى تقوم بالفعل بالكثير مما يكمل مهمة وزارتى التربية والتعليم العالى. وأخيرا: فإننا نأمل وأن تعيد كل من الوزارتين فيما فكر فيه كل منهما فى وضع استراتيجية بها، فإذا كنا نعيش عصر التخصص الذى يبرر هذا، لكن عصرنا يعيش أيضا تحت مظلة ( وحدة المعرفة) مما يقتضى أن تعيد الوزارتان النظر فى كيفية التنسيق والتعاون بين بعض مهامهما، حتى يعزز كل منهما مهمة الآخر، أما أن يكون السعار هو (كل فى فلك يسبحون) فسيوف تكون الخسارة لكل منهما، وأخطر من ذلك، خسارة الوطن والمواطن. تنويه: التلميذ المشار إليه فى صدر الدراسة هو نفسه كاتب هذه السطور. لمزيد من مقالات د.سعيد اسماعيل على