قضايا التعليم متعددة ومشكلاته لاتنتهى، وتسكن كل بيت، وتمس كل مواطن وتشغل كل أسرة، وغنى عن البيان القول إن ربح معركة التقدم فى مضمار السباق بين الأمم، يظل دوما مرهونا بالقدرة، على بناء نظام تعليمى سليم وخلاق، وبغير ذلك تكون الهاوية والخطر. لذا فإن الأمر لايحتمل تهاونا فى البحث عن حلول حقيقية وجذرية، لأن الظروف التى تمر بها «أم الدنيا» تجعل منها «أمة فى خطر»، وتحتاج إلى ركوب «صاروخ فضائى» لتغادر مستنقع التخلف إلى سماوات الرقى والازدهار. ومن بين الأسس والركائز التى تتصل أسبابها بهذه القضية مسألة اختيار «وزير التربية والتعليم»، فى مصر، وهى مسألة تبدو بعيدة عن المعايير الواجبة أو المواصفات المطلوبة لضبطها، بقدر الاختلاف فى الرؤي حول ما ينبغى أن يكون عليه الوزير: مختصا أو متخصصا، سياسيا أو تكنوقراطيا، أهل ثقة أم أهل خبرة، تربويا أم غير تربوى..إلخ. ولعل استعراض تاريخ اختيار وزراء التعليم، منذ عام 1837 يكشف عن أن معظمهم افتقدوا الجدارة والاستحقاق للمنصب إلا فيما ندر..! يجتر الشعب معاناته ويقاسى منظومة تعليمية ترسخ «متلازمة التخلف» خطورة الأمر تتجلى فى أن «الأمن التربوى» - سوية النظام التربوى- هو ركيزة مفصلية لكل صور الأمن الأخرى، سواء العسكرى أو غيره، بحسبان أن وظيفة التعليم الأساسية هى تنشئة القوى البشرية المزودة بعلوم العصر وفنونه، ومن ثم لابد من طرح سؤال ضرورى-ابتداء- من هو الذى يستحق أن يكون وزيرا للتعليم فى مصر؟بالقطع لاتبدو الإجابة فى سهولة السؤال.. فى ظل دراما تعليمية متخمة بالمآسى الاغريقية.. فى هذه السطور يحاول الدكتور سعيد إسماعيل على -أحد كبار خبراء التربية - تقديم إجابة عن السؤال العسير، ويطرح رؤيته الخاصة لكى تكتسب عملية «بناء الإنسان» زخما يفجر طاقات التفكير والإبداع، لا التكفير والإيداع، لتسير قافلة التقدم المصرية صوب الازدهار، بغير أن يصير « موضوع تعبير» كتبته تلميذة «نقطة عار» فى جبين التعليم المصرى، مثلما حدث فى عصر مبارك..! نريد فى البداية أن نحدد للقارئ أمرين: أولهما: أننا نحصر التناول هنا فى وزارة التربية والتعليم، دون التعليم العالي، التى استحدثت فقط عام 1961، وكان أول من تولاها هو الدكتور عبد العزيز السيد، فضلا عن أن لها- ربما – معايير أخرى غير تلك التى يجب توافرها بالنسبة لوزارة التربية والتعليم، وإن جمَع وزراء فى بعض العهود بين الوزارتين، مثل: الدكاترة: مصطفى كمال حلمي- أحمد فتحى سرور- حسين كامل بهاء الدين. ثانيهما: أننا– اصطلاحا- نقصد « بالمختصين « هنا هؤلاء الذين تولوا مواقع تعليمية فى نظام التعليم، سواء بالجامعة، أو وزارة التربية نفسها. ونعنى بالمتخصصين، هؤلاء الذين تكونوا وانشغلوا بالعلوم المختصة بالشأن التربوى والتعليمي.. وقد أقمنا هذه التفرقة بناء على أن للتعليم جانبين: أحدهما، التعليم باعتباره « نظاما»، أى : مجموعة من المؤسسات التعليمية، التى تختلف فى علومها ومهامها وسنواتها الدراسية، وقواعدها المنظمة للعمل فيها. وثانيهما، التعليم باعتباره « عملية» « . ومن هنا كان لنا أن نطرح التساؤل التالي: من الذى يستحق أن يكون وزيرا للتربية والتعليم ؟ لا نقصد هنا التساؤل عن أسماء بعينها ، وإنما نقصد المصدر المهنى والأكاديمى الذى ينبغى الاعتماد عليه لاختيار وزير التربية ؟ صحيح أننا نعلم أن ليس لدينا فى مصر ، معايير مهنية وأكاديمية ، متفق عليها، تحدد اختيار الوزير، فإذا وجدت مواصفات معينة تتوافر فى واحد ، فسوف لا تجدها متوافرة فى آخر ، وقد أصبح المعتاد أن يتم الاختيار وفقا لمعايير متعددة، أبرزها بطبيعة الحال « الموقف الأمني»، وكذلك المعرفة الشخصية لدى أهل السلطة القائمة، فى العهود المختلفة ، والمواقف الخاصة ، وهناك غير هذا وذاك، من معايير ومواصفات، مما يظهر أو يختفي، وفقا لمختلف العهود والحقب التى مرت بها مصر، منذ أن عرفت نظام الوزارات، منذ ما يقرب من قرنين من الزمان. على أية حال فهناك وجهتا نظر فى الفضية : أولاهما ، ترى أن منصب الوزير هو منصب سياسي، ومن ثم فلا ينبغى بالضرورة أن يكون من أهل التخصص فى الوزارة التى يتولى أمرها ، وإنما هو مدى الخبرة والالتزام برؤية سياسية كلية ، ثم الاعتماد على مجموعة المستشارين الفنيين المتخصصين الذين من المفترض الاستعانة بهم أما وجهة النظر الثانية ، فتقول بضرورة أن يكون الوزير من أهل الاختصاص فى الوزارة التى يتولى أمرها ، حيث إنه عندما لا يكون متخصصا يستغرق وقتا طويلا حتى يلم بأطراف القضايا والمشكلات التى تواجهها وزارته ، فضلا عن ضعف قدرته على التمييز بين الغث والسمين فيما يقدم له من استشارات ، بل ويمكن لهذا وذاك من المستشارين أن يتملك أذنه وعقله فيصبح هو الوزير الخفى . والحق أن وجهة النظر الأولى ، كانت هى السائدة قبل قيام ثورة يوليو 1952 ، فرأينا عددا ممن تولى أمر وزارة التربية حَكَم اختيارهم بالفعل البعد السياسي، مثل: على مبارك ، ومحمود سامى البارودى ، وسعد زغلول ، وعدلى يكن، والأَخَوان: أحمد، وعلى ماهر ، وأحمد نجيب الهلالى ، ومحمود فهمى النقراشى . ونجد أن وزارة مهمة مثل الداخلية ، لم يكن يتولاها دائما ضابط شرطة ، بل كان هناك حرص على أن يكون الوزير هنا « سياسيا « ، ومن هنا تولى أمرها ، مثلا ، محمود فهمى النقراشى ، وكذلك فؤاد سراج الدين ، فى فترات مختلفة . وفى عصرنا الحاضر رأينا أكثر من نموذج لنساء تولين وزارات الداخلية والدفاع فى بلاد مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، مما يؤشر إلى أنهن لم يتخرجن من كليات عسكرية. أما الوزراء الذين اصطلح على تسميتهم بالتكنوقراط « المتخصصين « فقد عرف طريقه إلى الحكم فى مصر فى عهد ثورة يوليو 1952، نظرا لسيادة المعيار الشهير الذى ميّز بين من سُموا ب» أهل الثقة «، ومن سُموا ب» أهل الخبرة «، إذ لما كان ضباط يوليو لا خبرة سياسية سابقة لهم فى بداياتهم، فقد آثروا أن يعتمدوا على عدد من أساتذة الجامعات الذين لم يعرف لهم انتماء سياسى من قبل ، وينحصرون فى تخصصهم ، فيكونون أقرب إلى « سماع الكلام « ونهج « تمام يا فندم «!! لكن وزارة التربية ، ربما دون معظم الوزارات، تميزت ، خلال فترات طويلة ، باختيار نفر من المفكرين ، ممن يعدون علامات حقيقية، وقامات بارزة على طريق الفكر والثقافة ، ومعروفون بأنهم أصحاب رؤية كلية ، و لعل أبرزهم فى هذا : أحمد لطفى السيد، والدكتور طه حسين الذى تولى وزارة المعارف ، حيث كانت تسمى هكذا ، فى عهد وزارة الوفد منذ عام 1950 إلى 1952 ، وكذلك الدكتور محمد حسين هيكل ، والدكتور عبد الرزاق السنهورى فى فترات سابقة. وإذا كنا نؤمن بالفعل بأن منصب الوزير هو منصب سياسي، ومن ثم فلا شرط أن يكون متخصصا ، لكن ما يجرح هذا المعيار أننا نرى التزاما به فى بعض الوزارات ، منذ عدة عقود ، مثل الدفاع التى لا يتولاها إلا ضابط بالقوات المسلحة ، والداخلية التى يتولاها دائما ضابط شرطة ، ووزارة الصحة التى يتولاها دائما طبيب ، ووزارة الأوقاف التى يتولاها دائما عالم من علماء الدين الإسلامى ..وهكذا الأمر بالنسبة لوزارتى المالية، والعدل، مما يثير التساؤل : لماذا وزارة التربية إذن التى ترتفع الأصوات بألا ضرورة لمتخصص أن يتولاها ؟ ويرد البعض بأن هذا وذاك ، ممن وقع عليهم الاختيار، كان ( غالبا ) بحكم اعتباره أستاذا جامعيا ، فهو يعد خبيرا فى شئون التربية والتعليم ، وهذا رأى يتسم بالخلل وسوء فهم المقصود بالشأن التربوى ، فلم تعد التربية أمرا يعتمد على مجرد الخبرة والممارسة والتقليد ، وإنما هى أمر يعتمد على مجموعة واسعة ومتعمقة فى علوم التربية والنفس والاجتماع ، فضلا عن الخبرة والممارسة ، وما يحفل به ميدان التعليم العام من قضايا ومشكلات ، وما يتسم به من خصائص ، هو أمر يختلف كثيرا عما يحدث فى التعليم الجامعى . ولعلنا نكون بحاجة إلى وقفة « فكرية» أمام الخبرة المصرية فى اختيار وزراء التربية والتعليم ، لنرى الموقف العلمى والسياسي، فى هذه الملحمة الطويلة . إدارة التعليم تولد فى رحم الجيش: لم يكن هناك قبل عهد محمد على إدارة مختصة بالتعليم، فضلا عن القول بوزارة ،خاصة بذلك، ولما كان المقصد الرئيسى للتعليم فى هذه الفترة يصب فى ساحة الجيش الذى رأى محمد على ضرورة وجوده بالشكل العلمى الحديث، فإن هذه المؤسسة العسكرية المنشودة ينبغى أن تنبثق عن أساسها الحقيقى وهو« التعليم » ؛ الذى يُعَلّم ، ويُدرب، ويخترع، ويترجم، ويبتكر، ويفكر، بحيث يمكن أن نعبر عن ذلك، وفقا لمقولاتنا المعاصرة: إن الأمن التربوى ، فى واقع الأمر، هو الأساس الجوهري، والركيزة العلمية التى يعتمد عليها الأمن العسكري.. وخلُص محمد على من هذا إلى أن يكون الشأن التعليمي، من المهام العسكرية، فإذا بما كان يسمى ( ديوان الجهادية) المختص بإدارة الشأن العسكري، هو نفسه الذى كان يتضمن الإدارة التى تقوم فى الوقت نفسه بالشأن التعليمي. واستمر هذا طوال الفترة التى امتدت من عام 1825، و1837. لكن شئون التعليم توسعت وتعددت وتعقدت، بحيث بدأ التغاير يتضح بين الشأن التعليمى والشأن العسكري، فضلا عما كان يجرى على الساحة المصرية وما جاورها من تمدد سريع ومدو للجيش المصري، على الساحات السعودية والسودانية، والشامية..حتى اقترب من دولة الخلافة العثمانية نفسها، فكان إنشاء إدارة تختص بالشأن التعليمى سميت « مجلس شورى المدارس»، وإن ظلت فى أحضان الجيش، أى تابعة لديوان الجهادية، مما استتبع ألا يبرز قيادى لهذه الإدارة، وكان ذلك عام 1835. ثم إذا بالنشاط التعليمى الذى شهدته مصر فى هذه الفترة، وكأنه « مركب فضائي» ، أخذ يعلو بمصر وبجيشها إلى آفاق عُلا، فكثر موظفوه، وتعددت مهامه، وكثرت مسئولياته، وأصبح يمثل عبئا على الجيش ، فكان التفكير فى منح الشأن التعليمى الاستقلال « الإداري» عن الجيش لتكون له إدارة مستقلة، سميت ( ديوان المدارس) ، وكان ذلك عام 1837، لكن ظل التعليم مستمرا فى وظيفته الأساسية ألا وهو: تنشئة القوى البشرية، المزودة بعلوم العصر وفنون، لخدمة الأهداف العسكرية. وهكذا كانت الجهة الأولى فى التاريخ المصرى التى أنيط بها إدارة الشأن التعليمى تسمى « ديوان المدارس « ، وذلك عام 1837. وكان أول من تولى أمر ديوان المدارس سنة 1837هو « مصطفى مختار باشا»... وتأبى الظروف السيئة لمصر إلا أن توجه القوى الكبرى سهامها المسمومة المدمرة إلى العمود الفقرى للنهضة الكبرى التى شهدتها مصر طوال ما يقرب من ثلاثة عقود، ألا وهو القوات المسلحة، حيث قضت الشروط الدولية بعد هزيمة محمد علي، ألا يزيد عدد أفراد الجيش عن 18 ألف عسكري.. ولأن وظيفة التعليم كانت قد ارتبطت بالجيش بعروة وثقي، كان المردود سلبيا، وبعنف على التعليم ، فإذا بأعلام النهضة تتهاوي، وإذا بقوى التقدم تتراجع، ولم لا ؟ إنها المهمة التى ندب الغرب نفسه لتطبيقها دائما إزاء مصر: ألا يُترك لها الزمام فى النهوض الحضاري، بتحديد أغراضه، ومساحته، وآفاقه...لا مانع من التقدم، ولكن فى حدود دنيا، تجعل مصر لا تضعف حتى لا ينتهى ذلك إلى قيام ثورة ، فتكون خطرا على المنطقة، ولا تُترك إلى النهوض بحيث تكون مثل عمود الخيمة: قوة، يُحشى بأسها، فتكون خطرا من نوع آخر، ينافس قوى القهر والاستغلال العالمي!! البذور الأولى لإنشاء وزارة للتعليم: ثم تغير اسم « ديوان المدارس»، الهيئة المشرفة على التعليم، إلى « نظارة «، من الفعل « نظر» أى أشرف ، وكان ذلك فى عهد الخديوى إسماعيل، الذى كان رجلا طموحا إلى التحلل التدريجى من مظاهر السيادة العثمانية، فبدأ استخدام اسم «الناظر»، و«النظارة»، ولم يستطع استخدام لقب «وزارة» و« وزير» ، حيث أن هذا ما كانت تستخدمه الدولة صاحبة السيادة فى ذلك الوقت، وهى الدولة العثمانية، إذ كيف يستخدم المسود لقب السيد؟!! وكانت المرة الأولى التى ظهرت فيها إدارة التعليم فى صورة نظارة ، سنة 1871 ، وكان أول من تولاها هو « على مبارك « ، مما ساعد على اكتسابه لقب « أبو التعليم « فى مصر ، حيث ظلت فترة طويلة تسمى « بالنظارة « ، مثل كافة الوزارات ، فضلا عما كان يتميز به هذا الرجل من سعة أفق ، ودقة تفكير.. وإذا كانت إدارة التعليم قد أوكلت زمن محمد على إلى إدارة الجيش، فقد كانت هناك مبررات، بيناها ، من حيث اتجاه معظم النشاط التعليم لخدمة الجيش، لكننا نصدم ، فى عهد الاحتلال البريطاني، عندما نجد أن إدارة التعليم قد أُلغيت، ليصبح الشأن التعليمى من مهام نظارة الأشغال، مثلها فى ذلك مثل الجسور والترع والمصارف، ومسح الأراضي، واستمر هذا فترة غير قصيرة امتدت من عام 1891- 1906، وكانت إدارة التعليم تحظى من المسئول المشترك يومين فى الأسبوع!! إلى أن استقلت وتولى أمرها سعد زغلول، الذى برز بعد ذلك زعيما سياسيا بارزا. وعلى الرغم مما كتب وقيل عن حزم سعد زغلول ووطنيته، إلا أن القوة الحقيقية فى توجيه التعليم كانت للمستشار الشهير، «دانلوب»..والذى كان كثيرا ما يقوم بجولات تفتيشية على المدارس، حتى إذا أبصر أولو الأمر فى مدرسة سيارة قادمة، ورأوا من خلال نوافذها دنلوب « بطربوشه»، كان هذا يكفى كى تنتظم الأمور بسرعة، وتسارعت الأصوات المحذرة مؤكدة ظهور «طربوش دانلوب»، إلى درجة أن الرجل لما عرف هذا ، وتكاثرت مهامه، كان يكتفى بسيارته للمرور على بعض المدارس، مبرزة « طربوشه» ، دون صاحبه!! أما أول مرة ظهر فيها اسم « وزارة المعارف « فكان فى ديسمبر من عام 1914 ، التى تولاها عدلى يكن ، فى وزارة حسين رشدي، بمناسبة إعلان الحماية على مصر، وإسقاط السيادة العثمانية. ثم تسمت » بالتربية والتعليم ، عام 1955 ، حيث تولاها « كمال الدين حسين» ، أحد أبرز أعضاء مجلس قيادة الثورة . الفئات التى انتمى إليها من تولوا أمر التعليم: وباستقراء قائمة الذين تولوا أمر التربية والتعليم ، أيا كان الاسم ، منذ عام 1837 ، سوف نجد الانتفاء التام لمعايير الجدارة والاستحقاق ، إلا فيما ندر ، كما سوف نكشف فيما يلى .. فأكثر من تولوا أمر وزارة التربية هم خريجو كلية الحقوق ، حيث بلغ عددهم 27 وزيرا ، كان آخرهم الدكتور أحمد جمال موسى ، الذى ترك الوزارة عام 2005، ثم عاد مدة ستة أشهر على وجه التقريب، فى وزارة الدكتور عصام شرف، فترة ثورة يناير 2011. ومن أشهر هؤلاء : سعد زغلول ، والسنهورى ، وأحمد لطفى السيد ، ومحمد حسين هيكل ، والنقراشى ، وأحمد ماهر ، وعلى ماهر ، وأحمد فتحى سرور ، ومحمد عبد الخالق حسونة ، وعلى زكى العرابى ، وعبد السلام فهمى جمعة ، ومحمد حلمى مراد ، ومحمد حافظ غانم ، وغيرهم. أما المهندسون ، فقد كان أولهم هو أبو التعليم المصرى ، على مبارك ، ثم الدكتور حسن إسماعيل ، والدكتور يسرى الجمل، فالدكتور أحمد زكى بدر ، وآخرهم الدكتور محمود أبو النصر ، الوزير السابق. وكان للعسكريين نصيب بطبيعة الحال ، وكان أبرزهم شخصيات انغمست فى العمل السياسى ، مثل « محمد شريف « و « مصطفى رياض « ، و» محمود سامى البارودى « ، وآخرهم هو كمال الدين حسين، أحد ابرز قادة ثورة يوليو. وتولى أمر الوزارة أميران ، أولهما هو الأمير حسين كامل لمدة عام ، 1872 ، وهو الذى أصبح سلطانا لمصر بعد فرض الحماية عام 1914 ، وعزل الخديوى عباس حلمي، وثانيهما هو الأمير عمر طوسون ، عام 1874، والذى له كتاب مشهور عن البعثات العلمية فى مصر. وتولى أمر الوزارة من المتخصصين فى العلوم والرياضيات كل من العالم الشهير محمود حمدى الفلكى ، وكذلك الدكتور مصطفى كمال حلمى . ويمكن أن نضم لهؤلاء أيضا الأستاذ جمال العربي، الذى تخرج من تربية عين شمس، تخصص رياضيات، وأسعدنى الحظ أن درّست له عام 1974، كما أكد هو لي، وكان ذلك فى وزارة الدكتور كمال الجنزوري، وقت سيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فى النصف الأول من عام 2012. فماذا عن المتخصصين فى العلوم التربوية والنفسية التى هى القاعدة العلمية والفنية والمهنية للوزارة نفسها ؟ الحق أن هناك عددا ممن تخرجوا مما كان يسمى بمدرسة المعلمين العليا ، والتى كانت تجمع بين التخصص العلمى الأكاديمى وبين دراسة العلوم التربوية ، وإن بنسبة قليلة ، وكان أول هؤلاء « محمد أحمد رفعت « ، وذلك فى شهر يوليو 1952 ، قبل الثورة مباشرة ، لكن كان أبرزهم حقا ، رائد التربية فى العالم العربى وهو إسماعيل القبانى ، والدكتور محمد عوض محمد، وأحمد نجيب هاشم ، وكذلك الدكتور عبد العزيز السيد ، والذى كان كذلك أول وزير للتعليم العالي، وأول مدير لليونسكو العربية ، وكان مدرسا لجمال عبد الناصر فى الكلية الحربية . ويستوقفنا هنا أن الدكتور عبد السلام عبد الغفار ، حيث كان هو أستاذ التربية الوحيد الذى تولى أمر الوزارة ، ويكون متخرجا من كلية التربية بجامعة عين شمس ؟!! ومن أساتذة التربية أيضا: الدكتور إبراهيم غنيم، فى العام 2012/2013، وكان رئيس الوزراء قد قابل بالفعل الدكتور على الجمل ، عميد تربية عين شمس فى ذلك الوقت، ليكون وزير للتربية، لكن يدا خفية سارعت، بالإشارة إلى اختيار « غنيم»!! وكان المتخصص الوحيد فى الطب الذى تولى أمر الوزارة، هو حسين بهاء الدين . أما منصور حسين فى العام 1985/1986، فكان المتخصص الوحيد فى الزراعة ، وجاء وزيرا للتربية . وتولى أمر الوزارة اثنان من تخصص التجارة ، أولهما هو « على عبد الرازق ، والثانى ، عادل عز ، وإن كان « قائما بأمر الوزارة « . وأقصر فترة قضاها وزير تربية ، هو « سعد اللبان « حيث استمرت وزارته من 24/7/، إلى 6/9/1952، فى الشهور الأولى لثورة يوليو. وأطول من تولى أمر الوزارة هو الدكتور حسين كامل بهاء الدين ، من عام 1991 حتى عام 2004 ، يليه مصطفى كمال حلمى الذى استمر ما يقرب من عشر سنوات ، منذ عام 1975 ، حتى عام 1984 وتولى بعض الذين شغلوا موقع وزير التربية ، رئاسة الوزارة ، فقط فيما قبل الثورة ، مثل : محمد شريف ، ومصطفى رياض ، فى القرن التاسع عشر ، وسعد زغلول ، وعدلى يكن ، ومحمود فهمى النقراشى ، وعلى ماهر ، فى القرن الماضي. وشغل بعض الذين تولوا وزارة التربية أيضا موقع رئاسة حزب مهم فى العهد الملكي، أبرزهم بطبيعة الحال سعد زغلول (الوفد ) ، وعدلى يكن ، والدكتور محمد حسين هيكل (الأحرار الدستوريين ). وإذا كانت مؤسسات إعداد المعلم ( مدرسة المعلمين العليا ، وكليات التربية ) هى المؤسسات التى تعد عشرات الألوف من المعلمين الذين ينبثون فى جميع ربوع البلاد ، يبنون أبناء ملايين المصريين ، وأساتذتها هم الذين – فى الغالب والأعم – يصممون مناهج التعليم ، ويؤلفون الكتب التى يتعلم منها ملايين التلاميذ ، وخريجوها هم أيضا الذين يضعون الامتحانات ويصححونها ، ومن ثم فهذه المؤسسات هى خطوط الإنتاج الرئيسية لكل ما يُشَغّل وزارة التربية بمختلف أجهزتها ، فما نصيبها منذ عام 1837 ، حتى عام 2014 من وزراء التربية ، أى مدة 178 عاما = 2136 شهرا ؟ صدق أولا تصدق ، عزيزى القارئ أن نصيب من تولى وزارة التربية من علماء العلوم التربوية والنفسية ، حتى التغيير الأخير، لم يزد على 49 شهرا طوال هذه المدة ؟ ، أى بنسبة 02, % !!! ليس انحيازا إلى كليات التربية بالنسبة لوزارة التربية، وإنما هو تساؤل نطرحه : إذا كان أولو الأمر يُحَكّمون المعيار القائل أن الوزارة منصب سياسى ، فلم لا يطبق هذا على جميع الوزارات ؟ وإذا كان المعيار هو التخصص ، فلم لا يطبق هذا على الجميع ؟ ثَبِّتوا لنا معيارا واحدا ، أيا كان ، فالمساواة فى الظلم مستوى من مستويات العدل !! قد يتصور بعض القراء ممن لا يعرفون كاتب هذه السطور أننى لا بد – باعتبارى أستاذا فى التربية – أن أكون متطلعا لأن أكون وزيرا ، فأبادر إلى القول بأننى بلغت ثمانية وسبعين عاما من العمر ، مما يعنى انتهاء تاريخ الصلاحية، فضلا عن دواعى أُخَر، بعضها شخصى ، وبعضها الآخر موضوعي، تجعل هذا الاحتمال، أدخل فى باب البحث عن العنقاء!! قسمات عامة فى خطاب وزراء التعليم: وبتحليل الخطاب الرسمى لكثير من وزراء التربية والتعليم فى العقود القليلة الماضية، نلاحظ عددا من القسمات الكلية العامة المشتركة، مثل: الخلط بين « المبادئ» ، و» الممارسة»، فعندما يشكو مواطن – على سبيل المثال- من نقص فى سلعة مثل ( الغاز) ، فلا يكون الرد عليه بأن الوزارة المختصة تؤمن بأهمية الغاز، وضرورة توفيره للمواطنين ، فهذا مسلم به ، وإنما يكون هذا المواطن بحاجة إلى أن يعلم أسباب المشكلة، ومظاهرها، ونتائجها، والإجراءات التى ينبغى أن تُتخذ لمواجهتها ، والاستحسان الذى يحصل عليه المسئول الذى ينهج النهج الأول قد يكون تقريظا ، وتصفيقا مؤقتا، أما النهج الثاني، فهو الذى يؤدى إلى تحريك الواقع إلى ما هو أفضل ، والاستحسان الذى يحصل عليه صاحبه يكون استحسانا « تاريخيا» ، وهكذا الأمر عندما تكون القضية المثارة هى «الامتحانات» ، حيث يهتم المواطن بأن يسمع تفسيرا وتحليلا لعملية وضع الأسئلة ( فعلا) ، وتنظيم إدارة الامتحان ، وتصحيحه ، واتجاه إجابات الطلاب ، من خلال الممارسة الفعلية، لكنه لا يعبأ كثيرا بأن يحلق المتحدث بحديثه فى أجواء( مبادئ) ، وأسس الامتحان ، كما ينبغى أن يكون، فمثل هذا تمتلئ به كتب العلوم التربوية والنفسية، ومجاله هو مجال «التثقيف التربوى » الذى يمكن أن تقوم به أجهزة متخصصة . إن الحديث عن واقع الممارسة الفعلية بنفس منطق الحديث عن « المبادئ»، إنما هو أشبه – مثلا- بوزن كمية من الفاكهة بمقياس المساحة!! • الانفرادية: فالتعليم إذا كان منظومة اجتماعية ضمن نظام مجتمعى كلى كبير، إلا أنه هو الآخر يتكون من منظومات فرعية متعددة : المناهج والمقررات والأبنية والامتحانات والكتب...إلخ ، ولكل منظومة فرعية خبراؤها المتخصصون فنيا، ومسئولوها المختصون رسميا ، وعندما تشهد إحدى هذه الساحات تغييرا أو تثار مسألة تتصل بها، قلما نسمع الحديث أو نقرؤه من مسئولها المختص المباشر، أو من الفنيين المتخصصين، وإنما تتجمع الخيوط كلها فى خطاب السيد وزير التربية، صحيح أنه بحكم موقعه الوزارى هو الذى يتحمل المسئولية السياسية أمام الرأى العام، وأمام القيادة السياسية، لكن ذلك يكون بالنسبة للسياسات العامة والأهداف الاستراتيجية، وربما يكون المكان المناسب هو تحت قبة البرلمان، وزمانه المناسب، المناسبات الرسمية العامة، أما بالنسبة للقضايا التفصيلية والإجراءات التنفيذية، والمشكلات الآنية المتغيرة دوما، المثارة أحيانا ، فإن هذا يكون خطاب الفنيين المتخصصين والمسئولين المباشرين المختصين. لكم دهشنا كثيرا من أن يجئ الخطاب الرسمى - دائما وأبدا- ليتناول كل صغيرة وكبيرة، فى كل المسائل، وفى كل القضايا، من الوزير وحده، على وجه التقريب، فهذا عبء ضخم ، كم أشفقنا عليه من تحمله رحمة به هو نفسه ، قبل أى إنسان آخر، فضلا عن أهمية مراعاة « الأصول». لقد فوجئت مرة باتصال بى من وزير فى يوم جمعة، وعلل ذلك بأن المسئوليات الملقاة على عاتقه لا تسمح له بترف التمتع حتى بيوم عطلة، وتكرر الأمر مرة أخرى وأنا فى مكتبه بديوان الوزارة مرة، من أنه لا يعود إلى منزله كل يوم على وجه التقريب إلا فى ساعة متأخرة من الليل!! إن هذا للوهلة الأولى يرفع من مكانة الوزير، بحكم عدد الساعات التى يمضيها فى عمله، لكننى أنظر إلى المسألة بمعيار آخر، حيث تؤكد مؤشرات القيادة العلمية الموضوعية الرشيدة أن أحد معاييرها المهمة، مهارة توزيع المسئوليات، ومهارة « تشغيل» فريق من المتخصصين والمختصين، حتى لا يصل إلى الوزير إلا «الأمور الكبيرة» ، والمهام الجسيمة. والحق أننا هنا لا ينبغى أن نوجه اللوم إلى الوزير وحده، ذلك أنه – فيما يبدو- نمط إدارى مصرى متوارث عبر القرون، من حيث تجميع الخيوط فى المركز الأعلي، ويصبح جميع العاملين وكأنهم « عرائس» فى مسرح العرائس!! ولعلنا نتذكر ، فى عهد مبارك، كيف أن تلميذة فى الصف الأول الثانوي، كتبت موضوعا فى مادة ( التعبير) عبرت فيه عن كراهيتها للرئيس الأمريكى فى ذلك الوقت (بوش) الإبن، حيث كانت سياساته التدميرية للعراق تحرق قلب كل عربي، فإذا بالمصحح يخشى أن يسجل موقفه ، فيحيلها إلى من هو أعلى منه، ...وهكذا تدحرجت القضية، حتى وصلت إلى الوزير نفسه ، الذى صدمنا أنه بدوره عجز عن البت فى المسألة ، ثم إذا بها تصل فى النهاية إلى رئيس الجمهورية ذاته، ليبت فى موضوع إنشا لطالبة فى الصف الأول الثانوي، حيث تكرم الرجل « بتفويت» المسألة، مما سجل نقطة عار فى جبين إدارة التعليم المصري. • كثرة التكرار: وهى نتيجة تترتب على « التفرد» ، فقضايا التعليم متعددة ، ومشكلاته لا تنتهى ، وهو يمس كل مواطن ، ويدخل كل بيت، ويشغل كل أسرة ، وإذا انفرد بالخطاب مسئول واحد ، كان عليه أن يتحدث كل يوم ، وعبر مختلف أجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة ، فى صورة ندوات وأخبار ومقالات وتحقيقات ومقابلات وكلمات افتتاح وخطب وأحاديث، وعبر العديد من المؤتمرات التى لا يكاد يمر أسبوع، إلا ونشهد نموذجا منها، ومن شأن هذا كله أن يحيط الناس آناء الليل وأطراف النهار بكم ضخم، حتى لقد أشار صحفى كبير إلى هذا بالنسبة لأحد وزراء التربية بأنه كان قد أصبح يخشى أن يفتح « الحنفية» ذات صباح، ليجدها تصب تصريحات لوزير التربية!! وخبراء الإعلام ينبهون دائما إلى خطورة التشبع الإعلامي» ، وكيف أن الجماهير إذا أصيبت « بتخمة إعلامية « خاصة بقضية معينة، فلربما أفقد هذا خطابها فاعليته ، والقدرة على التأثير، بل ومن المحتمل أن يتسبب فى آثار عكسية، والمثل العام يقول» الشئ إن زاد عن حده، انقلب ضده»!! • السرعة: صحيح أننا نعيش عصرا يتسم بإيقاعه السريع ، إلا أن « مدى السرعة» ليس موحدا لكل المسائل والقضايا ، وإنما هو يتسع ويضيق وفقا لمتطلبات كل مجال ، فالتخطيط لمعركة عسكرية – مثلا- يتطلب بالتأكيد وقتا أطول من الوقت الذى يرصد لعملية الهجوم الفعلى ، والتخطيط لبناء البشر لا يمكن أن يتساوى فى السرعة مع التخطيط الأول ، والزمن «الخاطف» الذى يحتاجه الهجوم العسكرى قد يكون الأصلح له فى النظم التعليمية التدرج والتأنى والمرحلية، لكننا إزاء هذا الحرص على إشعار الناس بأنهم أينما يكونوا سوف يدركهم خطاب التعليم الرسمي، حتى ولو كانوا فى بروج مشيدة، فى كل يوم، وفى كل مناسبة، وفى كل قناة إعلام، تجد أن هذا الخطاب يتسم « بالسرعة» غير المستحبة، و» العجلة» التى يمكن أن تنتج تسطيحا، يصعب إخفاؤه ، حتى أن المواطن يشعر أحيانا بأنه أمام «مضخة» مهولة متفرغة كى تضخ صورا لا حصر لها من الخطاب، وسوف تكون مهمة مؤرخ التعليم فيما بعد غاية فى الصعوبة عندما يريد التأريخ لفترات بعض الوزراء، ذلك أنه سوف يلهث ، إذا حاول أن يحصى كم القرارات والتصريحات والكلمات المعبرة عن الخطاب التربوى المعاصر فى مصر. • قِصَر النفَس : وهى نتيجة تترتب على « التفرد»، و « كثرة التكرار» ، و» السرعة» ، فإزاء الحضور الإعلامى المكثف المتواصل ، وإزاء الإصرار على تناول كل القضايا والمسائل، وعن طريق مسئول واحد، هو الأعلى غالبا، فمن المستحيل « بشريا» أن تحظى كل مسألة بما تتطلبه من تعميق ومتابعة، ومن المستحيل»زمنيا» أن تأخذ كل قضية احتياجاتها الحقيقية من البحث والتفكير والتحليل، وتصبح كل واحدة من هذه المسائل والقضايا ، وكأنها «ومضات» قد تخطف الأبصار بشدة بريقها ، ولكنها تختفى بعد لحظات ، ولهذا فالناس لابد أن تتذكر الضجة التى أثيرت فى كثير من الفترات عن « الغش» ، و» الكتاب الخارجي»، و» الدروس الخصوصية»، و « مدة العام الدراسي» ، و»مدة اليوم المدرسي»...إلخ، ونتساءل : هل تغير الحال فعلا بالنسبة لها ؟!! • التناقض: ولا شك أن « السرعة» ، و» قصر النفس»، لابد أن توقع الخطاب – أحيانا – فى تناقض ، ويكفى أن يجمع المراقب المحلل ما قيل بصدد أى قضية من القضايا المشار إليها آنفا ، فسوف يجد – يقينا – تضاربا وتضادا ، وكاتب هذه السطور مستعد أن يزود القارئ الذى يحتاج إلى دليل ، بنصوص فعلية تؤكد هذا ، حيث إن المساحة الحالية- على اتساعها – قد لا تتحمل، فضلا عن الخوف من إملال القارئ..وبعض الوزراء لا يعدمون الحيلة فى تبرير ذلك، بإلقاء التبعة على الصحافة- مثلا- بأنها نقلت عنه حديثا محرفا!! أو يفسره بأنه سوء فهم وتأويل، أو أحيانا ثالثة بأنه إنما كان يتحدث عن مجرد « فكرة»، لم تكتمل بعد، وهى فى طور البحث والدراسة، وليست « قرارا»!! • المظهر المتشدد: فالخطاب الرسمى التربوى غلب عليه غرام بإضفاء صفات على قائله ، تأخذ شكلا متشددا ، وطابع قسوة ، إذ كثيرا ما ترددت عبارات مثل» البلدوزر» ، و»الجراح» ..إلخ ، وفى تقديرنا أن مثل هذه التعبيرات إنما هى « ستائر كلامية» ، يخفى بها السيد الوزير ما هو ملموس لكل من يتصل به من حيث «طيبة القلب» ، إذ أن هذه العبارات المتشددة القاسية قد تصلح للاستخدام فى ميادين أخرى ، إلا أن هذا المجال هو ( تربية الإنسان ) ، فها هنا لابد من أن تكون اللغة مختلفة ، ولابد أن تكون العُملة اللفظية هى تلك التى يمكن تحويلها فى العقول والقلوب إلى « قناعات» و» سلوكيات» ، تخط على أرض الواقع إنسانا جديدا. • « تضبيب» الرؤية تجاه الفكر الآخر، فأن تكون قضية التعليم هى قضية كل الناس، فلابد أن يكون لكثيرين آراؤهم . ولأن الله قد خلق الناس متفاوتى القدرة والفهم ، كان طبيعيا أن يكون هناك اختلاف فى الرأى . لكن المستقرئ للخطاب الرسمى للتعليم يجده يعبر كثيرا عن سوء نية الآخر، بل واتهامه بتهم يصعب على العقل تصور صدورها لولا أنها تفلت إلينا عبر أساتذة كبار. إن الحجة المرفوعة دائما : نحن لا نرحب إلا بالنقد الموضوعى ، وهى كلمة حق، لكن المشكلة تبرز عندما يعكس الخطاب التربوى ميلا إلى التوحيد بين « الذات» و « الموضوع» ، فيتلقى نقد «الموضوع « على أنه نقد « ذات» ، فتغم الرؤية ، وتنتفى الإفادة والاستفادة، فضلا عن تجاوز الحدود الآمنة بإصدار أحكام تتعلق بالنوايا ، فيتهم هذا الرأى بأنه تعبير عن « حقد» ، مثلا!! • التخوف من المسئولية، فمن عجب أنه مع ما نلاحظه من عبارات تصور شجاعة لدى صاحب الخطاب الرسمى فى التعليم ، وما نلاحظه أيضا من حرص على تناول كل القضايا التعليمية، ومع ذلك، فكثيرا ما نلاحظ حالة مغايرة، عندما يكون الموقف موقف « فعل» له آثاره السلبية، فإذا بالمسئول يجهد عقله ويستنفر كل مواهبه فى توزيع المسئولية على جهات أخرى لها صلة بالعمل التعليمي، ليبقى صاحبنا عداه العيب»، ويبدو بريئا براءة الذئب من دم ابن يعقوب، فحالة المبانى المدرسية ، مسئولية التخطيط العمراني، وانخفاض الدخل المالى الرسمى للمعلمين ، يقع على عاتق وزارة المالية، ومواعيد الدراسة، مسئولية المحليات..وهكذا، وينسى صاحب الخطاب أن وزارة التربية هى المسئولة دستوريا عن سياسة التعليم قبل الجامعى عامة، وبالتالى فكل هذه الجهات الأخرى هى جهات تنفيذ ، تنفذ الخطوط العامة للسياسة. • استهداف الغلبة والانتصار: إذ تختلف ساحة التعليم عن ساحة المحكمة، ففى المحكمة دفاع ونيابة، ومتهم يسعى إلى البراءة، وكل طرف يجتهد فى إثبات حقه فى النصر. وأما فى ساحة التعليم، لا يكون المسئول متهما أمام الرأى العام ، بحيث يسعى إلى إثبات البراءة ، فكلنا شركاء، كل حسب موقعه، والبراءة مطلوبة لنا جميعا، وليس هناك منتصر ولا مهزوم ، فقط نريد – جميعا- أن نهزم الجهل ، وننتصر على المشكلات ، لكن أسلوب معالجة الخطاب الرسمى أشبه بأسلوب بعض المحامين ، عندما يجد أحدهم نفسه أمام قضية معضلة، فيكثف همه فى الطعن فى سلامة الإجراءات ، لتسقط القضية، وما هكذا يكون التعامل مع قضية التعليم. عُقم لا ينتج وزراء سياسيين ولابد أن نعترف بأن الوزير المتخصص، لا يكون دائما ناجحا بالضرورة، وفى كل الأحوال، مما يعيدنا مرة أخرى إلى ضرورة الوزير السياسسي، لكن : هل من ضرورة للاختيار بين (إما)، (أو)؟ أم أن هناك الحل الثالث الذى نفتقده منذ زمن طويل؟ إنه الوزير المتخصص السياسي..والذى اختفى من الساحة المصرية منذ عشرات السنين، وهو ما ارتبط بالمعضلة الكبري، ألا وهى ما حدث من تجريف سياسي، كيف؟ فإذا ما كانت ظروف ثورة 1952 قد قادت إلى تغليب شعار أهل الثقة على أهل الخبرة، لكن الوزير الذى كان يجئ من موقع « الثقة»، كان من الطبيعى أن يكتسب خبرة شيئا فشيئا، وإن كان ذلك بطبيعة الحال على حساب الكفاية الداخلية والخارجية لنظام التعليم، لكنه، إذا ترك الوزارة لسبب من الأسباب، فقد كان شبه ممنوع من العودة إليها مرة أخري، إلا فى حالات نادرة، ليجئ وزير جديد، فتبدأ القصة تتكرر مرة أخري، خاصة وأن بعض الوزراء كانوا يخرجون لظرف طارئ غير جوهري، أو لسوء تقدير.. وعلى سبيل المثال، فقد أحسن قادة يوليو عندما اختاروا، فى الشهور الأولى للثورة وزيرا للمعارف كان هو بغير منازع مجدد التربية الحديثة فى الوطن العربي، وهو ( إسماعيل القباني)، الذى أحدث ثورة موازية فى نظام التعليم ، لكنه افتقد « الحصافة السياسية «، إذا صح هذا التعبير... فقد حدث أن عين قادة الثورة مندوبا عسكريا فى كل وزارة، وكأنه الرقيب على الوزير، فإذا باسماعيل القبانى يشكو من ذلك، لكنه عبر عن هذا بأسلوب مستفز، حيث قال، وفقا لشهادة الشيخ أحمد حسن الباقورى الذى كان وزيرا للأوقاف ( بقايا ذكريات، الأهرام، 1998، ص 122): « غير معقول إن ( حتة ) ضابط يتحكم ، وأنا وزير ، ولى تجربة طويلة فى وزارة المعارف ، إلى أن صرت وزيرا». فإذا بقائد الجناح جمال سالم، الذى كان عضو مجلس قيادة الثورة، وكان من البارزين، فضلا عن أنه كان معروفا بقدر من العصبية، يرد بعنف:» إن حتة الضابط ده ، هوه اللى خلاك وزير»!! وكانت النتيجة الطبيعية أن « يلملم « القبانى أطراف كرامته بنفسه ويقدم استقالته. مع ملاحظة أن الدكتور لويس عوض روّج لرواية أخري، مفادها، أن التقارير كانت قد رُفعت للقبانى بأن ( توفيق الحكيم) الذى كان مديرا لدار الكتب فى عهد إسماعيل القباني، كان كثير التغيب، فتقرر فصله، فاستثار هذا جمال عبد الناصر، الذى كان يردد أنه تعلم كثيرا من رواية الحكيم( عودة الروح) ، فقرر رفت القبانى نفسه!! فمثل هذا الوزير، إذا كان قد أخطأ، فلم يكن الخطأ يصل إلى درجة الجريمة النكراء التى تحكم عليه طوال العمر أن يعيش فى زوايا النسيان، ولم يخطر بالبال أبدا أن يعود مرة أخرى إلى الوزارة...وهكذا قل عن الكثرة الغالبة من الذين تولوا وزارة التربية، عبر عشرات السنين، باستثناءات قليلة، كما حدث للدكتور أحمد جمال موسي، الذى توز سنة 2004، واستمر عاما واحدا، ليعود مرة أخرى فى وزارة عصام شرف بعد ثورة يناير 2011. وكان وزير مثل الراحل الدكتور عبد السلام عبد الغفار من علماء النفس والتربية البارزين، الذين سعدنا بتوزره عام 1984، لكن المافيا السرية فى دهاليز وزارة التربية أبت أن يستمر رجل يتعامل بالمنطق العلمى المنهجي، فكادوا له، باتفاق مع الكثير من المطابع المكلفة بطباعة الكتب المدرسية، فإذا بالعام الدراسى يبدأ، ولا كتب دراسية جاهزة إلا القليل، «فطار» الرجل، ورغم أن القصة شاعت وعُرفت، لكن لم يفكروا فى إعادته مرة أخري، وهكذا أصبح كل من يتولى الوزارة وكأنه « كارت» قد احترق، ليس من حقه العودة مرة أخري، وكان على الوزارة أن تستقبل دائما وزيرا « يتعلم» فيها، وتتعلم فيه «، وتكون الخسارة قد تركت ظلالها عليملايين من أبنائنا!! الوزير النقيب!! وإذا كان الوزير السياسى له مناقبه التى لا تنكر، لكننا فى مصر شهدنا ما ارتبط بأبرز وزراء التربية السياسيين من ظاهرة فريدة فى نوعها، حيث أسس لظاهرة « الوزير النقيب»، ألا وهو كمال الدين حسين، وهو الظاهرة التى استمرت بعده سنوات طويلة إلى أن اختفت. كان وجه العجب فى ذلك أن النقابة كما هو معروف» تنظيم شعبي»، يقف فى مواجهة التنظيم الرسمي، لا على سبيل المناوأة والتعارك، ولكن للمحافظة على مصالح من يعملون تجاه صاحب العمل أو المسئول عنه، فكيف يكون وزير التربية هو فى الوقت نفسه نقيب المعلمين؟ وإلا لجاز أن يكون رئيس الوزراء هو نفسه رئيس البرلمان!! وعلى الرغم من الحجة التى رفعتها ثورة يوليو بأن ظروف مصر كانت استثنائية، مما يفرض الوقوف صفا واحدا بين الحكام والمحكومين، لكن كان ذلك يمكن أن يتم تحقيق هذا عن طريق نقيب غير وزير، يتشبع باتجاهات الثورة، لكنه المسار العام فى ذلك الوقت الذى « أمم « – تقريبا- العمل الأهلى الحر، ليرتفع شعار( الكل فى واحد). لكن الحق يقال أن برزت هنا قوة الوزير السياسي، فإذا بكمال الدين حسين يفيض الكثير من المزايا على مجتمع التعليم. وأذكر بهذه المناسبة أننى رغبت فى استضافة الرجل، أواسط الثمانينيات فى ندوة برابطة التربية الحديثة، فإذا به يشترط أن أدعو فى الوقت نفسه عددا ، حدده بالاسم، من كبار أساتذتنا فى العلوم التربوية والنفسية، وبعض من كانوا قيادات وزارية، على قيد الحياة. ولما نفذت ما طلبه، عُقدت الندوة بالفعل، بادر هو باعتراف بأن الناس كانت تقول أنه يرأس العديد من المواقع ، خاصة بعضها علمى متخصص مثل الطاقة الذرية، وكذلك رئاسته المجلس الأعلى للجامعات، وفيه من فيه من القامات الجامعية العالية، لكنه فى الحقيقة كان يترك المسألة للمتخصصين، ويقتصر دوره على المساعدة فى استصدار التشريعات اللازمة بحكم موقعه فى مجلس قيادة الثورة، فضلا عن تخصيص التمويل المطلوب، وكان يستشهد من حين لآخر، بهذه الخطوة أو تلك ليطلب – مثلا- من أستاذنا الدكتور عبد العزيز القوصى أن يقول كيف أن كذا وكذا، كانا من اقتراحه هو- القوصي-وهكذا الأمر فى معظم الأحوال. وأشار بعض آخر إلى أن كمال الدين حسين لو لم يكن هو النقيب، لما حصل المعلمون على هذا الموقع النادر لنقابتهم ومستشفاهم، على كورنيش النيل، فضلاعن فندق البرج..وهكذا كان الرجل: حاميا وميسرا. نموذجان متضادان: ربما يكون هناك غيرهما، لكن نخصهما بالذكر نظرا لشهودنا وقائعهما: فقد كان الدكتور أحمد فتحى سرور، يحظى من جانب أستاذ كبير فى علوم التربية بنقد لاذع، وهجوم ضار، ربما أسبوعيا، ومع ذلك فقد كان الرجل حريصا على الاتصال بهذا الأستاذ فى كثير من المرات مساء ليناقشه فيما يكون قد كتب، وفى مناسبات متعددة، كان يمتدحه أمام الآخرين بما كان يُخجل هذا الأستاذ. ووصلت موضوعية الدكتور سرور أن هذا الأستاذ نظّم مرة مؤتمرا برعايته، وفى ديوان وزارة التربية نفسها، وتأخر الوزير ربع ساعة، فإذا بالأستاذ يحرص على الالتزام بالموعد مع الناس، وقبل أن يحضر الوزير، ثم لا يغضب الوزير النبيل، بل ويحرص فيما تلا من مؤتمرات على الااتزام بالموعد، ويعلن أمام الناس بصوت عال أنه يفعل ذلك حرصا على ما تميز به هذا الأستاذ من التزام دقيق بالمواعيد!! لكن الدكتور حسين بهاء الدين، كان على العكس تماما، حيث وقف أستاذ التربية الكبير هذا فى مؤتمر علمى لينتقد ما كتبه الوزير بعنوان ( مبارك والتعليم ) من صور تزلف ومداهنة، مستشهدا بنسخ تقارير تطوير التعليم فى مصر منذ على مبارك، حيث نبه إلى أن أحدا لم يحرص من قبل على أن يسمى تقريره بتطوير التعليم باسم رئيس الدولة. فإذا بحرب شعواء تستمر ما يقرب من عشر سنوات على الأستاذ، كان أبرزها استخدام ما كان يملكه من سلطة طباعة كتب الوزارة فى مطابع الصحف، ليمنع مقالات الأستاذ الذى كان يكتب بغزارة ملحوظة فى كثير من الصحف والمجلات. لكن أسوأ ما حدث هو العمل على حل مجلس إدارة جماعة تربوية تاريخية، بادعاءات غير حقيقية، وكانت هذه الجماعة تعقد ندوات لقمم الثقافة المصرية، وضربت نموذجا فريدا، فى أن تكون ساحة لمختلف الاتجاهات، ففى الوقت الذى استضافت فيه الدكاترة والأساتذة : إسماعيل صبرى عبد الله، وعبد العظيم أنيس، ومحمود أمين العالم ، استضافت محمد عمارة، ومحمد سليم العوا، ومحمد السيد طنطاوي، فضلا عن أحمد بهاء الدين، والدكتور لويس عوض، وكذلك ندوة عن دور الكنيسة القبطية فى التعليم المصري، شارك فيها ثلاثة من عمالقة الفكر المسيحي، أبرزهم الدكتور وليم سليمان قلادة...وهaكذا أطفأ شعلة ثقافية كانت تضئ سماء الساحة الفكرية، ولم تقم لها قائمة بعد ذلك، منذ ما يقرب من عشرين عاما!! ولعل الأمر لن يستقر على حال سوِيّ إلا بشهود حياة سياسية حقيقية، تتعدد فيها الأحزاب، وتتباين بينها الرؤي، ونشهد تداولا للسلطة، ويُظلل هذا وذاك» جدال بالتى هى أحسن»، دون اتهامات، ولا تخوين، ولا تكفير، فمثل هذا المناخ المنشود، ومثل تلك التربة المرغوب فيها، هى التى تنبت لنا ذلك النموذج الناضج ، وهو الوزير المتخصص، صاحب الرؤية السياسية، فنجمع بين الحسنيين، وتكسب عممية بناء الإنسان زخما يفجر طاقات الإبداع، لا الإيداع، والتفكير، لا التكفير... قامات بارزة وزارة التربية ، ربما دون معظم الوزارات، تميزت ، خلال فترات طويلة ، باختيار نفر من المفكرين ، ممن يعدون علامات حقيقية، وقامات بارزة على طريق الفكر والثقافة ، ومعروفون بأنهم أصحاب رؤية كلية ، و لعل أبرزهم فى هذا : أحمد لطفى السيد، والدكتور طه حسين الذى تولى وزارة المعارف ، حيث كانت تسمى هكذا ، فى عهد وزارة الوفد منذ عام 1950 إلى 1952 ، وكذلك الدكتور محمد حسين هيكل ، والدكتور عبد الرزاق السنهورى فى فترات سابقة. وإذا كنا نؤمن بالفعل بأن منصب الوزير هو منصب سياسى، ومن ثم فلا شرط أن يكون متخصصا ، لكن ما يجرح هذا المعيار أننا نرى التزاما به فى بعض الوزارات ، منذ عدة عقود .
من النظارة إلى الوزارة
وكانت المرة الأولى التى ظهرت فيها إدارة التعليم فى صورة نظارة ، سنة 1871 ، وكان أول من تولاها هو « على مبارك « ، مما ساعد على اكتسابه لقب « أبو التعليم « فى مصر ، حيث ظلت فترة طويلة تسمى « بالنظارة « ، مثل كل الوزارات ، فضلا عما كان يتميز به هذا الرجل من سعة أفق ، ودقة تفكير.. وإذا كانت إدارة التعليم قد أوكلت زمن محمد على إلى إدارة الجيش، فقد كانت هناك مبررات، بيناها، لكننا نصدم ، فى عهد الاحتلال البريطانى، عندما نجد أن إدارة التعليم قد أُلغيت، ليصبح الشأن التعليمى من مهام نظارة الأشغال، مثلها فى ذلك مثل الجسور والترع والمصارف،، وكانت إدارة التعليم تحظى من المسئول المشترك يومين فى الأسبوع!! إلى أن استقلت وتولى أمرها سعد زغلول، الذى برز بعد ذلك زعيما سياسيا بارزا. سهام مسمومة وتأبى الظروف السيئة لمصر إلا أن توجه القوى الكبرى سهامها المسمومة المدمرة إلى العمود الفقرى للنهضة الكبرى التى شهدتها مصر طوال ما يقرب من ثلاثة عقود، ألا وهو القوات المسلحة، حيث قضت الشروط الدولية بعد هزيمة محمد على، ألا يزيد عدد أفراد الجيش عن 18 ألف عسكرى.. ولأن وظيفة التعليم كانت قد ارتبطت بالجيش بعروة وثقى، كان المردود سلبيا، وبعنف على التعليم ، فإذا بأعلام النهضة تتهاوى، وإذا بقوى التقدم تتراجع، ولم لا ؟ إنها المهمة التى ندب الغرب نفسه لتطبيقها دائما إزاء مصر: ألا يُترك لها الزمام فى النهوض الحضارى، بتحديد أغراضه، ومساحته، وآفاقه...لا مانع من التقدم، ولكن فى حدود دنيا، تجعل مصر لا تضعف حتى لا ينتهى ذلك إلى قيام ثورة ، فتكون خطرا على المنطقة، ولا تُترك إلى النهوض بحيث تكون مثل عمود الخيمة: قوة، يُخشى بأسها، فتكون خطرا من نوع آخر، ينافس قوى القهر والاستغلال العالمى!!
«طربوش دانلوب»
وعلى الرغم مما كتب وقيل عن حزم سعد زغلول ووطنيته، إلا أن القوة الحقيقية فى توجيه التعليم كانت للمستشار الشهير، «دانلوب»..والذى كان كثيرا ما يقوم بجولات تفتيشية على المدارس، حتى إذا أبصر أولو الأمر فى مدرسة سيارة قادمة، ورأوا من خلال نوافذها دنلوب « بطربوشه»، كان هذا يكفى كى تنتظم الأمور بسرعة، وتسارعت الأصوات المحذرة مؤكدة ظهور «طربوش دانلوب»، إلى درجة أن الرجل لما عرف هذا ، وتكاثرت مهامه، كان يكتفى بسيارته للمرور على بعض المدارس، مبرزة « طربوشه» ، دون صاحبه!! التربوى الوحيد الراحل الدكتور عبد السلام عبد الغفار من علماء النفس والتربية البارزين، الذين سعدنا بتوزره عام 1984، لكن المافيا السرية فى دهاليز وزارة التربية أبت أن يستمر رجل يتعامل بالمنطق العلمى المنهجى، فكادوا له، باتفاق مع الكثير من المطابع المكلفة بطباعة الكتب المدرسية، فإذا بالعام الدراسى يبدأ، ولا كتب دراسية جاهزة إلا القليل، "فطار" الرجل، ورغم أن القصة شاعت وعُرفت، لكن لم يفكروا فى إعادته مرة أخرى، وهكذا أصبح كل من يتولى الوزارة وكأنه " كارت" قد احترق، ليس من حقه العودة مرة أخرى، وكان على الوزارة أن تستقبل دائما وزيرا " يتعلم" فيها، وتتعلم فيه "، وتكون الخسارة قد تركت ظلالها علىملايين من أبنائنا!! «الوزير غير السياسى» أحسن قادة يوليو عندما اختاروا، فى الشهور الأولى للثورة وزيرا للمعارف كان هو بغير منازع مجدد التربية الحديثة فى الوطن العربى، وهو ( إسماعيل القبانى)، والذى أحدث ثورة موازية فى نظام التعليم ، لكنه افتقد " الحصافة السياسية "، إذا صح هذا التعبير... فقد حدث أن عين قادة الثورة مندوبا عسكريا فى كل وزارة، وكأنه الرقيب على الوزير، فإذا باسماعيل القبانى يشكو من ذلك، لكنه عبر عن هذا بأسلوب مستفز، حيث قال، وفقا لشهادة الشيخ أحمد حسن الباقورى الذى كان وزيرا للأوقاف ( بقايا ذكريات، الأهرام، 1998، ص 122): " غير معقول إن ( حتة ) ضابط يتحكم ، وأنا وزير ، ولى تجربة طويلة فى وزارة المعارف ، إلى أن صرت وزيرا". فإذا بقائد الجناح جمال سالم، الذى كان عضو مجلس قيادة الثورة، وكان من البارزين، فضلا عن أنه كان معروفا بقدر من العصبية، يرد بعنف:" إن حتة الضابط ده ، هوه اللى خلاك وزير"!! وكانت النتيجة الطبيعية أن " يلملم " القبانى أطراف كرامته بنفسه ويقدم استقالته. مداهنة السلطة فى وزارة الدكتور حسين بهاء الدين، وقف أستاذ التربية الكبير هذا فى مؤتمر علمى لينتقد ما كتبه الوزير بعنوان ( مبارك والتعليم ) من صور تزلف ومداهنة، مستشهدا بنسخ تقارير تطوير التعليم فى مصر منذ على مبارك، حيث نبه إلى أن أحدا لم يحرص من قبل على أن يسمى تقريره بتطوير التعليم باسم رئيس الدولة. فإذا بحرب شعواء تستمر ما يقرب من عشر سنوات على الأستاذ، كان أبرزها استخدام ما كان يملكه الوزير من سلطة طباعة كتب الوزارة فى مطابع الصحف، ليمنع مقالات الأستاذ الذى كان يكتب بغزارة ملحوظة فى كثير من الصحف والمجلات
مسرح العرائس لكم دهشنا كثيرا من أن يجئ الخطاب الرسمى - دائما وأبدا- ليتناول كل صغيرة وكبيرة، فى كل المسائل، وفى كل القضايا، من الوزير وحده، على وجه التقريب، فهذا عبء ضخم ، كم أشفقنا عليه من تحمله رحمة به هو نفسه ، قبل أى إنسان آخر، فضلا عن أهمية مراعاة " الأصول". ........................ إن هذا للوهلة الأولى يرفع من مكانة الوزير، بحكم عدد الساعات التى يمضيها فى عمله، لكننى أنظر إلى المسألة بمعيار آخر، حيث تؤكد مؤشرات القيادة العلمية الموضوعية الرشيدة إلى أن أحد معاييرها المهمة، مهارة توزيع المسئوليات، ومهارة " تشغيل" فريق من المتخصصين والمختصين، حتى لا يصل إلى الوزير إلا " الأمور الكبيرة" ، والمهام الجسيمة. والحق أننا هنا لا ينبغى أن نوجه اللوم إلى الوزير وحده، ذلك أنه – فيما يبدو- نمط إدارى مصرى متوارث عبر القرون، من حيث تجميع الخيوط فى المركز الأعلى، ويصبح جميع العاملين وكأنهم " عرائس" فى مسرح العرائس!!