تمر الأمم، كالأشخاص، بدورات الحياة كاملة، من الطفولة والشباب إلى الكهولة والشيخوخة، غير أن طفولتها ميلاد سياسي، وشبابها نماء حضارى، وكهولتها نضوج قومى، فيما شيخوختها تدهور فى القوة والمدنية معا، لا ينتهى بالموت كآحاد الناس، بل بانبعاث جديد، بينما الأفراد يفنون دون انبعاث جديد داخل هذا العالم، تبقى الأمم قادرة على الانبعاث مرة ومرات، فى دورات حضارية وحلقات تاريخية. فى طفولتها تكون الأمم بريئة مثل طفل، ترغب فى التعلم من المحيطين بها دون أحقاد عليهم، أو عقد تنمو نحوهم، بل ومن دون حرج تستشعره فى أعماقها، فالآخرون بالنسبة لها معلمون ورواد، آباء كانوا أو غرباء. وفى شبابها، تكون مثل رجل يانع قادر على الحب ومفعم بالأمل، منفتحة على غيرها من الأمم، قادرة على التثاقف معها وليس فقط التعلم منها، تأخذ وتعطى واثقة من نفسها، وإن احترمت غيرها دون خشية أو فزع، فالعالم لديها أجمل والمستقبل أوعد وأرحب. أما فى كهولتها، فتصبح الأمم مثل رجل يدرك أن أجمل أيامه صارت خلفه، فلم يعد قادرا على التطلع إلى جديد، فلا شهوة المعرفة باقية، ولا دهشة التساؤل قائمة، ولا ألق الكشف بادى، بل دخل كل شىء إلى حيز (العادى والمعتاد). فعندها تتعانق مع المألوف، وتتشبث فقط بالبقاء على قيد الحياة داخل عالم لم يعد فيه جديد، لا هو رحب كفضاء، ولا هو ضيق كهف، يسير كل شىء فيه بانتظام رتيب. وعندما تصل الأمم إلى الشيخوخة، تصير كالشيخ، إذ تيبست قوته العضلية، وشاب القصور ملكاته الذهنية، فتراجعت إرادته الحرة الطليقة، وأخذ يهرب من الناس والزمان حنينا إلى شبابه وماضيه الذى كان، حيث الحنين لديه أقوى من التطلُّع، يهاجسه قلق الموت، وتخاطبه نداءات رحيل خفية، صار معها لا يلوى على شئ ولا يتطلع إلى جديد. وهكذا الأمم حينما تتجاوز ذروة توسعها وتمدنها وتبدأ رحلة أفولها، فلا يومها على رحابة أمسها، ولا غدها على قدر يومها، وهنا لا يبقى عالمها فقط منتظما رتيبا، بل يصير موحشا وكئيبا، لا يمتلىء سواء بالأعداء المتآمرين حولها، والوحوش الراغبين فى نهش جسدها / أرضها. وهكذا فإن لحظة تاريخية معينة عام كذا من قرن كذا، أو حقبة ممتدة من التاريخ تعكس بعدا من أبعاد الزمن، قد تكون بمنزلة عصر نهضة لدى أمة، وعصر انحطاط لدى أخرى. فمثلا قد تكون إحدى الحقب الزمنية الثلاث الأساسية (العصر القديم) بمنزلة زمن فردوسى لدى أمة فى الشرق الأدنى القديم كمصر الفرعونية أو بابل السومرية، فيما هو زمن بدائى لدى أمة أخرى فى شمال أوروبا التى كانت بربرية، أو غرب الأطلنطى حيث القارتين الأمريكيتين التى لم يكن تاريخهما القديم يمثل للعالم أو للإنسانية شيئا يذكر رغم وجود أجناس كانت تحيا بهما، ومدنية كانت وليدة تنمو فيهما. كما تقع الحقبة الثانية (العصر الوسيط) على أذن السامع وقعا يبلغ درجة التناقض بحسب انتمائه إلى العالمين: العربى الإسلامى، أو الأوروبى المسيحى. ففى السياق العربي تعكس تلك العصور موجة إشعاع حضارى بفعل انبلاج الدين الإسلامى، ومرحلة سطوع سياسي على أرضية توسع إمبراطورى، وحالة تطور ثقافى على قاعدة رؤى وجودية رائقة أتت بها عقيدة التوحيد فى صورتها التنزيهية. أما فى السياق الأوروبى، فلا يعدو العصر الوسيط أن يكون زمن انحطاط حضارى على قاعدة تدهور سياسي للإمبراطورية الرومانية، وانهيار عسكرى أمام القبائل الجرمانية، وتفتت شامل للوعى الثقافى اليوناني اللاتينى، حيث كانت كل مجالات الحياة تسير إلى أفول وتلاش، اللهم سوى بنية إقطاعية أخذت تنمو بالتحالف مع إدراك معين للمسيحية رعته الكنيسة، كى تُخضع شعوبها إلى تصور مغترب عن الإنسان وإحساس بليد بالزمان. وأما (العصر الحديث) فيبلغ درجة التناقض نفسها ولكن فى الاتجاه النقيض. فمن وجهة النظر الأوروبية، التى صارت غربية، نجده زمن الكشوف الجغرافية وبزوغ العالم الجديد فى الأمريكيتين. وهو عصر النهضة الذى بدأ بإحياء الموروث اليونانى الأدبى والفلسفى، وانتهى بتفكيك الإقطاع القروسطوى وبنيته النفسية التى جعلت الإنسان مقهورا ومغتربا فى العالم، ليولد على أنقاضه إنسان جديد تواق إلى التحرر يشبه اليونانى القديم فى أساطيره المؤسسة، التى اندفع خلالها إلى تحدى الآلهة بحثا عن فرادته واستقلاله!. وهو عصر الثورة العلمية، حيث ساد منطق جديد للمعرفة قوامه التجريب، وعلاقة جديدة مع الطبيعة قوامها الكشف والتوظيف. وهو عصر الثورات الكبرى التى كرست الديمقراطية الليبرالية، وأنتجت المذهب الإنسانى، ليصبح الفرد غاية كبرى للمجتمع، وهدفا محترما للدولة، بعدما كان مجرد ذرة بشرية ضائعة فى إقطاعية تنضوى تحت إبط إمبراطورية، يحكمها الأباطرة والقياصرة بحق إلهى مقدس، ورثته الدولة التنين، أى الحديثة ولكن المستبدة، وحاولت أن تصبغه بصبغتها الدنيوية، ومبرراتها العملية، قبل أن تنتزعها منها الدولة الديمقراطية الحديثة، التى صارت، بحق، ملكوت الإنسان الحر. فى المقابل، ومن وجهة النظر العربية، يحمل هذا العصر كل معالم السلبية، فالكشوف الجغرافية الغربية، لا تعنى للعرب سوى حصار شواطئهم، وقطع طرق تجارتهم، وتدهور حواضرهم الكبرى، ناهيك عن سقوط أندلسهم، موطئ قدمهم على الشاطىء الشمالى، ودليل هيمنتهم على العالم الأوروبى. أما عصر النهضة فليس إلا عصر الهيمنة العثمانية عليهم، وما تبعه من سيطرة إقطاع رعوى جديد أخذ يكمل دور الإقطاع التترى القديم معطلا انطلاقة العرب الجديدة ثلاثة قرون أخرى على الأقل. وأما الثورة العلمية فلم يضاهها لدى العرب إلا تراجع واضح فى قيمة الموروث العلمى الذى كانوا راكموه على قاعدة المنهج الاستنباطى التقليدى، المؤسس على المنطق الصورى الأرسطى، وعجز بالغ عن ملامسة المنهج العلمى التجريبى، المؤسس على المنطق الجدلى الجديد، حتى بدى العرب عيالا على الغرب، وضيوفا على المدنية، غرباء فى دنيا الحضارة. وأما الثورات السياسية الكبرى فلم يعرفها تاريخنا عبر قرون أربعة شغلت العصر الحديث، ولم نبلغها إلا فى القرن العشرين، والحقبة الحديثة تقترب من الأفول، تاركة موقعها فى الزمان للحقبة المعاصرة، ولذا استمر تخلف العرب السياسي المفعم بالاستبداد، حتى صاروا على صعيد الحرية محض استثناء عالمى، وحتى عندما هبت العاصفة الأخيرة، التى أملها الحالمون ربيعا للحرية، سرعان ما جعلها المهجوسون بالهوية، المتعصبون للماضى خريفا للعقلانية ومأزقا للشخصية العربية، وكأنها، مثل جهامة الشيخوخة، لا يتسع صدرها لمرح الطفولة. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم