هي واحدة من تلك النكات التي انتشرت في حقبة الاستعمار الأوروبي لإفريقيا، حيث شاعت فكرة أن معظم القبائل الإفريقية من آكلي لحوم البشر، وتقول هذه (النكتة) إن شيخ إحدي تلك القبائل قرر أن يرسل ابنه للدراسة في إحدي الجامعات البريطانية العريقة كي يتعلم ويأخذ بأساليب الحضارة والمدنية الأوروبية، وبعد انتهاء الابن من دراسته عاد مرة أخري إلي قبيلته وقد أصبح شخصا آخر، يرتدي البدلة وربطة العنق، ويضع علي رأسه قبعة، ويدخن البايب، ويرطن بطلاقة باللغة الإنجليزية، كل شيء فيه قد تغير ما عدا شيئ واحد، فلقد استمر في أكل اللحم البشري، وعندما استغرب البعض مسلكه وسألوه عن ذلك، أجابهم بأن هناك فارقا كبيرا قد حدث في حياته، فلقد كان من قبل يأكل لحم البشر بيديه، أما الآن فإنه يأكله بالشوكة والسكين كأي شخص متحضر في العالم!! ترد هذه (النكتة) الاستعمارية القديمة إلي ذهني مع قضايا حرية الرأي والاعتقاد الأخيرة في مصر، والتي تعيد إلي الأذهان ذكري محاكم التفتيش من جديد، والتي أصبحت تتم بشوكة وسكين ما يسمي بقانون الحسبة لتقدم في صورة عصرية جديدة دون أن تتمكن من إخفاء وجهها القبيح، إنها عودة لا لأكل لحم البشر، ولكن لما هو أكثر بشاعة وهمجية ووحشية من ذلك بالتهام عقولهم وأرواحهم وضمائرهم. وعلي ذكر محاكم التفتيش، فلقد بدأ أول مظاهرها تاريخيا في مصرنا المحروسة متمثلا في إعدام أول شهيدة علم في التاريخ، وأجمل فيلسوفة وعالمة فلك، وهي هيباثيا ابنة ثيون آخر علماء الرياضيات المعروفين المنتمين إلي مدرسة الاسكندرية والتي عاشت في مصر الرومانية في القرنين الرابع والخامس الميلادي، وكانت تتبع المدرسة الأفلاطونية الحديثة، وعرف عنها دفاعها عن الفلسفة ومعارضة الإيمان المجرد مما جعلها تتفوق علي جميع معاصريها من الفلاسفة، وحازت دروسها إقبالا كبيرا من تلاميذها ومريديها الذين حضروا من كل حدب وصوب لسماعها، وكانت مقربة من أريستوس حاكم الاسكندرية الذي كان من بين مريديها مما سبب حرجا للكنيسة التي كان علي رأسها البابا كيرلس الأول (376 - 444م) البطريرك الرابع والعشرون الملقب بعمود الدين ومصباح الكنيسة الأرثوذكسية، وكان بينه وبين الحاكم أوريستوس صراعات حول السيطرة والنفوذ علي المدينة، وعلي الرغم من أن أوريستوس كان مسيحيا، إلا أن قربه من هيباثيا جعل البعض يتصور أنها السبب في هذا العداء بينهما، وذات يوم وعقب إحدي ندواتها، قامت مجموعة الغوغاء المسيحيين الذين دخل في روعهم أنها سبب الشقاق الحادث بين البابا كيرلس الأول والحاكم أوريستوس بالهجوم علي عربتها وجرها إلي كنيسة «قيصرون» بالإسكندرية، وجردوها من ملابسها حتي أصبحت عارية تماما، وقام أحد الرهبان بتقييدها وذبحها بسكين ثم أخذوا يسلخون جلدها باستخدام الأصداف الحادة ويقطعون جسدها ثم أشعلوا فيها النيران. وهكذا لقيت أول شهيدة علم في التاريخ مصرعها في القرن الخامس الميلادي، وفي عام 415 بالتحديد، وهكذا أيضا ظهرت أول (بروفة) لمحاكم التفتيش قبل أن تظهر في أوروبا بثمانية قرون بالتمام والكمال عندما انشئت في أوائل القرن الثالث عشر بقرار من البابا جرينوار التاسع لمحاكمة الهراطقة في جميع أنحاء العالم المسيحي، وكلف رجال الدين كل في ابرشيته بذلك، مما أدي إلي قتل أكثر من عشرة آلاف من البشر بتهمة الهرطقة التي كانت تعني أي انحراف ولو بسيط عن العقيدة المسيحية الرسمية، وكانوا يساقون إلي المحاكم لمجرد الشبهة أو كنتيجة لوشاية، ويتم استجوابهم حتي يعترفوا بذنبهم أو يتعرضوا للتعذيب الجسدي حتي ينهاروا ويطلبوا التوبة، أما إذا أصر المذنب علي أفكاره ورفض التراجع عنها، فيتم إعدامه حرقا، ولعل أشهر من تعرض لهذه المحاكمات عالم الفلك والفيلسوف الإيطالي جوردا نوبرونو (1548 - 1600)، والفيلسوف والعالم الفلكي والفيزيائي البالغ الشهرة جاليليو جاليلي (1564 - 1642) حيث تبني كلاهما نظرية عالم الفلك والرياضيات البولندي الكبير نيكوس كوبرنيكس (1473- 1543) الذي كان أول من أثبت أن الأرض تدور حول نفسها، وأن القمر يدور حولها، وأن الأرض وجميع الكواكب تدور حول الشمس، ولقد نجا كويرنيكس من محاكم التفتيش لالتزامه الحذر، حيث ظهر كتابه «الأجرام السماوية» عقب وفاته مباشرة، أما جوردانو برونو الذي أضاف إلي نظرية كوبرنيكس أن النظام الشمسي هو واحد من مجموعة نظم لا نهائية، ووضع فرضية وجود كائنات عاقلة علي كواكب أخري، فلقد تمت ملاحقته، وسجن لثماني سنوات ثم قطع لسانه وأعدم حرقا بتهمة الكفر، مما دعا جاليليو عند تعرضه لمحاكم التفتيش إلي التراجع عن نظريته، فلم ينفذ فيه حكم الإعدام، وخضع للإقامة الجبرية في فلورنسا ليقوم بأبحاثه تحت المراقبة. وفي عام 1992 وبعد ثلاثمائة وخمسين عاما علي وفاة جاليليو، قامت الكنيسة الكاثوليكية برد اعتبارهما، فهل ترد الكنيسة الأرثوذكسية المصرية اعتبار هيباثيا وأداته قتلها بمناسبة الذكري الألف وستمائة علي استشهادها والتي تحل هذا العام 2015 ؟.. أنها في تصوري خطوة مهمة تعلن للعالم كله أن الكنيسة المسيحية الأرثوذكسية المصرية تنتصر للعلم ضد الجهل والتعصب، وهو أمر يشكل علامة فارقة في تاريخنا كمصريين، مسيحيين ومسلمين علي حد سواء. وفي القرن السادس عشر انتقل مركز الثقل لمحاكم التفتيش إلي اسبانيا بحجة تطهيرها من الهراطقة لتشمل المرتدين من اليهود أو المسلمين عن المسيحية والمعتنقين لأي دين آخر، ولممارسي السحر والشعوذة، ورغم المعاهدات المبرمة بين الإسبان المنتصرين والعرب المنهزمين مع نهاية دولة الأندلس إلا أن الإسبان لجأوا للطرد الجماعي للمسلمين، فتم طرد 275000 شخص إلي البلدان الإسلامية المجاورة ما بين عامي 1609 و1610..... وتعرض المسلمون لتعذيب مروع، وتم تعميدهم عنوة، وأعدمت حرقا أعداد كبيرة منهم، وفي القرن التاسع عشر ألغيت محاكم التفتيش رسميا، واستبدلت بالمجمع المقدس لشئون العقيدة والإيمان بالفاتيكان، وتحولت هذه القوة الطاغية إلي شيء شبه استشاري، وتذكاري علي الأغلب. أما هنا في مصر فمنذ الربع الأخير من القرن الماضي وحتي الآن، فهاهي بضاعتنا وقد ردت إلينا، وعدنا من جديد إلي محاكم للتفتيش وقد اكتسبت مظهرا يحاول أن يتستر بالقانون علي يد جماعات التكفير في صورة هؤلاء الوعاظ الغلاظ أصحاب فتاوي الردة، وبصحبتهم مجموعة من المحامين الباحثين عن الشهرة الذين وجدوا ضالتهم في بعض رجال الإعلام الأسود الذين يستضيفونهم ليطلقوا اتهاماتهم العشوائية ضد رجال الفكر في مصر، ولقد بدأت النذر المشئومة لفتاوي الفتنة في ربع القرن الماضي (1990 - 2015)، ببيان صادر عن «جبهة علماء الأزهر» في جريدة »النور» الإسلامية بتاريخ 3 يونيو 1999 بتكفير الكاتب والمفكر الليبرالي د.فرج فودة (1945 - 1992) الذي كان يطالب بفصل الدين عن الدولة وليس عن المجتمع، وفي 8 يونيو وبعد خمسة أيام من نشر هذا البيان قام كل من عبدالشافي رمضان الذي لا يقرأ ولا يكتب، وأشرف سعيد إبراهيم باغتيال د.فرج فودة أمام مكتبه في مدينة نصر، استجابة لفتوي تلقياها من صفوت عبدالغني الذي كان مسجونا في قضية اغتيال رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب عام 1990 عن طريق محاميه، ومن الجدير بالذكر أن كلا من الشيخ محمد الغزالي ود.محمد مزروعة رئيس جبهة علماء الأزهر قد شهدا في المحكمة لمصلحة المتهمين اللذين نفذ فيهما حكم الإعدام، أما فتوي التكفير الثانية التي كانت من نصيب كاتبنا العظيم نجيب محفوظ (1911 - 2006)، فهي للشيخ عمر عبدالرحمن الذي حوكم في قضية اغتيال الرئيس السادات وحصل علي البراءة عام 1984 بعد ثلاث سنوات من اعتقاله، وسافر إلي السودان ومنها إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبناء علي هذه الفتوي أصدر أمير الجماعة الإسلامية أمرا لشخص يدعي محمد ناجي مصطفي قام بمقتضاه بمحاولة اغتيال فاشلة لنجيب محفوظ في 14 أكتوبر 1994، ومن اللافت للنظر أن كلا من أمير الجماعة ومنفذ العملية الذي تم إعدامه، لم يقرأ شيئا لنجيب محفوظ. أما أبرز فتاوي الحسبة خلال هذه الفترة والتي فتحت مجالا لم ينته حتي الآن، فهي الدعوي التي أقيمت علي د.نصر حامد أبوزيد الكاتب والمفكر والأستاذ بكلية الآداب جامعة القاهرة، عندما تقدم للترقية إلي درجة أستاذ، فقام د.عبدالصبور شاهين عضو لجنة الترقية بكتابة تقرير عن أحد أبحاثه المقدمة وصفه فيه بأنه (كفر في كفر)، وتسرب الملف خارج الجامعة فقام المحامي والنائب السابق لرئيس مجلس الدولة محمد حميدة عبدالصمد برفع دعوي مطالبا بتفريق د.نصر من زوجته د.ابتهال سالم المدرسة بقسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب بحجة أن د.نصر طبقا لتقرير عبدالصبور شاهين يعد كافرا ومن ثم لا يجوز له الاقتران بمسلمة، وتنافس في الإثارة الإعلامية لهذه القضية الفريدة من نوعها وقتها كل من عبدالصبور شاهين ويوسف البدري الداعية الأكبر لقضايا الحسبة في مصر، وبعد صدور حكم محكمة الجيزة للأحوال الشخصية في 27 يناير 1994 برفض الدعوي لانتفاء المصلحة في التفريق، قام رئيس محكمة استئناف القاهرة فاروق عبدالعليم برفض هذا الحكم وأيد حكم التفريق في 14 يونيو عام 1995. كانت قضية د.نصر حامد أبوزيد هي إشارةالبدء لانطلاق (ماراثون) الحسبة في مصر. أما المحامي والناشط الحقوقي والكاتب القصصي كرم صابر، فلقد قامت مجموعة من المنتمين للتيارات الدينية برفع قضية ضده بسبب مجموعته القصصية «اين الله» فأحالت النيابة القضية إلي محكمة الجنح، فصدر حكم ضده بالسجن لخمس سنوات وكفالة ألف جنيه، في 7 مايو 2013. وعقب احتدام النقاش بين روماني مراد سعد ومجموعة من المحامين الإسلاميين علي صفحات الفيس بوك بسبب رفضه الاختيار بين مرسي وشفيق وإعلانه مقاطعة الانتخابات، قدم اثنان من المحامين بلاغا ضده يتهمانه بازدراء الدين الإسلامي، فصدر حكم محكمة بندر ثان أسيوط في 1 يونيو 2013 غيابيا بحبسه لمدة عام وكفالة عشرة آلاف جنيه علي سبيل التعويض المؤقت للمدعين بالحق المدني. وواجهت المدرسة دميانة عيد عبدالنور حكما بالسجن لمدة ستة أشهر في 15 يونيو 2014 بتهمة الإساءة للرسول (صلي الله عليه وسلم) والطعن في الدين الإسلامي اعتمادا علي شهادة ثلاثة أطفال تقل أعمار كل منهم عن عشرة أعوام رغم نفي مدير المدرسة ومجلس امنائها وبقية الأطفال هذه الواقعة. أما كريم البنا الطالب بهندسة الإسكندرية فألقي القبض عليه في 17 نوفمبر 2014 بعد أن قدم أهالي المنطقة التي يعيش فيها بلاغا للمحامي العام يتهمونه فيه بالإلحاد، فصدر حكم محكمة جنح مستأنف إدكو بسجنه ثلاث سنوات في 9 مارس 2015. وكذلك الحال بالنسبة لشريف جابر الطالب بكلية الآداب بجامعة قناة السويس الذي حكم عليه من محكمة جنح ثالث الإسماعيلية بالسجن لمدة عام وكفالة ألف جنيه لإيقاف الحكم في 16 فبراير 2015 بسبب بلاغ قدمه عدد من زملائه من الطلبة لرئيس الجامعة الذي قام بالإبلاغ عنه متهما إياه بإنشاء (جروب) علي الفيس بوك بعنوان «الملحدين». هذه مجرد نماذج من تلك القضايا والتهم بازدراء الأديان المشهرة في وجه الجميع تحت وصاية المحتسبين الجدد من المحامين الضباع الجوالة علي محاكم مصر، مفتشة في الضمائر والعقول ومثيرة للإرهاب والفزع، ولقد وصلت هذه القضايا إلي ذروتها بالحكم الذي أصدرته محكمة جنح مصر القديمة بتاريخ 31 مايو 2015 بسجن الباحث الإسلامي إسلام بحيري لمدة خمس سنوات غيابيا مع الشغل والنفاذ نتيجة لقضية رفعها عليه المستشار القانوني لشيخ الأزهر، وتواجه الكاتبة والشاعرة الكبيرة فاطمة ناعوت، والكاتب والإعلامي البارز إبراهيم عيسي، والمفكر الكبير د.سيد القمني وآخرين من كبار مفكري وكتاب ومثقفي مصر، عشرات القضايا بهذه الاتهامات الجائرة في محاكم التفتيش الجديدة في طبعتها العصرية في بلادنا. ولأنه لا أحد يشعل حريقا ويضمن ألا تمتد نيرانه إليه، فلقد اكتوي عبدالصبور شاهين بنفس نيران التكفير التي اشعلها، حيث أقيمت ضده دعاوي قضائية تتهمه بالكفر بسبب كتابه «أبي آدم» الصادر في نهاية التسعينيات محاولا الموازنة بين نظرية «النشوء والارتقاء» والرؤية الدينية، ومما يثير الدهشة أن من قاد الدعوي لمحاكمته وتكفيره كان يوسف البدري شريكه في رحلة الإدانة والتكفير لنصر حامد أبوزيد، وظل عبدالصبور شاهين مستغرقا في الدفاع عن نفسه أمام المحاكم حتي وفاته عام 2010، أما سعار المحاكمات الذي انتاب يوسف البدري، فلقد شمل عددا كبيرا من كبار الكتاب والمثقفين مثل الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي والكاتب الكبير جمال الغيطاني والمفكر البارز د.جابر عصفور وآخرين، ثم استغرق في رفع مجموعة من القضايا مطالبا بإغلاق عدد من الفضائيات التي بدأت في استدراجه للحديث فيها مقابل نقود وقامت بتصويره وهو يساوم علي الأجر الذي سيحصل عليه، وتمت إذاعة ذلك وغيره علي الملأ، كما قامت صحفية بتصويره خلسة وهو يساومها كي يحصل منها علي مبلغ 400 جنيه ليقوم بعمل (رقية) شرعية لها، وأصبح مادة للفضائيات والإعلام في مثل هذه الجوانب حتي وفاته عام 2014. أما المدون البير صابر الذي سمح له بالسفر إلي سويسرا عقب صدور الحكم بسجنه، فأنجب طفلة أطلق عليها اسم هيباثيا، فهل سيرد اعتبار جدتها هيباثيا الأصلية التي تحمل اسمها؟