صلاة جماعية في البرازيل مع انطلاق قمة المناخ "COP30".. صور    مشهد إنساني.. الداخلية تُخصص مأمورية لمساعدة مُسن على الإدلاء بصوته في الانتخابات| صور    زينب شبل: تنظيم دقيق وتسهيلات في انتخابات مجلس النواب 2025    الرئيس السيسي يؤكد اهتمام الدولة بتأهيل الشباب لسوق العمل في مجال التعهيد بقطاع الاتصالات    الخارجية السورية: ترامب والشرع توصلا لاتفاق أمنى لتعزيز الاستقرار الاستراتيجي    المغرب والسنغال يبحثان تعزيز العلاقات الثنائية والتحضير لاجتماع اللجنة العليا المشتركة بينهما    قوات الاحتلال الإسرائيلي تصيب فلسطينيًا بالرصاص وتعتقله جنوب الخليل    مفوضية الانتخابات بالعراق: أكثر من 20 مليون ناخب سيشارك في الاقتراع العام    ترامب: سوريا جزء مهم من الشرق الأوسط وأنا على وفاق مع الشرع    مروان عطية: جميع اللاعبين يستحقون معي جائزة «الأفضل»    بي بي سي: أخبار مطمئنة عن إصابة سيسكو    اللعنة مستمرة.. إصابة لافيا ومدة غيابه عن تشيلسي    هشام نصر يهاجم مرتجي وزيزو: يجب عقابه أو لا تلوموا الزمالك على ما سيفعل    تقارير: ليفاندوفسكي ينوي الاعتزال في برشلونة    إصابة الشهري في معسكر منتخب السعودية    رياضة ½ الليل| الزمالك يهاجم زيزو.. الأهلي ضد الأهلي.. صدمة تهز الفراعنة.. وخسارة المنتخب    ارتفاع عدد المصابين ل 12.. محافظ الغربية ينتقل لموقع انهيار سقف مصنع بالمحلة| صور    سرقة في لمح البصر.. حبس المتهمين بسرقة دراجة نارية من أمام مقهى بالقليوبية    صور.. النائب العام يستقبل وزير العدل بمناسبة بدء العام القضائي الجديد    موعد ومقررات امتحانات شهر نوفمبر 2025 كاملة.. من الصف الثالث الابتدائي حتى الصف الثاني الثانوي    إصابة 6 عمال في حادث انهيار سقف مصنع بالمحلة الكبرى    تحديات إيجابية.. توقعات برج الحمل اليوم 11 نوفمبر    4 أبراج «مراية الحب عندهم عميا».. مثاليون يجيدون ارتكاب الأخطاء وينجذبون بالعاطفة لا العقل    المعهد الفرنسي يعلن تفاصيل الدورة الخامسة من مهرجان "بوبينات سكندرية" السينمائي    اليوم السابع يكرم صناع فيلم السادة الأفاضل.. صور    عبد الناصر قنديل: إقبال كثيف بالانتخابات يعكس تجذر ثقافة المشاركة    رضوى الشربينى تدعم آن الرفاعى: الأصيلة المحترمة بنت الأصول    "محدش يزايد علينا".. تعليق ناري من نشأت الديهي بشأن شاب يقرأ القرآن داخل المتحف الكبير    خطوة أساسية لسلامة الطعام وصحتك.. خطوات تنظيف الجمبري بطريقة صحيحة    أمطار رعدية وانخفاض «مفاجئ».. الأرصاد تكشف موعد تغير حالة الطقس    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية قبل بداية تعاملات الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    سعر الذهب اليوم الثلاثاء 11-11-2025 في الصاغة.. عيار 21 الآن بعد الزيادة الجديدة    أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    رجال الشرطة يجسدون المواقف الإنسانية فى انتخابات مجلس النواب 2025 بالإسكندرية    أوكرانيا تحقق في فضيحة جديدة في شركة الطاقة النووية الوطنية    نتنياهو: معركة إسرائيل مع الأعداء الإقليميين لم تنته بعد    بدء التحقيقات مع المتهم بالتعدي على والدته وتخريب شقتها بكفر الشيخ    ياسمين الخطيب تعلن انطلاق برنامجها الجديد ديسمبر المقبل    نقل جثمان المطرب الراحل إسماعيل الليثي من مستشفى ملوي بالمنيا لمسقط رأسه بإمبابة    لماذا يجب منع الأطفال من شرب الشاي؟    طريقة عمل الجبنة البيضاء بالخل في المنزل    استشاري المناعة: الفيروس المخلوي خطير على هذه الفئات    ترامب يطالب مراقبي الحركة الجوية بالعودة للعمل بسبب حالات إلغاء الرحلات    أخبار الإمارات اليوم.. محمد بن زايد وستارمر يبحثان الأوضاع في غزة    وزير التموين: توافر السلع الأساسية بالأسواق وتكثيف الرقابة لضمان استقرار الأسعار    دعاء مؤثر من أسامة قابيل لإسماعيل الليثي وابنه من جوار قبر النبي    هل يظل مؤخر الصداق حقًا للمرأة بعد سنوات طويلة؟.. أمينة الفتوى تجيب    نماذج ملهمة.. قصص نجاح تثري فعاليات الدائرة المستديرة للمشروع الوطني للقراءة    انطلاق اختبارات مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن بكفر الشيخ    لحظة بلحظة.. الفراعنة الصغار في اختبار مصيري أمام إنجلترا بمونديال الناشئين 2025    ما حكم المشاركة في الانتخابات؟.. أمين الفتوى يجيب    بالصور| سيدات البحيرة تشارك في اليوم الأول من انتخابات مجلس النواب 2025    بعد زيادة أسعار المحروقات.. ارتفاع أسعار النقل والمواصلات ب20.5% خلال أكتوبر الماضي    بعد 3 ساعات.. أهالي الشلاتين أمام اللجان للإدلاء بأصواتهم    هبة عصام من الوادي الجديد: تجهيز كل لجان الاقتراع بالخدمات اللوجستية لضمان بيئة منظمة للناخبين    وزير النقل التركي: نعمل على استعادة وتشغيل خطوط النقل الرورو بين مصر وتركيا    الرعاية الصحية: لدينا فرصة للاستفادة من 11 مليون وافد في توسيع التأمين الطبي الخاص    د.حماد عبدالله يكتب: " الأصدقاء " نعمة الله !!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأزهر ومحاكم التفتيش
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 08 - 04 - 2015

وانا هنا لا أدافع عن إسلام بحيري أوغيره، فالأمر تجاوز الأفراد، إنها قضية وطن، لايمكنه النهضة دون استنارة ودون إعادة نظر في حشايا التراث الذي تصطدم كثير من معطياته مع صحيح الدين.
لسنا هنا بإزاء مبحث تاريخي عن محاكم التفتيش، إنما مقصدنا ماتمثله من دلالة يمكن إسقاطها علي واقع فكري وثقافي في بلادنا ينضح بالتخلف والجهل والتعصب. ولقد عالج مفكرنا الدكتوررمسيس عوض هذا الموضوع في خمسة من كتبه، لعل أبرزها كتابه »‬أبرز ضحايا محاكم التفتيش» الصادر عن الهيئة العامة للكتاب في 2004. حيث تناول حياة العالم الفلكي الكبير جاليليو الذي حاكمته محاكم التفتيش؛ لأنه نادي بأن الأرض كروية وأنها تدور حول الشمس، كما تناول حياة سافونا رولا رجل الدين المعروف بالتقوي الذي اضطهدته محاكم التفتيش وأحرقت جثته؛ لأنه كان يفضح عيوبها ويهاجم فساد البابوات. في هذا الكتاب ناقش أيضاً حياة الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونوالذي ناصب الكنيسة الكاثوليكية العداء واتهمها بالجهل والفساد؛ فكان مصيره الحرق حياً.
محاكم التفتيش »‬سلطة قضائية كنسية استثنائية»وضعها البابا غريغوري التاسع لقمع جرائم البدع والردة، وأعمال السحر والهرطقة، في جميع أنحاء العالم المسيحيوضد اليهود والمسلمين المتحولين، من القرن الثالث عشر إلي السادس عشر. وقد استخدمت في كثير من الأحيان كأداة سياسية لقمع المخالفين في الرأي ليس الديني فقط وإنما السياسي بالأساس. وعلي مر التاريخ، كانت هناك العديد من المحاكم المتخصصة من هذا القبيل. وكان قطع أوصال الناس وحرقهم أحياء أمر مألوف كأسلوب بشع للعقاب حتي وصلت أعداد من تم تعذيبهم ثلاثمئة ألف من البروتستانت ومئة ألف بلغاري وفرنسي وأرثوذكسي، كما تم تعذيب المسلمين المقيمين في بلاد الأندلس بعد سقوطها في قبضة الأوروبيين.لم يقتصر أمر التفتيش في ضمائر الناس وأفكارهم علي هذه القرون، فلعله تجاوزهم إلي ماقبل ذلك للقرن الرابع الميلادي حيث عذبت وقتلت عالمة الرياضيات والفلسفة»هيباتيا» السكندرية في مصر الرومانية، علي يد حشد من الغوغاء بعد اتهامها بممارسة السحر والإلحاد والتسبب في اضطرابات دينية، مما أثر بشدة في انحدار الحياة الفكرية السكندرية، رغم أن الكنيسة قد برأتها بعد ذلك، تماماً مثلما حدث مع القديسة جان دارك بعد ذلك. ولقد استغلت محاكم التفتيش سياسياً في كل خلاف نشأ بين السلطتين الزمنية والروحية في معظم عصور الظلام والتخلف. ولعلي لا أتجاوز واقع الحال إذا أضفت أنه حتي في القرن العشرين كانت الماكارثية في الولايات المتحدة الأمريكية نوعاً من محاكم التفتيش التي تم توظيفها لخدمة الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، وحتي في ماليزيا استخدم مهاتير محمد رئيس الوزراء مثل هذه الذرائع وعزل وسجن نائبه أنور إبراهيم بتهم الفساد واللواط حيث وظف المحرمات الدينية والإخلاقية في السياسة للتخلص من منافسه الطموح بالإغتيال المعنوي، ومن أسف أن هذا السلاح استخدم كثيراً وبإفراط في عالمنا العربي وفي بلادنا المحروسة خصوصاً للتخلص من المعارضين واغتيالهم معنوياً سواء بالإتهام بالفساد المالي أو الأخلاقي. إن محاكم التفتيش لاتزال تطل برأسها مقصلة مسلطة علي رؤوس المعارضين والمخالفين، ولعل في تاريخنا الحديث نماذج يندي لها الجبين بالانحراف بمبدأ الحسبة الدينية وتوظيفها المغرض ظلماً وبهتاناً ضد المجتهدين والمجددين، ولعل مافعله عبدالصبور شاهين ضد نصر حامد أبوزيد واتهامه بالكفر والزندقة والردة، وحسبة الشيخ يوسف البدري ضده وكثيرين غيره، حتي وصل بالأمر إلي الحكم القضائي بالتفريق بينه وزوجه د. ابتهال يونس، مما اضطره للهجرة إلي جامعة ليدنبهولاندا لائذا بفكره واجتهاده. مثل هذا حدث مع الكاتب فرج فودة الذي أهدروا دمه بحجة إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، وتلقفها أحد المخبولين ليقتله، كما حدث مع نجيب محفوظ واتهامه بالكفر والزدنقة في »‬أولاد حارتنا» وكادت تتسبب في قتله علي يد واحد من الرعاع الجهلاء الذي لم يقرأ حرفاً من إبداعات الكاتب الكبير، وتعرض مكرم محمد احمد لمحاولة اغتيال لمثل هذه الأسباب المطاطة المغرضة لإسكات أي صوت يقترب من كهنوت المؤسسة الدينية الذي امتد ليحكم الشارع والمشرع والمجتمع والناس، ويخلق سلطة دينية لم يعرفها الإسلام.
لم نكن نحب أبداً للأزهر أن يعيدنا إلي صفحة من تاريخه حاولنا تناسيها والتجاوز عنها، حين أصدر الشيخ علي عبدالرازق كتابه »‬الإسلام وأصول الحكم» في 1925 ناقش فيه فكرة الخلافة والحكومة المدنية في الإسلام، وكان أولَ دراسة شرعية تؤسِّس للفكرة العَلمانية في الوسط الإسلامي،فأحدث دوياً مادت به الأرض تحت أقدام من حاولوا لتأسيس سلطة دينية، وهاج الأزهر وهيئة كبار العلماء فيه، وجرده من درجة العالمية الأزهرية، وعزلوه من القضاء، تماماً مثلما حدث من الأزهر مع الدكتور طه حسين حين أصدر كتابه »‬في الشعر الجاهلي» عام 1932 مؤسساً لمدرسة نقدية جديدة في اللغة العربية وآدابها، تتجاوز التقليد والموروث والمحافظ إلي رحابة الحداثة والوعي والتجديد والتفتح، وهاج الأزهر واتهم طه حسين في دينه وإيمانه وسحب الكتاب من السوق، وقاد رجال الأزهر ضده حملة شعواء لم تهدأ إلا بقرارحكومةإسماعيل صدقيباشا عام 1932 بفصله من الجامعة كعميد لكلية الآداب، واحتج علي ذلك رئيس الجامعة أحمد لطفي السيد، وقدم استقالته. ولم يعد طه حسين إلي منصبه إلا عندما تقلد الوفدالحكم عام 1936
ماذا يعني هذا؟ يعني في حده الأول أن السلطة الدينية أو من يحاولون صناعتها قسراً وفرضها إفتئاتاً علي أصول الإسلام الذي لايعرف مؤسسة دينية ولا سلطة دينية، لاتزال وستظل دائماً في صراع مع السلطة الزمنية، وأن التقليد والمحافظة ستظل دائماً ضد التجديد والتحديث، وان الأزهر يصر برجعية متشددة علي أن يعيد عقارب الساعة للوراء، وأن رجاله جبلوا علي اعتبار كل محاولة للفكر والاجتهاد خطيئة،مع أن العقل في الإسلام فريضة واجبة، ولقد حثنا القرآن بل أمرنا أن نتفكر ونتدبر.
يؤسفني أن اكتب هذا عن مؤسسة الأزهر، وقد توسمنا فيها خيراً مع تولي الإمام الشيخ أحمد الطيب مشيخته، وحسبنا بل وكتبنا عن استنارة الإمام والأمل في استعادة دور الأزهر الغائب والذي اغتصبته منه جماعات الاتجار بالدين نتيجة قعوده وتقاعسه عن أداء دوره وموجبات وجوده، وإذا بنا امام واقع محبط حيث تحلق حول الإمام غلاة المتشددين من أمثال محمد عمارة، وعباس شومان، وحسن الشافعي، ومحمد مهنا وغيرهم، وإذا بهم يزجون بالأزهر وشيخه إلي أتون مظان الجمود والتسلف والإخوانية والتشدد، ولم تكن واقعة إسلام بحيري وطلب وقف برنامجه هي الأولي، بل سبقها معركة خاسرة مع الكاتب المفكر إبراهيم عيسي، ورموا كل من قدم نقداً موضوعياً لأداء الأزهر بأنه يحاول هدمه والنيل من الإسلام، إنها فرية محاكم التفتيش وسلطتها الظالمة الرجعية.
وانا هنا لا أدافع عن إسلام بحيري أوغيره، فالأمر تجاوز الأفراد، إنها قضية وطن، لايمكنه النهضة دون استنارة ودون إعادة نظر في حشايا التراث الذي تصطدم كثير من معطياته مع صحيح الدين. وأخشي أن الأزهر بتشدده هذا يقدم البحيري ضحية للغوغاء قتيلاً للتطرف بسبب الاجتهاد، حتي لو اختلفنا مع أسلوبه الهجومي وكلماته الخارجة.
وانا هنا لا أدافع عن إسلام بحيري أوغيره، فالأمر تجاوز الأفراد، إنها قضية وطن، لايمكنه النهضة دون استنارة ودون إعادة نظر في حشايا التراث الذي تصطدم كثير من معطياته مع صحيح الدين.
لسنا هنا بإزاء مبحث تاريخي عن محاكم التفتيش، إنما مقصدنا ماتمثله من دلالة يمكن إسقاطها علي واقع فكري وثقافي في بلادنا ينضح بالتخلف والجهل والتعصب. ولقد عالج مفكرنا الدكتوررمسيس عوض هذا الموضوع في خمسة من كتبه، لعل أبرزها كتابه »‬أبرز ضحايا محاكم التفتيش» الصادر عن الهيئة العامة للكتاب في 2004. حيث تناول حياة العالم الفلكي الكبير جاليليو الذي حاكمته محاكم التفتيش؛ لأنه نادي بأن الأرض كروية وأنها تدور حول الشمس، كما تناول حياة سافونا رولا رجل الدين المعروف بالتقوي الذي اضطهدته محاكم التفتيش وأحرقت جثته؛ لأنه كان يفضح عيوبها ويهاجم فساد البابوات. في هذا الكتاب ناقش أيضاً حياة الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونوالذي ناصب الكنيسة الكاثوليكية العداء واتهمها بالجهل والفساد؛ فكان مصيره الحرق حياً.
محاكم التفتيش »‬سلطة قضائية كنسية استثنائية»وضعها البابا غريغوري التاسع لقمع جرائم البدع والردة، وأعمال السحر والهرطقة، في جميع أنحاء العالم المسيحيوضد اليهود والمسلمين المتحولين، من القرن الثالث عشر إلي السادس عشر. وقد استخدمت في كثير من الأحيان كأداة سياسية لقمع المخالفين في الرأي ليس الديني فقط وإنما السياسي بالأساس. وعلي مر التاريخ، كانت هناك العديد من المحاكم المتخصصة من هذا القبيل. وكان قطع أوصال الناس وحرقهم أحياء أمر مألوف كأسلوب بشع للعقاب حتي وصلت أعداد من تم تعذيبهم ثلاثمئة ألف من البروتستانت ومئة ألف بلغاري وفرنسي وأرثوذكسي، كما تم تعذيب المسلمين المقيمين في بلاد الأندلس بعد سقوطها في قبضة الأوروبيين.لم يقتصر أمر التفتيش في ضمائر الناس وأفكارهم علي هذه القرون، فلعله تجاوزهم إلي ماقبل ذلك للقرن الرابع الميلادي حيث عذبت وقتلت عالمة الرياضيات والفلسفة»هيباتيا» السكندرية في مصر الرومانية، علي يد حشد من الغوغاء بعد اتهامها بممارسة السحر والإلحاد والتسبب في اضطرابات دينية، مما أثر بشدة في انحدار الحياة الفكرية السكندرية، رغم أن الكنيسة قد برأتها بعد ذلك، تماماً مثلما حدث مع القديسة جان دارك بعد ذلك. ولقد استغلت محاكم التفتيش سياسياً في كل خلاف نشأ بين السلطتين الزمنية والروحية في معظم عصور الظلام والتخلف. ولعلي لا أتجاوز واقع الحال إذا أضفت أنه حتي في القرن العشرين كانت الماكارثية في الولايات المتحدة الأمريكية نوعاً من محاكم التفتيش التي تم توظيفها لخدمة الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، وحتي في ماليزيا استخدم مهاتير محمد رئيس الوزراء مثل هذه الذرائع وعزل وسجن نائبه أنور إبراهيم بتهم الفساد واللواط حيث وظف المحرمات الدينية والإخلاقية في السياسة للتخلص من منافسه الطموح بالإغتيال المعنوي، ومن أسف أن هذا السلاح استخدم كثيراً وبإفراط في عالمنا العربي وفي بلادنا المحروسة خصوصاً للتخلص من المعارضين واغتيالهم معنوياً سواء بالإتهام بالفساد المالي أو الأخلاقي. إن محاكم التفتيش لاتزال تطل برأسها مقصلة مسلطة علي رؤوس المعارضين والمخالفين، ولعل في تاريخنا الحديث نماذج يندي لها الجبين بالانحراف بمبدأ الحسبة الدينية وتوظيفها المغرض ظلماً وبهتاناً ضد المجتهدين والمجددين، ولعل مافعله عبدالصبور شاهين ضد نصر حامد أبوزيد واتهامه بالكفر والزندقة والردة، وحسبة الشيخ يوسف البدري ضده وكثيرين غيره، حتي وصل بالأمر إلي الحكم القضائي بالتفريق بينه وزوجه د. ابتهال يونس، مما اضطره للهجرة إلي جامعة ليدنبهولاندا لائذا بفكره واجتهاده. مثل هذا حدث مع الكاتب فرج فودة الذي أهدروا دمه بحجة إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، وتلقفها أحد المخبولين ليقتله، كما حدث مع نجيب محفوظ واتهامه بالكفر والزدنقة في »‬أولاد حارتنا» وكادت تتسبب في قتله علي يد واحد من الرعاع الجهلاء الذي لم يقرأ حرفاً من إبداعات الكاتب الكبير، وتعرض مكرم محمد احمد لمحاولة اغتيال لمثل هذه الأسباب المطاطة المغرضة لإسكات أي صوت يقترب من كهنوت المؤسسة الدينية الذي امتد ليحكم الشارع والمشرع والمجتمع والناس، ويخلق سلطة دينية لم يعرفها الإسلام.
لم نكن نحب أبداً للأزهر أن يعيدنا إلي صفحة من تاريخه حاولنا تناسيها والتجاوز عنها، حين أصدر الشيخ علي عبدالرازق كتابه »‬الإسلام وأصول الحكم» في 1925 ناقش فيه فكرة الخلافة والحكومة المدنية في الإسلام، وكان أولَ دراسة شرعية تؤسِّس للفكرة العَلمانية في الوسط الإسلامي،فأحدث دوياً مادت به الأرض تحت أقدام من حاولوا لتأسيس سلطة دينية، وهاج الأزهر وهيئة كبار العلماء فيه، وجرده من درجة العالمية الأزهرية، وعزلوه من القضاء، تماماً مثلما حدث من الأزهر مع الدكتور طه حسين حين أصدر كتابه »‬في الشعر الجاهلي» عام 1932 مؤسساً لمدرسة نقدية جديدة في اللغة العربية وآدابها، تتجاوز التقليد والموروث والمحافظ إلي رحابة الحداثة والوعي والتجديد والتفتح، وهاج الأزهر واتهم طه حسين في دينه وإيمانه وسحب الكتاب من السوق، وقاد رجال الأزهر ضده حملة شعواء لم تهدأ إلا بقرارحكومةإسماعيل صدقيباشا عام 1932 بفصله من الجامعة كعميد لكلية الآداب، واحتج علي ذلك رئيس الجامعة أحمد لطفي السيد، وقدم استقالته. ولم يعد طه حسين إلي منصبه إلا عندما تقلد الوفدالحكم عام 1936
ماذا يعني هذا؟ يعني في حده الأول أن السلطة الدينية أو من يحاولون صناعتها قسراً وفرضها إفتئاتاً علي أصول الإسلام الذي لايعرف مؤسسة دينية ولا سلطة دينية، لاتزال وستظل دائماً في صراع مع السلطة الزمنية، وأن التقليد والمحافظة ستظل دائماً ضد التجديد والتحديث، وان الأزهر يصر برجعية متشددة علي أن يعيد عقارب الساعة للوراء، وأن رجاله جبلوا علي اعتبار كل محاولة للفكر والاجتهاد خطيئة،مع أن العقل في الإسلام فريضة واجبة، ولقد حثنا القرآن بل أمرنا أن نتفكر ونتدبر.
يؤسفني أن اكتب هذا عن مؤسسة الأزهر، وقد توسمنا فيها خيراً مع تولي الإمام الشيخ أحمد الطيب مشيخته، وحسبنا بل وكتبنا عن استنارة الإمام والأمل في استعادة دور الأزهر الغائب والذي اغتصبته منه جماعات الاتجار بالدين نتيجة قعوده وتقاعسه عن أداء دوره وموجبات وجوده، وإذا بنا امام واقع محبط حيث تحلق حول الإمام غلاة المتشددين من أمثال محمد عمارة، وعباس شومان، وحسن الشافعي، ومحمد مهنا وغيرهم، وإذا بهم يزجون بالأزهر وشيخه إلي أتون مظان الجمود والتسلف والإخوانية والتشدد، ولم تكن واقعة إسلام بحيري وطلب وقف برنامجه هي الأولي، بل سبقها معركة خاسرة مع الكاتب المفكر إبراهيم عيسي، ورموا كل من قدم نقداً موضوعياً لأداء الأزهر بأنه يحاول هدمه والنيل من الإسلام، إنها فرية محاكم التفتيش وسلطتها الظالمة الرجعية.
وانا هنا لا أدافع عن إسلام بحيري أوغيره، فالأمر تجاوز الأفراد، إنها قضية وطن، لايمكنه النهضة دون استنارة ودون إعادة نظر في حشايا التراث الذي تصطدم كثير من معطياته مع صحيح الدين. وأخشي أن الأزهر بتشدده هذا يقدم البحيري ضحية للغوغاء قتيلاً للتطرف بسبب الاجتهاد، حتي لو اختلفنا مع أسلوبه الهجومي وكلماته الخارجة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.