استشهاد 12 فلسطينيًا جراء قصف للاحتلال استهدف خيام نازحين شمال غرب خان يونس    مواعيد مباريات اليوم السبت في الدوري الإيطالي والقنوات الناقلة    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. السبت 23 أغسطس 2025    60 دقيقة تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. السبت 23 أغسطس 2025    هل يحق لمكتسبي الجنسية المصرية مباشرة الحقوق السياسية؟ القانون يجيب    مهاجر التيك توك «الأفغاني» يقدم نصائح لقتل الزوجات وتجنب العقوبة    القاهرة تسجل 40 مجددا والصعيد يعود إلى "الجحيم"، درجات الحرارة اليوم السبت في مصر    ثوانٍ فارقة أنقذت شابًا من دهس القطار.. وعامل مزلقان السادات يروي التفاصيل    قطع المياه 6 ساعات ببعض مناطق الجيزة لتحويل خط رئيسي    سيف الإسلام القذافي يعلن دعمه لتشكيل حكومة جديدة في ليبيا    ضبط 50 محلًا بدون ترخيص وتنفيذ 40 حكمًا قضائيًا بحملة أمنية بالفيوم    لمحبي الآكلات الجديدة.. حضري «الفاصوليا البيضاء» على الطريقة التونسية (الخطوات والمكونات)    إنقاذ حياة مريض بعمل شق حنجري بمستشفى الجامعي بالمنوفية    جامعة أسوان تهنئ البروفيسور مجدي يعقوب لتكريمه من جمعية القلب الأمريكية    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    الجرام يسجل أقل من 3900 جنيها.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الانخفاض الجديد    عصابات الإتجار بالبشر| كشافون لاستدراج الضحايا واحتجازهم بشقق سكنية    شريف حافظ: الحب هو المعنى في حد ذاته ولا يقبل التفسير... والنجاح مسؤولية يجب أن أكون مستعدًا لها    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    أهداف إنشاء صندوق دعم العمالة غير المنتظمة بقانون العمل الجديد    محمد النمكي: الطرق والغاز جعلت العبور مدينة صناعية جاذبة للاستثمار| فيديو    الأمم المتحدة تعلن المجاعة رسميًا.. ماذا يحدث في غزة؟    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    فيفي عبده تعلن وفاة الراقصة المعتزلة سهير مجدي    تنسيق دبلوم التجارة 2025.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة لطلاب 3 سنوات «رابط وموعد التسجيل»    «ميستحقوش يلعبوا في الزمالك».. إكرامي يفتح النار على ألفينا وشيكو بانزا    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل.. وهذه أسباب تفضيل البعض للخاصة    «الأستانلس أم التيفال»: هل نوع حلة الطبخ يغير طعم أكلك؟    بطريقة درامية، دوناروما يودع جماهير باريس سان جيرمان (فيديو وصور)    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    أطعمة تسبب الصداع النصفي لدى النساء ونصائح للسيطرة عليه    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    وزير الخارجية الأردني: على إسرائيل رفع حصارها عن قطاع غزة والسماح بإيصال المساعدات    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    حدث بالفن| أول تعليق من شيرين عبد الوهاب بعد أنباء عودتها ل حسام حبيب وفنان يرفض مصافحة معجبة ونجوم الفن في سهرة صيفية خاصة    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    رياضة ½ الليل| إيقاف تدريبات الزمالك.. كشف منشطات بالدوري.. تعديلات بالمباريات.. وتألق الفراعنة بالإمارات    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 23 أغسطس 2025    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأزهر ومحاكم التفتيش
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 08 - 04 - 2015

وانا هنا لا أدافع عن إسلام بحيري أوغيره، فالأمر تجاوز الأفراد، إنها قضية وطن، لايمكنه النهضة دون استنارة ودون إعادة نظر في حشايا التراث الذي تصطدم كثير من معطياته مع صحيح الدين.
لسنا هنا بإزاء مبحث تاريخي عن محاكم التفتيش، إنما مقصدنا ماتمثله من دلالة يمكن إسقاطها علي واقع فكري وثقافي في بلادنا ينضح بالتخلف والجهل والتعصب. ولقد عالج مفكرنا الدكتوررمسيس عوض هذا الموضوع في خمسة من كتبه، لعل أبرزها كتابه »‬أبرز ضحايا محاكم التفتيش» الصادر عن الهيئة العامة للكتاب في 2004. حيث تناول حياة العالم الفلكي الكبير جاليليو الذي حاكمته محاكم التفتيش؛ لأنه نادي بأن الأرض كروية وأنها تدور حول الشمس، كما تناول حياة سافونا رولا رجل الدين المعروف بالتقوي الذي اضطهدته محاكم التفتيش وأحرقت جثته؛ لأنه كان يفضح عيوبها ويهاجم فساد البابوات. في هذا الكتاب ناقش أيضاً حياة الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونوالذي ناصب الكنيسة الكاثوليكية العداء واتهمها بالجهل والفساد؛ فكان مصيره الحرق حياً.
محاكم التفتيش »‬سلطة قضائية كنسية استثنائية»وضعها البابا غريغوري التاسع لقمع جرائم البدع والردة، وأعمال السحر والهرطقة، في جميع أنحاء العالم المسيحيوضد اليهود والمسلمين المتحولين، من القرن الثالث عشر إلي السادس عشر. وقد استخدمت في كثير من الأحيان كأداة سياسية لقمع المخالفين في الرأي ليس الديني فقط وإنما السياسي بالأساس. وعلي مر التاريخ، كانت هناك العديد من المحاكم المتخصصة من هذا القبيل. وكان قطع أوصال الناس وحرقهم أحياء أمر مألوف كأسلوب بشع للعقاب حتي وصلت أعداد من تم تعذيبهم ثلاثمئة ألف من البروتستانت ومئة ألف بلغاري وفرنسي وأرثوذكسي، كما تم تعذيب المسلمين المقيمين في بلاد الأندلس بعد سقوطها في قبضة الأوروبيين.لم يقتصر أمر التفتيش في ضمائر الناس وأفكارهم علي هذه القرون، فلعله تجاوزهم إلي ماقبل ذلك للقرن الرابع الميلادي حيث عذبت وقتلت عالمة الرياضيات والفلسفة»هيباتيا» السكندرية في مصر الرومانية، علي يد حشد من الغوغاء بعد اتهامها بممارسة السحر والإلحاد والتسبب في اضطرابات دينية، مما أثر بشدة في انحدار الحياة الفكرية السكندرية، رغم أن الكنيسة قد برأتها بعد ذلك، تماماً مثلما حدث مع القديسة جان دارك بعد ذلك. ولقد استغلت محاكم التفتيش سياسياً في كل خلاف نشأ بين السلطتين الزمنية والروحية في معظم عصور الظلام والتخلف. ولعلي لا أتجاوز واقع الحال إذا أضفت أنه حتي في القرن العشرين كانت الماكارثية في الولايات المتحدة الأمريكية نوعاً من محاكم التفتيش التي تم توظيفها لخدمة الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، وحتي في ماليزيا استخدم مهاتير محمد رئيس الوزراء مثل هذه الذرائع وعزل وسجن نائبه أنور إبراهيم بتهم الفساد واللواط حيث وظف المحرمات الدينية والإخلاقية في السياسة للتخلص من منافسه الطموح بالإغتيال المعنوي، ومن أسف أن هذا السلاح استخدم كثيراً وبإفراط في عالمنا العربي وفي بلادنا المحروسة خصوصاً للتخلص من المعارضين واغتيالهم معنوياً سواء بالإتهام بالفساد المالي أو الأخلاقي. إن محاكم التفتيش لاتزال تطل برأسها مقصلة مسلطة علي رؤوس المعارضين والمخالفين، ولعل في تاريخنا الحديث نماذج يندي لها الجبين بالانحراف بمبدأ الحسبة الدينية وتوظيفها المغرض ظلماً وبهتاناً ضد المجتهدين والمجددين، ولعل مافعله عبدالصبور شاهين ضد نصر حامد أبوزيد واتهامه بالكفر والزندقة والردة، وحسبة الشيخ يوسف البدري ضده وكثيرين غيره، حتي وصل بالأمر إلي الحكم القضائي بالتفريق بينه وزوجه د. ابتهال يونس، مما اضطره للهجرة إلي جامعة ليدنبهولاندا لائذا بفكره واجتهاده. مثل هذا حدث مع الكاتب فرج فودة الذي أهدروا دمه بحجة إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، وتلقفها أحد المخبولين ليقتله، كما حدث مع نجيب محفوظ واتهامه بالكفر والزدنقة في »‬أولاد حارتنا» وكادت تتسبب في قتله علي يد واحد من الرعاع الجهلاء الذي لم يقرأ حرفاً من إبداعات الكاتب الكبير، وتعرض مكرم محمد احمد لمحاولة اغتيال لمثل هذه الأسباب المطاطة المغرضة لإسكات أي صوت يقترب من كهنوت المؤسسة الدينية الذي امتد ليحكم الشارع والمشرع والمجتمع والناس، ويخلق سلطة دينية لم يعرفها الإسلام.
لم نكن نحب أبداً للأزهر أن يعيدنا إلي صفحة من تاريخه حاولنا تناسيها والتجاوز عنها، حين أصدر الشيخ علي عبدالرازق كتابه »‬الإسلام وأصول الحكم» في 1925 ناقش فيه فكرة الخلافة والحكومة المدنية في الإسلام، وكان أولَ دراسة شرعية تؤسِّس للفكرة العَلمانية في الوسط الإسلامي،فأحدث دوياً مادت به الأرض تحت أقدام من حاولوا لتأسيس سلطة دينية، وهاج الأزهر وهيئة كبار العلماء فيه، وجرده من درجة العالمية الأزهرية، وعزلوه من القضاء، تماماً مثلما حدث من الأزهر مع الدكتور طه حسين حين أصدر كتابه »‬في الشعر الجاهلي» عام 1932 مؤسساً لمدرسة نقدية جديدة في اللغة العربية وآدابها، تتجاوز التقليد والموروث والمحافظ إلي رحابة الحداثة والوعي والتجديد والتفتح، وهاج الأزهر واتهم طه حسين في دينه وإيمانه وسحب الكتاب من السوق، وقاد رجال الأزهر ضده حملة شعواء لم تهدأ إلا بقرارحكومةإسماعيل صدقيباشا عام 1932 بفصله من الجامعة كعميد لكلية الآداب، واحتج علي ذلك رئيس الجامعة أحمد لطفي السيد، وقدم استقالته. ولم يعد طه حسين إلي منصبه إلا عندما تقلد الوفدالحكم عام 1936
ماذا يعني هذا؟ يعني في حده الأول أن السلطة الدينية أو من يحاولون صناعتها قسراً وفرضها إفتئاتاً علي أصول الإسلام الذي لايعرف مؤسسة دينية ولا سلطة دينية، لاتزال وستظل دائماً في صراع مع السلطة الزمنية، وأن التقليد والمحافظة ستظل دائماً ضد التجديد والتحديث، وان الأزهر يصر برجعية متشددة علي أن يعيد عقارب الساعة للوراء، وأن رجاله جبلوا علي اعتبار كل محاولة للفكر والاجتهاد خطيئة،مع أن العقل في الإسلام فريضة واجبة، ولقد حثنا القرآن بل أمرنا أن نتفكر ونتدبر.
يؤسفني أن اكتب هذا عن مؤسسة الأزهر، وقد توسمنا فيها خيراً مع تولي الإمام الشيخ أحمد الطيب مشيخته، وحسبنا بل وكتبنا عن استنارة الإمام والأمل في استعادة دور الأزهر الغائب والذي اغتصبته منه جماعات الاتجار بالدين نتيجة قعوده وتقاعسه عن أداء دوره وموجبات وجوده، وإذا بنا امام واقع محبط حيث تحلق حول الإمام غلاة المتشددين من أمثال محمد عمارة، وعباس شومان، وحسن الشافعي، ومحمد مهنا وغيرهم، وإذا بهم يزجون بالأزهر وشيخه إلي أتون مظان الجمود والتسلف والإخوانية والتشدد، ولم تكن واقعة إسلام بحيري وطلب وقف برنامجه هي الأولي، بل سبقها معركة خاسرة مع الكاتب المفكر إبراهيم عيسي، ورموا كل من قدم نقداً موضوعياً لأداء الأزهر بأنه يحاول هدمه والنيل من الإسلام، إنها فرية محاكم التفتيش وسلطتها الظالمة الرجعية.
وانا هنا لا أدافع عن إسلام بحيري أوغيره، فالأمر تجاوز الأفراد، إنها قضية وطن، لايمكنه النهضة دون استنارة ودون إعادة نظر في حشايا التراث الذي تصطدم كثير من معطياته مع صحيح الدين. وأخشي أن الأزهر بتشدده هذا يقدم البحيري ضحية للغوغاء قتيلاً للتطرف بسبب الاجتهاد، حتي لو اختلفنا مع أسلوبه الهجومي وكلماته الخارجة.
وانا هنا لا أدافع عن إسلام بحيري أوغيره، فالأمر تجاوز الأفراد، إنها قضية وطن، لايمكنه النهضة دون استنارة ودون إعادة نظر في حشايا التراث الذي تصطدم كثير من معطياته مع صحيح الدين.
لسنا هنا بإزاء مبحث تاريخي عن محاكم التفتيش، إنما مقصدنا ماتمثله من دلالة يمكن إسقاطها علي واقع فكري وثقافي في بلادنا ينضح بالتخلف والجهل والتعصب. ولقد عالج مفكرنا الدكتوررمسيس عوض هذا الموضوع في خمسة من كتبه، لعل أبرزها كتابه »‬أبرز ضحايا محاكم التفتيش» الصادر عن الهيئة العامة للكتاب في 2004. حيث تناول حياة العالم الفلكي الكبير جاليليو الذي حاكمته محاكم التفتيش؛ لأنه نادي بأن الأرض كروية وأنها تدور حول الشمس، كما تناول حياة سافونا رولا رجل الدين المعروف بالتقوي الذي اضطهدته محاكم التفتيش وأحرقت جثته؛ لأنه كان يفضح عيوبها ويهاجم فساد البابوات. في هذا الكتاب ناقش أيضاً حياة الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونوالذي ناصب الكنيسة الكاثوليكية العداء واتهمها بالجهل والفساد؛ فكان مصيره الحرق حياً.
محاكم التفتيش »‬سلطة قضائية كنسية استثنائية»وضعها البابا غريغوري التاسع لقمع جرائم البدع والردة، وأعمال السحر والهرطقة، في جميع أنحاء العالم المسيحيوضد اليهود والمسلمين المتحولين، من القرن الثالث عشر إلي السادس عشر. وقد استخدمت في كثير من الأحيان كأداة سياسية لقمع المخالفين في الرأي ليس الديني فقط وإنما السياسي بالأساس. وعلي مر التاريخ، كانت هناك العديد من المحاكم المتخصصة من هذا القبيل. وكان قطع أوصال الناس وحرقهم أحياء أمر مألوف كأسلوب بشع للعقاب حتي وصلت أعداد من تم تعذيبهم ثلاثمئة ألف من البروتستانت ومئة ألف بلغاري وفرنسي وأرثوذكسي، كما تم تعذيب المسلمين المقيمين في بلاد الأندلس بعد سقوطها في قبضة الأوروبيين.لم يقتصر أمر التفتيش في ضمائر الناس وأفكارهم علي هذه القرون، فلعله تجاوزهم إلي ماقبل ذلك للقرن الرابع الميلادي حيث عذبت وقتلت عالمة الرياضيات والفلسفة»هيباتيا» السكندرية في مصر الرومانية، علي يد حشد من الغوغاء بعد اتهامها بممارسة السحر والإلحاد والتسبب في اضطرابات دينية، مما أثر بشدة في انحدار الحياة الفكرية السكندرية، رغم أن الكنيسة قد برأتها بعد ذلك، تماماً مثلما حدث مع القديسة جان دارك بعد ذلك. ولقد استغلت محاكم التفتيش سياسياً في كل خلاف نشأ بين السلطتين الزمنية والروحية في معظم عصور الظلام والتخلف. ولعلي لا أتجاوز واقع الحال إذا أضفت أنه حتي في القرن العشرين كانت الماكارثية في الولايات المتحدة الأمريكية نوعاً من محاكم التفتيش التي تم توظيفها لخدمة الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، وحتي في ماليزيا استخدم مهاتير محمد رئيس الوزراء مثل هذه الذرائع وعزل وسجن نائبه أنور إبراهيم بتهم الفساد واللواط حيث وظف المحرمات الدينية والإخلاقية في السياسة للتخلص من منافسه الطموح بالإغتيال المعنوي، ومن أسف أن هذا السلاح استخدم كثيراً وبإفراط في عالمنا العربي وفي بلادنا المحروسة خصوصاً للتخلص من المعارضين واغتيالهم معنوياً سواء بالإتهام بالفساد المالي أو الأخلاقي. إن محاكم التفتيش لاتزال تطل برأسها مقصلة مسلطة علي رؤوس المعارضين والمخالفين، ولعل في تاريخنا الحديث نماذج يندي لها الجبين بالانحراف بمبدأ الحسبة الدينية وتوظيفها المغرض ظلماً وبهتاناً ضد المجتهدين والمجددين، ولعل مافعله عبدالصبور شاهين ضد نصر حامد أبوزيد واتهامه بالكفر والزندقة والردة، وحسبة الشيخ يوسف البدري ضده وكثيرين غيره، حتي وصل بالأمر إلي الحكم القضائي بالتفريق بينه وزوجه د. ابتهال يونس، مما اضطره للهجرة إلي جامعة ليدنبهولاندا لائذا بفكره واجتهاده. مثل هذا حدث مع الكاتب فرج فودة الذي أهدروا دمه بحجة إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، وتلقفها أحد المخبولين ليقتله، كما حدث مع نجيب محفوظ واتهامه بالكفر والزدنقة في »‬أولاد حارتنا» وكادت تتسبب في قتله علي يد واحد من الرعاع الجهلاء الذي لم يقرأ حرفاً من إبداعات الكاتب الكبير، وتعرض مكرم محمد احمد لمحاولة اغتيال لمثل هذه الأسباب المطاطة المغرضة لإسكات أي صوت يقترب من كهنوت المؤسسة الدينية الذي امتد ليحكم الشارع والمشرع والمجتمع والناس، ويخلق سلطة دينية لم يعرفها الإسلام.
لم نكن نحب أبداً للأزهر أن يعيدنا إلي صفحة من تاريخه حاولنا تناسيها والتجاوز عنها، حين أصدر الشيخ علي عبدالرازق كتابه »‬الإسلام وأصول الحكم» في 1925 ناقش فيه فكرة الخلافة والحكومة المدنية في الإسلام، وكان أولَ دراسة شرعية تؤسِّس للفكرة العَلمانية في الوسط الإسلامي،فأحدث دوياً مادت به الأرض تحت أقدام من حاولوا لتأسيس سلطة دينية، وهاج الأزهر وهيئة كبار العلماء فيه، وجرده من درجة العالمية الأزهرية، وعزلوه من القضاء، تماماً مثلما حدث من الأزهر مع الدكتور طه حسين حين أصدر كتابه »‬في الشعر الجاهلي» عام 1932 مؤسساً لمدرسة نقدية جديدة في اللغة العربية وآدابها، تتجاوز التقليد والموروث والمحافظ إلي رحابة الحداثة والوعي والتجديد والتفتح، وهاج الأزهر واتهم طه حسين في دينه وإيمانه وسحب الكتاب من السوق، وقاد رجال الأزهر ضده حملة شعواء لم تهدأ إلا بقرارحكومةإسماعيل صدقيباشا عام 1932 بفصله من الجامعة كعميد لكلية الآداب، واحتج علي ذلك رئيس الجامعة أحمد لطفي السيد، وقدم استقالته. ولم يعد طه حسين إلي منصبه إلا عندما تقلد الوفدالحكم عام 1936
ماذا يعني هذا؟ يعني في حده الأول أن السلطة الدينية أو من يحاولون صناعتها قسراً وفرضها إفتئاتاً علي أصول الإسلام الذي لايعرف مؤسسة دينية ولا سلطة دينية، لاتزال وستظل دائماً في صراع مع السلطة الزمنية، وأن التقليد والمحافظة ستظل دائماً ضد التجديد والتحديث، وان الأزهر يصر برجعية متشددة علي أن يعيد عقارب الساعة للوراء، وأن رجاله جبلوا علي اعتبار كل محاولة للفكر والاجتهاد خطيئة،مع أن العقل في الإسلام فريضة واجبة، ولقد حثنا القرآن بل أمرنا أن نتفكر ونتدبر.
يؤسفني أن اكتب هذا عن مؤسسة الأزهر، وقد توسمنا فيها خيراً مع تولي الإمام الشيخ أحمد الطيب مشيخته، وحسبنا بل وكتبنا عن استنارة الإمام والأمل في استعادة دور الأزهر الغائب والذي اغتصبته منه جماعات الاتجار بالدين نتيجة قعوده وتقاعسه عن أداء دوره وموجبات وجوده، وإذا بنا امام واقع محبط حيث تحلق حول الإمام غلاة المتشددين من أمثال محمد عمارة، وعباس شومان، وحسن الشافعي، ومحمد مهنا وغيرهم، وإذا بهم يزجون بالأزهر وشيخه إلي أتون مظان الجمود والتسلف والإخوانية والتشدد، ولم تكن واقعة إسلام بحيري وطلب وقف برنامجه هي الأولي، بل سبقها معركة خاسرة مع الكاتب المفكر إبراهيم عيسي، ورموا كل من قدم نقداً موضوعياً لأداء الأزهر بأنه يحاول هدمه والنيل من الإسلام، إنها فرية محاكم التفتيش وسلطتها الظالمة الرجعية.
وانا هنا لا أدافع عن إسلام بحيري أوغيره، فالأمر تجاوز الأفراد، إنها قضية وطن، لايمكنه النهضة دون استنارة ودون إعادة نظر في حشايا التراث الذي تصطدم كثير من معطياته مع صحيح الدين. وأخشي أن الأزهر بتشدده هذا يقدم البحيري ضحية للغوغاء قتيلاً للتطرف بسبب الاجتهاد، حتي لو اختلفنا مع أسلوبه الهجومي وكلماته الخارجة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.