الدنيا مقلوبة في أفغانستان فقد ظهر فيها أفغاني مسلم تنصر، ورفعت السلطات عليه قضية للحكم بعقوبة حد الردة المعرف، الاستتابة ثلاثة أيام أو القتل. وكان هذا الأفغاني يعمل في بعض الهيئات التي تقدم معونات لأفغانستان، وبالطبع فإن فكرته عن الإسلام هي فكرة طالبان، وعلي أحسن تقدير، هي فكرة السلفية التي تمسك بحد الردة كأنه أحد المقدسات، وقدر له أن يسافر إلي البلاد التي تقدم المعونات، وشاهد الفرق الشاسع، ولعل البعض أقنعوه بأن تقدم أوروبا يعود إلي المسيحية وتأخر الشرق يعود إلي الإسلام، وتقبل هو هذا سواء كان إيمانا أو لمجموعة مؤثرات أخري، فتنصر ولما عاد إلي بلده وعرف عنه أنه بدل دينه.. لم يبق علي حكومة أفغانستان إلا أن تكمل الحديث الذي يعزونه إلي الرسول "فاقتلوه". وما أن بدأت أحداث القضية حتي تحركت قوي الغرب المعهودة وأولها أمريكا التي عبرت علي لسان وزيرة خارجيتها استياءها.. ومخالفة ذلك لحقوق الإنسان.. وتبعتها قوي أخري. وفي مقابل هذا أعلن القضاء.. أن من حقه أن يحاكم المواطنين الأفغانيين طبقا لقوانين دينهم، وأن القضاء مستقل ولا تملك الدولة نفسها له شيئا. وتحرج الوقف، واخر ما وصلنا من تطورات هو أن إيطاليا عرضت عليه اللجوء السياسي، ويحتمل جدا أن يدخل السفارة الإيطالية في كابول وعندئذ لا تستطيع أفغانستان أن تفعل له شيئا لأن العرف الديبلوماسي في العالم أجمع أن سفارة دولة ما هي قطعة من أرض دولتها في الدولة الأخري، ولها حصانة ولا يمكن اقتحامها. وليس من البعيد أن يتسلل هاربا من السفارة، أو أن تهربه السفارة إلي إيطاليا يستمتع بحق اللجوء السياسي، وليصبح بطلا من إبطال حرية الفكرة ومناضلا ضد الإسلام وكل من يناضل ضد الإسلام يظفر بالحماية والشهرة وتعرض عليه المناصب والأموال. وسألني مندوب الإذاعة البريطانية عما إذا كان من حق فرد ما أن يغير دينه من الإسلام إلي أي ديانة أخري. قلت له هل سألت أحدا قبلي من الأئمة الأعلام؟ قال سألت الدكتور عبدالصبور شاين فقال إن من حقه أن يتنصر علي ألا يجاهر بهذا، أي أن يبقي الأمر فيما بينه وبين نفسه. وقال سألت كذلك الدكتور عبدالمعطي بيومي فقال لي إن حديث "من بدل دينه فاقتلوه عموم" يحكمه خصوص أحاديث أخري تربط ما بين الردة ومفارقة الجماعة، التي كانت تعني وقتئذ "الخيانة العظمي" كما يقولون. وسألني المذيع رأيي؟ قلت له إن كلام الدكتور عبدالصبور شاهين لا معني له، فلا يمكن لأحد أن يعتنق دينا ويتكتم ذلك ولكل دينه شعائره التي يعد أداؤها إعلانا عنه ولا يمكن إلزام أحد بالتكتم علي دينه، فضلا عن أن هذا يناقض "حق التعبير" الذي يعد تصديقا عمليا لحق حرية الاعتقاد كما أن كلام الدكتور عبدالمعطي هو كلام بعض الفقهاء الذي لا يسلم به فقهاء آخرون، إن لم يرفضوا مبدأ تخصيص العام أصلا.. وبالتالي فلا يكون حلا. وفضلا عن هذا كله فإن الفقهاء لم يقنعوا بحديث "من بدل دينه فاقتلوه" (وبالمناسبة فإن الحديث وإن جاء في البخاري إلا أن الإمام مسلم يدخل رفض أن يدخر صحيحه أي حديث عن عكرمة الذي روي هذا الحديث) فأبدعوا صيغة "من جحد معلوما من الدين بالضرورة يعد مرتدا ويطبق عليه حد الردة ويمكن للمحكمة باستجواب المتهم أن تجد مائة قضية تعد جحدا للمعلوم. والحقيقة التي يجب علي الجميع أن يعلمونها ويسلموا بها تسليما أن حرية الاعتقاد مقررة في الإسلام ومفتوح بابها علي مصراعيه "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" "لا إكراه في الدين" وقد ذكر القرآن الردة صراحة مرارا ولم يرتب عليها عقوبة دنيوية ولاحظ ذلك الدكتور شلتوت رحمة الله عليه، والاحتجاج بحرب الردة في عهد أبي بكر مردود، فإن كثيرا من المرتدين كانوا مسلمين يؤدون الصلوات، ولكنهم رفضوا الخلافة المركزية أرادوا العودة مرة أخري إللي الأعراف القبلية ورفضوا دفع الزكاة فالقضية سياسية واقتصادية وليست عقيدية وقد أعلن ذلك أبو بكر عندما قال "لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه للرسول لقاتلتهم عليه"، أما الأحاديث فالمفروض ألا يناقض أي حديث صريح القرآن، ومن هنا فإن فيها جميعا مقال وقد ذهب معظم الفقهاء ومنهم ابن تيمية إلي أن الردة عن العقيدة وحدها لا توجب حدا ولكن إذا اقترنت هذه الردة بحرب المسلمين أو قتل المسلمين فعندئذ تكون العقوبة، أكد ابن تيمية أن الرسول لم يقتل أحدا لمجرد الردة، كما أن المحدثين يضعون الردة في بابا البغاة وأهم من هذا أن عددا من المسلمين ارتدوا في عهد الرسول وكان منهم أحد كتبه القرآن، فما تعقبهم الرسول بعقوبة، ولا استتاب أحدهم. ومنذ ثلاثين عاما، منذ أن أعلن السادات عن إصدار قانون الردة بادرنا بإصدار كتاب الإسلام وحرية الاعتقاد استنكرنا فيه هذا القانون وقلنا إنه يؤسس محكمة تفتيش إسلامية يضع قضاتها العمائم علي رؤوسهم وتابعنا الكتابة في خمسة أو ستة كتب في هذا الموضوع فضلا عن العديد من المقالات حتي قيل إن الأزهر قد استكان خيرا وأنه قرر عرض الاستتابة علي المرتد أبدا، أي أن يستتاب ما ظل حيا، وهي طريقة للاحتفاظ بماء الوجه والخلوص من المأزق. ولكن يبدو أن حد الردة عزيز جدا علي قلوب المسلمين بحيث لا يقبلون هوادة فيه وليس علي ذلك من أن الدكتور طه جابر العلواني تردد قبل أن يعلن رأيه الرافض للحد سنوات طوال، وظل مترددا حتي تخلص من كل مناصبه الرسمية، ومع هذا فإنه تجاهل الأحاديث التي تساق تأييدا لحد الردة مع أنها هي الأساس الذي بنا الفقهاء عليه حد الردة". متي يفهم المسلمون أن تمسكهم بهذا الحد المدعي إنما يطمس إحدي مفاخر الإسلام وأنهم يسيئون إليه إساءة بالغة لا يصل إليها أعدي أعداء الإسلام، متي يخلصون مما وضعه أسلافهم في ظروف مختلفة وبفهم مختلف وبقبول أحدايث كان يحب لأكثر من سبب أن ترفض؟ فهل لهذا الليل من آخر..؟