تناثرت خلال الأسابيع الأخيرة تصريحات وكتابات داخل مصر وخارجها عن اقتراحات ومبادرات وجهود لإجراء «مصالحة» مع جماعة الإخوان فى مصر، إلى الحد الذى جعل البعض يظن أنها إن لم تكن قد بدأت بالفعل فهى على وشك هذا. وقد زاد من حجم التوقعات والشائعات حول هذه «المصالحة» التحركات الأخيرة لقيادات الإخوان فى الخارج، وأبرزها ما سمى بمبادرة القيادى المصرى يوسف ندا المقيم بإيطاليا وأحد مسئولى التنظيم الدولي، وزيارة زعيم حزب النهضة التونسى راشد الغنوشى الملكة العربية السعودية، وما نشر عنها من أنه سيطرح على القيادة السعودية مبادرة أخرى للمصالحة مع الإخوان فى مصر يكون لهذه القيادة دور الوساطة فيها. والحقيقة أنه قبل التطرق إلى مضامين بعض ما ينشر عن تلك «المصالحة» وما يرد فيها من أخطاء جوهرية، فالضرورى هو إعادة ضبط المصطلح. فالقول بالمصالحة يعنى من الناحية اللغوية والموضوعية أننا إزاء عملية لإعادة العلاقات الطبيعية بين طرفين متساويين فى الوزن والمكانة والحقوق والواجبات، وأنها وفقا لهذا تقتضى من كل منهما القيام بخطوات إيجابية ومتزامنة تجاه الطرف الآخر لإعادة بناء الثقة وإنهاء نقاط الصراع أو الخلاف. «المصالحة» بهذا المعنى الشائع أو الذى يراد له أن يشيع، هى نتاج لعملية تفاوض بين طرفيها المتساويين، يستخدم كل منهما فى أثنائها وقبلها كل ما لديه من أوراق ضغط، بحيث تكون هذه «المصالحة» فى النهاية انعكاسا لها. و«المصالحة» بذلك هى عملية بسيطة من مستوى واحد من الإجراءات المتبادلة والمتزامنة بين طرفيها بحسب قوة وضغوط كل منهما، لا يملك أحدهما أن يفرض على الآخر مستوى آخر إضافيا من إجراءات مختلفة إلا ويحق للطرف الثانى أن يطالبه بإجراءات مماثلة ومتزامنة على نفس هذا المستوى الجديد. كل هذه المعانى التى يحملها مصطلح «المصالحة» لا تنطبق بأى حال على العملية التى يمكن أن تجرى فى مصر مع جماعة الإخوان المسلمين، أيا كانت إجراءاتها وخطواتها وشروطها. فما جرى فى مصر منذ شهر نوفمبر 2012 بعد إصدار الرئيس المعزول محمد مرسى إعلانه الدستورى وحتى اليوم ليس نزاعا أو خلافا أو صراعا بين طرفين متساويين فى الوزن والمكانة والحقوق والواجبات، فالإخوان خاضوا كل ما جرى باعتبارهم «جماعة»، وفى أقصى الحالات «تحالفا» لدعم ما يسمونه الشرعية، بينما كان أمامهم على الجانب الآخر جموع شعبية كبيرة قبل 30 يونيو 2013 تحولت إلى أغلبية شعبية ثائرة على حكمهم وجماعتهم فى هذا اليوم، ثم أضيفت إليها الدولة بكل مؤسساتها وأجهزتها أثناء المرحلة الانتقالية للرئيس عدلى منصور، وتأكدت بعد انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسى قبل عام. وحتى لا يخدع الإخوان أنفسهم أو تخدعهم كتابات ونصائح بعض السياسيين والمثقفين، فمنذ البداية وحتى اللحظة لا يخوض معركتهم فى مواجهة الجموع الشعبية والدولة سوى تنظيمهم وتحالفهم وبعض المعارضين لما جرى منذ 30 يونيو 2013، ولم يكن هناك من قطاعات شعبية تذكر ولا أى من مؤسسات الدولة بجانبهم، الأمر الذى يؤكد أننا لسنا إزاء طرفين متساويين فى الوزن والمكانة والحقوق والواجبات، وبالتالى لسنا إزاء «مصالحة» بالمعانى التى يحملها هذا المصطلح. ما يمكن أن يحدث، إذا حدث، هو عملية متعددة المستويات ومختلفة التوقيتات بما يعطيها أسماءً أخرى، وهو ما تؤكده الخبرات الدولية والعربية. ولن نذهب بعيدا، ففى العالم العربى وبالتحديد فى الجزائر والتى نشب فيها منذ عام 1992 ولنحو عشر سنوات صراع أكثر عنفا ودموية وخسائر بكثير مما يجرى فى مصر بعد إزاحة الجبهة الإسلامية للإنقاذ من المعادلة السياسية، لم تجر الأمور لإنهاء الصراع باعتبارها «مصالحة» بين طرفين متساويين تتم عبر مفاوضات يضغط كل منهما فيها على الآخر، بل جرت باعتبار أن الدولة ووراءها أغلبية شعبية تقوم بإجراءات يتم التوافق عليها مع طرف سياسى هو الجبهة وأنصارها. وبالرغم من امتلاك الجبهة أغلبية تجاوزت 80% من أصوات الناخبين فى الجولة الأولى للانتخابات التشريعية الملغاة عام 1991 ولميليشيا مسلحة ضخمة اسمتها الجيش الإسلامى للإنقاذ ولحلفاء مسلحين أكثر شراسة، فلم تفرض على الدولة وأغلبية ما نطلق عليه عندنا «المصالحة» بما تتضمنه من تفاوض وضغوط متبادلة. ومن هنا فقد اختار الجزائريون ووافقت الجبهة الإسلامية على استخدام مصطلح آخر وهو «الوئام المدني» وهو الاسم الذى حمله القانون الذى اقترحه الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة وأقره البرلمان عام 1999 لينهى الأزمة فى البلاد. فالمصالحة فى اللغة العربية، وبحسب المعجم الوسيط، تعنى إزالة الخلاف والاتفاق عبر المسالمة بين الطرفين المتساويين، وهو ما لم ينطبق على الوضع فى الجزائر، ولا ينطبق بحال على الأوضاع فى مصر، أما الوئام فهو فى معاجم اللغة، وخصوصاً لسان العرب، يعنى اتباع طرف أو أكثر وموافقته لما يفعله الطرف الآخر. أى أن المعنى الاصطلاحى للوئام يميز بين الطرفين الداخلين فيه، فأحدهما هو الأكبر وهو الذى يتبعه الآخر الذى يقل عنه مكانة ودورا، وهو ما يؤكده المعنى الواقعى لما يجرى اليوم فى مصر، فالدولة ومعها أغلبية الشعب لايمكن أن تكونا على قدم المساواة مع «جماعة» أو «تحالف»، فلهما دوما القيادة والخطوة الأولى وعلى غيرهما واجب الموافقة والاتباع، مع الحفاظ على جميع حقوقهم الدستورية والقانونية والإنسانية. كذلك فإن ما جرى فى الجزائر ويقتضيه المعنى الاصطلاحى والموضوعى لمصطلح «الوئام»، هو أن تتعدد مستويات تحقيق هذا الوئام وتتتابع خطواته وإجراءاته إذا قدر له الحدوث. فالوئام وقانونه فى الجزائر لم يبدءا سوى بعد إعلان إيقاف العنف والإرهاب من جانب الجبهة الإسلامية للإنقاذ وجيشها وتسليم أسلحته، بل وتعاونه مع الدولة لشهور طويلة فى تعقب المجموعات المسلحة الأكثر تطرفاً فى أرجاء البلاد. والوئام وقانونه فى الجزائر لم يبدءا ويستمرا إلا بعد الاعتراف الصريح المباشر من قيادة الجبهة، وكانت حزبا رسميا وليست جماعة محظورة، بشرعية الحكم فى البلاد وحق الدولة دون غيرها فى قيادتها والاستخدام المشروع للقوة. وبعد عامين كاملين من بدء هذه الإجراءات فى نهاية عام 1997، صدر قانون «الوئام المدني» لكى يضع ويحدد ما ستقوم به الدولة من إجراءات لإتمام هذا الوئام المستمر حتى اليوم. ما يمكن أن يحدث فى مصر مع الإخوان إذا توافرت شروطه وظروفه يجب ألا يكون أبدا «مصالحة» بل «وئام»، وهو ليس محض «فذلكة» لغوية بل تفرقة تامة فى المضمون والأطراف والإجراءات ومن ثم النتائج بين عمليتين كاملتى الاختلاف. فهل يستطيع دعاة «المصالحة» وداعموها إعادة النظر فى مصطلحهم وفى مضمونه بصورة واقعية وسياسية وعلمية تتوافق مع ما جاء بالسطور السابقة من معان لغوية ومضمونية وخبرات أخرى، حتى تكون البداية صحيحة؟ سؤال ينتظر الإجابة أو الإجابات!. لمزيد من مقالات ضياء رشوان