انعقد المؤتمر الآسيوى الافريقى الأول فى قرية باندونج بأندونيسيا فى شهر ابريل عام 1955 وتولدت عنه وعن المبادئ التى توصل إليها المشاركون موجة هائلة من التضامن والتعاون والرغبة فى إقامة نظام عالمى جديد يدعو إلى الحرية والتضامن ومواجهة هيمنة الاستعمار والتبعية. فظهرت "حركة عدم الانحياز" و"منظمة تضامن الشعوب الافريقية الآسيوية" التى لعبت دورا لا يمكن إنكاره فى مساندة حركات التحرر وأسهمت إلى حد بعيد فى القضاء على الاستعمار القديم. وفى جلسة الذكرى الستين لمؤتمر باندونج التى عقدتها منظمة تضامن الشعوب الافريقية الآسيوية على هامش اجتماع لجان التضامن العربى بالقاهرة استعرض عدد من المفكرين والساسة والخبراء من عدة دول عربية سبل استمرار ودفع وتجديد "روح باندونج" وحركة عدم الانحياز والتضامن الافريقى الآسيوى فى ظل ما يحدث من تغيرات فى عالم اليوم واختلاف البيئة الدولية والإقليمية الآن عما كانت عليه فى عام 1955. أشار أ. د. حلمى الحديدى رئيس منظمة تضامن الشعوب الافريقية الآسيوية إلى أن روح باندونج يجب أن تصبح حقيقة نعايشها، وأن تتغير الأوضاع سواء فى منظمة التضامن أو فى حركة عدم الانحياز بحيث تتواءم مع العصر وتؤثر فيه و"تحقق النصر لشعوبنا" سواء كان ذلك تحت مسمى "الآسيوية الافريقية اللاتينية" أو تحت مسمى "الجنوب الجنوب"، ولكن المهم أن يكون هناك رفض للمقولة الغربية الاستعمارية الشهيرة "الغرب والآخرون". وأشار الحديدى إلى أن باندونج كانت قرية فى طى النسيان، وجاء مؤتمر باندونج الذى عقد فيها ليجعلها من أشهر الأماكن فى عالمنا النامى وعالم عدم الانحياز. ويرى الحديدى أن منظمة تضامن الشعوب الافريقية الآسيوية وحركة عدم الانحياز، نتاج مؤتمر باندونج، فى حاجة إلى تغيير بعض المفاهيم والأساليب حتى تتمكن من التواء م مع العصر الحديث فى كثير من أمورها. فلا يجب أن تقتصر حركة عدم الانحياز على مؤتمر ينعقد كل ثلاثة أعوام ليكون بمثابة مؤتمر مراسمى "للتسليم والتسلم" فقط، وهو ما وصلت إليه حال حركة عدم الانحياز الآن، مع أن للحركة دورا خطيرا وكبيرا وأنها تملك أكبر كتلة تصويتية فى الأممالمتحدة وتستطيع أن تقوم بتغيير أساسى فى حياتنا جميعا. إلا أن الحديدى يشعر أن نظامها الأساسى وأسلوب العمل فيها يحتاج إلى كثير من التعديل والتغيير. وتحدث محمد فائق رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان عن مؤتمر باندونج واصفا إياه بالعلامة الفارقة فى تاريخ العلاقات الدولية وفى تاريخ السياسة المصرية أيضا. . ويرى فائق أن سياسة عدم الانحياز ظلت حتى يومنا هذا تحمل معنى الاستقلال السياسى والاقتصادى. وعلى الرغم من اقتصارها حاليا على عقد اجتماعات دورية كل ثلاث سنوات، فإن الرمز فى تلك الاجتماعات يؤكد أن "عدم الانحياز" مرادف للاستقلال والتحرر والدعوة إلى السلام القائم على العدل. ويؤكد فائق أنه كانت من أهداف باندونج إقامة نظام دولى أكثر عدلا بين من يملك ومن لا يملك وهو المطلب الذى مازلنا نردده حتى الآن و"إن كان مطلب العدالة قد تغير ليكون الآن بين من يعرف ومن لا يعرف". واعترف فائق بأن باندونج فشل فى إقامة نظام دولى أكثر عدلا، إلا أنه عاد ليؤكد أن القوة الحقيقية التى خرجت عن هذا المؤتمر هى : "روح التضامن" التى أسهمت بشكل إيجابى فى القضاء على الاستعمار وسياسة الأبارتهيد (الفصل العنصرى)، واستقلال كل الدول الافريقية والآسيوية. وفى مصر يرى فائق أنه لولا روح باندونج لما استطاعت مصر الإقدام على خطوة تأميم قناة السويس. ولما أصبحت القاهرة قاعدة أساسية لحركات التحرر. وتحدث الخبير د. محمد السعيد إدريس ، مشيرا إلى أن مؤتمر باندونج وضع أسس حركة عالمية وفى قلبها حركة عربية للتحرر، وأنه أنهى التبعية وبدأ مشروع الاستقلال. وأكد د. إدريس أن إرادة التحدى هى أهم ما قدمه باندونج وهو ما نفتقده الآن محذرا من مرور العالم العربى بمرحلة استقطاب مفروضة عليه. وطالب د. إدريس باستخلاص العبر والدروس من كل ما يحدث من تغيرات فى عالمنا الآن والشروع فى الحديث عن تشكيلات ورؤى وفكر جدد وإحياء جديد لإرادة التحدى فى مواجهة إرادة التقسيم والتفتيت داخل دول العالم العربى مثل العراق وسوريا وليبيا. كما طالب بإعادة صياغة وبلورة رؤية جديدة للتضامن داخل الوطن العربى، وأن يعود الوعى بأن العالم العربى هو شعب واحد. وناشد د. إدريس العالم العربى البحث عن مشروع خاص به مثل مشروع الانعتاق العربى ومشروع التحضر العربى والحضارة والنهضة العربية لأنها المدخل الحقيقى ومصدر القدرة حتى يكون الوطن العربى شريكا فى النظام العالمى. وتحدث الكاتب والمفكر أ.د. حلمى شعراوى مطالبا بالبحث على المستوى الشعبى وما طرأ عليه من تطورات منذ مؤتمر باندونج وحتى اليوم إذا كانت هناك رغبة فى القيام بدور جديد. وتساءل شعراوى إذا كانت هناك إمكانية للدعوات الإقليمية فى الوقت الحاضر لمواجهة العولمة والهيمنة؟! وأكد أن هناك صعوبة فى إعادة الطرح النظرى لفكرة القومية العربية أو لحركة الجامعة الافريقية. ويرى شعراوى أن الدعوة الحقيقية السائدة هى دعوة ال"جنوب جنوب"، أى التضامن والتعاون بين دول الجنوب بعضها البعض. وتحدث أ.د. بركات موسى الحواتى من وفد السودان مؤكدا أن مبادئ باندونج مطلوبة فى وقتنا الحاضر وخاصة فيما يتعلق بالمبادئ المرتبطة باحترام ميثاق الأممالمتحدة وحقوق الإنسان واحترام سيادة الدول وسلامة أراضيها والامتناع عن التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى، واحترام حق كل دولة فى الدفاع عن نفسها. وأكد د. الحواتى أن الدول النامية فى حاجة إلى التنمية لتكون قادرة على الفعل والتقدم. وهكذا بات من الواضح أن اختلاف البيئة الدولية والإقليمية يتطلب إنعاش "روح" باندونج وما تولد عنها من آليات بما يتماشى مع تطلعات الوطن العربى والدول النامية فى ظل عالم جديد تفصله عن عالم باندونج 60 عاما كاملة.