فجأة أصبح موضوع محاربة الفساد هو موضوع الساعة. الحكومة تؤكد التصدى للفساد.. وسائل الإعلام تتحدث عن محاربة الفساد.. المراكز البحثية والأكاديمية تعقد الندوات بشأن محاربة الفساد.. منظمات المجتمع المدنى تنظم الدورات التدريبية للعاملين بالجهات الحكومية للتوعية بمزايا مكافحة الفساد، خيرا اللهم اجعله خير.. هل نأخذ كلام الحكومة بجدية ونصدق أنها عازمة بالفعل على محاربة الفساد؟ إذا كانت الحكومة صادقة بالفعل لماذا لم يتم إلغاء قانون تحصين عقود الدولة، الشهير بقانون تحصين الفساد، الذى صدر فى إبريل 2014 والذى ينتزع من المواطنين الحق فى الطعن على أية عقود تبرمها الحكومة أو مؤسساتها المختلفة، ويجعل ذلك الحق حكرا لطرفى التعاقد أى الحكومة والشخص أو الجهة التى تعاقدت معها؟ بل إنه وفقا للمادة الثانية من ذلك القانون يتعين أن تقضى المحكمة من تلقاء نفسها بعدم قبول الدعاوى أو الطعون المتعلقة بالعقود التى تكون الدولة ومؤسساتها المختلفة طرفا فيها. المواطن لا يمكنه الطعن على تلك العقود إلا فى حالة واحدة فقط هى أن يكون من أصحاب الحقوق الشخصية أو العينية على الأموال محل التعاقد. فلكى تدافع عن المال العام يجب أن تكون لك أسهم فى الشركة محل التعاقد أو مالكا للأرض التى قامت الدولة ببيعها، ولكى تشكو من فساد الصفقة يجب أن تكون قد دخلت فى المناقصة أو المزايدة ثم أرست الحكومة العطاء دون وجه حق على شخص آخر! قانون تحصين الفساد لا يزال قائما ويسرى على كل التعاقدات التى تبرمها الدولة حاليا مع المستثمرين المحليين والأجانب وعلى كل عقود المشاركة فى مجال مشروعات الخدمات والمرافق التى يجرى طرحها على القطاع الخاص والتى تشمل إعادة هيكلة المستشفيات الجامعية ومحطات معالجة مياه الصرف الصحى و مشروعات تحلية مياه البحر و تدوير المخلفات الصلبة لإنتاج الكهرباء و خطوط السكك الحديدية والترام و إنشاء مدارس حكومية و خطوط الأوتوبيس النهرى و الموانى النيلية ومشروعات إنارة الشوارع. إذا كانت الحكومة صادقة فى عزمها محاربة الفساد فلماذا تبيح التصالح مع المستثمرين ورجال الأعمال فى الجرائم التى تتعلق بالإضرار بالمال العام سواء من خلال التأجيل العمدى لتنفيذ عقود مقاولات أو نقل أو توريد أو أشغال عامة مع أجهزة الدولة أو من خلال الغش فى تنفيذ العقود؟ إذا كانت الدولة صادقة فى محاربة الفساد فلماذا قامت بتعديل قانون الإجراءات الجنائية كى تسمح بجواز التصالح مع المستثمرين ورجال الأعمال فى تلك الجرائم حتى بعد صدور حكم بات من القضاء وحتى لو كان المحكوم عليه محبوسا نفاذا لهذا الحكم، لينتهى الأمر بوقف تنفيذ العقوبة نهائيا ؟ هل يكفى التصالح واسترداد الأموال التى حصل عليها رجل الأعمال مثلا من غش فى مواصفات بناء كوبرى أو مدرسة أو توريد أجهزة طبية حتى لو كان ذلك يعنى تعريض حياة المواطنين للخطر؟ لماذا تكرر الحكومة السنة التى استنها نظام مبارك بتجاوز أحكام القضاء من أجل عيون الفاسدين؟ ففى عام 2005 ومن أجل عيون نواب القروض المسجونين آنذاك تم تعديل قانون البنك المركزى والجهاز المصرفى كى ينص على جواز التصالح مع عملاء البنوك وإسقاط الدعاوى الجنائية فى أى مرحلة، حتى بعد صدور حكم بات وحتى لو كان المتهم يقضى العقوبة بالفعل (مادة 133). نواب القروض خرجوا من السجون بفضل تلك المادة والتى تتكرر الآن بنفس منطوقها تقريبا فى المادة 18 مكرر (ب) ضمن تعديلات قانون الإجراءات الجنائية الصادر فى مارس 2015. إذا كانت الحكومة جادة فى محاربة الفساد فلماذا لم تقم حتى الآن بتحريك الدعاوى الجنائية ضد المسئولين السابقين الذين أبرموا عقود بيع شركات الخصخصة، بعد أن صدرت أحكام القضاء النهائية تؤكد فساد تلك العقود وتقضى ببطلان البيع وإعادة الشركات إلى ملكية الدولة؟ الأمثلة فى هذا الشأن عديدة ولعل من أهمها عمر أفندى والمراجل البخارية والنيل لحليج الأقطان وطنطا للكتان وغزل شبين وأسمنت أسيوط. أحكام القضاء تحدثت عن المخالفات وإهدار ملكية الشعب، والغش ممن ولى إدارة هذا المال، وعن بيع الأصول العامة بأثمان بخسة. أطراف تلك العقود الفاسدة من رؤساء وزارات ووزراء ورؤساء شركات قابضة معروفون وأسماؤهم مثبتة فى أوراق القضايا، ومن المؤكد أنهم لم ينبروا لبيع أملاكنا بخسا من باب السذاجة والغفلة، بل تقاضوا المقابل من لحمنا الحي. المفروض أن قاعدة البيانات المتوافرة لدى وحدة مكافحة غسل الأموال الموجودة فى مقر البنك المركزى المصرى تتضمن تفاصيل تحركات حسابات هؤلاء المسئولين وتحويلاتهم وقروضهم والاعتمادات المستندية لوارداتهم. المفروض أن كبار المسئولين فى الدولة يندرجون ضمن فئة الأشخاص ذوى المخاطر المرتفعة بحكم مناصبهم، و يتم متابعة حساباتهم بصورة مستمرة من خلال تقارير دورية. والمفروض أنه يتم الاحتفاظ بالسجلات الخاصة بكافة المعاملات لمدة لا تقل عن خمس سنوات. والمفروض أيضا أن منظومة مكافحة غسل الأموال فى المراكز المالية العالمية توفر قاعدة البيانات اللازمة لتتبع الجرائم المالية العابرة للحدود وأن لدينا اتفاقيات لتبادل المعلومات بين وحدات التحريات المالية مع 16 دولة عربية وأجنبية. لماذا تغفل الحكومة إذن عن ملاحقة الفاسدين واستعادة أموالنا المنهوبة؟ لماذا يذكرنا أداء الحكومة دوما بالمثل القائل «أسمع كلامك أصدقك .. أشوف أمورك أستعجب»؟ لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى