قبل حوالى 3300 عام نحت رمسيس الثانى معبده العظيم فى جبل شامخ من جبال جنوب مصر، أراد القائد المنتصر أن يخلد لنصره الكبير فى موقعة »قادش« وعلى أحجار معبده الرائع نقش تفاصيل معاركه وانتصاراته وطقوس شكره للإله . ظل المعبد آلاف السنين قابعا على الشاطئ الغربى لنهر النيل على بعد أكثر من 1200 كيلو متر من القاهرة و290 كيلو مترا جنوب غرب مدينة أسوان وبمرور الوقت بدأت رمال الصحراء تزحف على تماثيله حتى غطتها تقريبا (المعبد الكبير معبد الملك والمعبد الصغير معبد زوجته الجميلة نفرتارى ) وفى عام 1813 أعيد اكتشاف المعبدين بكل روعتيهما وجمالهما. وبعد أقل من 150 عاما على إعادتهما للحياة جاء تهديد جديد ولكن هذه المرة من مياه بحيرة ناصر التى كانت ستغمر المعبدين تماما عند الانتهاء من إنشاء السد العالى وقتها تحرك العالم لإنقاذ احد أهم الآثار العالمية والذى يعتبره اليونسكو معلما حضاريا شديد الأهمية وبدأ حلم إنقاذ أبو سمبل فى عام 1965 بعد أن تكاتف العالم لتنفيذ أكبر مشروع إنقاذ أثرى شهدها التاريخ. "أبو سمبل 50" حملة أسسها معماريون مصريون قرروا فيها الاحتفاء بالحدث التاريخى عبر فعاليات تستمر لثلاث سنوات هى نفسها عمر حملة الإنقاذ العالمية لأبو سمبل. حصلنا منهم على مجموعة من الصور النادرة للحدث وتفاصيل ربما تعرفها الأجيال الشابة لأول مرة. فى البداية كان الحلم أظن أن إنقاذ معبد أبو سمبل من الغرق الذى كان مؤكدا وقتها كان حلما لا يجرؤ احد أن يحلم به »هكذا بدأ المعمارى حمدى السطوحى منسق وصاحب فكرة احتفالية أبو سمبل خمسين كلامه معى عندما سألته كيف تذكرتم الحدث بعد خمسين عاما ربما نسى الكثيرون فيها قصة النقل ومؤكد أن أجيالا جاءت بعده لا تعرف أن هذا قد حدث بالفعل ؟ يحكى قائلا : كان غرق أبو سمبل حقيقة ستحدث لدرجة أن الوزير ثروت عكاشة والذى كان وزيرا للثقافة وقتها فوجئ فى نهاية عام 1958 بزيارة من السفير الأمريكى ومعه مدير متحف المتروبوليتان يعرضان عليه شراء معبد أو اثنين من معابد النوبة التى ستغرق بعد مشروع السد العالي، غضب وقتها ثروت عكاشة كما حكى فى كتابه (إنسان النوبة) وبادرهما قائلا: إنه كان يتوقع أن يعرضا المساعدة فى إنقاذ المعبدين بدلا من التفكير فى تحويل هذا التراث الإنسانى لسلعة تباع وتشتري، وبعد انتهاء المقابلة المحبطة سافر دكتور ثروت عكاشة إلى بلاد النوبة فى بداية 1959 واكتشف أن ما كان يحدث على ارض الواقع يؤكد ما سمعه تماما حيث اكتفى الأثريون وقتها بتوثيق وتسجيل الآثار التى ستغرق حيث لم تكن الدولة تمتلك إمكانات تسمح بما هو أكثر من ذلك مع وجود حلم عظيم وقتها وهو حلم بناء السد العالى ولكن الوزير المثقف بدأ يفكر وقتها فى طريقة لإنقاذ تلك الآثار وعلى رأسها معبدا أبو سمبل اللذان يمثلان درة من درر الحضارة الإنسانية ولم يكن أمامه سوى اليونسكو والذى ينص ميثاقه على السهر على صيانة الآثار الفنية ذات الأهمية التاريخية، وأرسل خطابا لليونسكو يدعوها لحماية آثار النوبة من الغرق واستجابت المنظمة بإعلان باريس الشهير فى مارس 1960 والذى أطلقت فيه نداء عالميا لمساندة مصر فى إنقاذ آثار أبو سمبل قبل أن تغرق. وكما تقول كتب التاريخ فإن معابد أبو سمبل تتكون من معبدين كبيرين نحتا فى الصخر. وقد بناه الملك رمسيس الثانى عام 1250 ق.م وواجهة المعبد تتكون من أربعة تماثيل كبيرة تمثل الملك بارتفاع 20 متراً وبابا يفضى إلى حجرات طولها 180 قدما، وتوجد ستة تماثيل فى المدخل أربعة منها لرمسيس الثانى واثنان لزوجته نفرتاري. نحتت كلها فى الجبل واستمر البناء كما يشير علماء التاريخ حوالى 20 عاما كاملة وقيل ان طريقة بنائه تمت بحيث تتعامد أشعة الشمس على وجه تمثاله الموجود فى قدس أقداس المعبد مرتين فى السنة يوم ميلاده ويوم تتويجه. المستحيل يتحقق عملية نقل معبدى أبو سمبل بدأت بعد خمس سنوات من هذا التاريخ فلماذا كان هذا الانتظار ؟ سألت السطوحى فأجاب: اتخاذ قرار النقل كان يبدو فكرة مستحيلة وفى المقابل كانت هناك أفكار أخرى يجب المفاضلة بينها، وكان البديل الأول هو بقاء المعبد فى مكانه مع إقامة سد حوله ليحميه من مياه البحيرة التى كانت ستغمر المعبد عندما تمتلئ بحيرة ناصر ولكن هذه الفكرة رفضت بسبب التكلفة الباهظة للمشروع فى وقت كانت الدولة تبنى السد العالى ولا تتحمل ميزانيتها المزيد كما أنها لن تمنع من تسرب المياه عبر الجبل وتهديد المعبد، الفكرة الثانية كانت ترك المعبد لتغمره المياه تماما وإقامة بانوراما زجاجية فوقه يمكن مشاهدته عبرها وتم رفضها لأن المعبد والجبل المنحوت فيه من الحجر الرملى وبوجود المياه كان سينهار خلال سنوات قليلة، وهنا ظهرت فكرتان لنقل المعبد، الفكرة الأولى هى نقل المعبد قطعة واحدة بطريقة هيدروليكية عبر 250 رافعة تتحرك معا 200 حركة وهو ما يجعل احتمالية انهيار أى جزء منها 50 ألف فرصة لو حدث خطأ واحد، أما المقترح الأخير فكان نقله بعد تقطيعه وإعادة تركيبه فى مكان آخر أكثر أمانا وهى الفكرة التى تم الاتفاق عليها بعد شهور من دراستها فنيا وهندسيا خاصة أن علماء الآثار المصريين كانوا قد رفضوا الفكرة فى البداية بعد أن قدمها العلماء الإيطاليون ولكن فى النهاية لم يكن هناك بديل لإنقاذ المعبد، وبالفعل تولت 6 شركات تنفيذ هذا العمل الضخم وهى شركتان سويديتان وشركة إيطالية وشركة ألمانية وشركة فرنسية وشركة أطلس المصرية، قبل أن تبدأ عملية النقل فعليا كانت هناك عدة إجراءات لابد من اتخاذها لضمان حماية المعبد حتى لا يتعرض لأى مشاكل هندسية خاصة أن بحيرة السد كانت قد بدأت فعلا فى الامتلاء ومنها انه تمت إقامة سد صناعى حول المعبد حمى عملية النقل لمدة 13 شهرا قبل أن يغمره الماء تماما بعد ذلك وأيضا جلبت كميات ضخمة من الرمال تم بها تغطية التماثيل فى واجهة المعبدين لضمان ثباتها فى الأرض وعدم تعرضها لأى انهيارات أثناء عملية التقطيع ولتستخدم كسقالة للوصول لأعلى التماثيل أثناء التقطيع .« حسب ما أعلن وقتها فقد تكلفت عملية تقطيع وإعادة تركيب معبد أبو سمبل حوالى 40 مليون دولار أو ما يوازى وقتها 14 مليون جنيه وهى بكل المقاييس كلفة لا تساوى قيمة معجزة النقل فى حد ذاتها. ويكمل السطوحى قائلا : التكلفة وصلت إلى حوالى 40 مليون دولار دفعت مصر الثلث والشعب الأمريكى الثلث بينما كان الثلث الأخير تبرعات من شعوب عدة دول وأشرف عليها مهندسون ألمان بينما كانت الأيدى العاملة مصرية بالكامل فهم الأبطال الحقيقيون لتلك المعجزة، فقد بلغوا فى دقة العمل ما لم يتخيله الخبراء فدراسات المشروع أكدت أن عملية تقطيع المعبد والتماثيل يجب أن تتم يدويا حتى لا تؤثر عمليات التقطيع الميكانيكى على الأحجار بينما سمحت بالتقطيع الميكانيكى للجسم الخارجى للجبل وكانت لابد أن تتم بمعايير شديدة الدقة وأهمها ألا يزيد سمك القطع على 6 ملى وهنا حقق العمال المصريون معجزة حقيقية فلم يزد السمك على 4 ملى وبدقة أدهشت الخبراء الأجانب خاصة أنهم قاموا بتقطيع المعبد لخمسة آلاف قطعة بلغ وزنها حوالى 250 ألف طن من الأحجار المكونة للمعبد هذا بخلاف حوالى 300 ألف طن من صخور الجبل التى سيعاد تركيبها فوق المعبد ليكون بنفس شكله القديم، ومع بداية عام 1965 بدأت الأعمال التنفيذية فى موقع المعبدين الضخمين وبدأ معها الجدل حول الجزء الذى سيتم تقطيعه ورفعه أولا وهو الأمر الذى حسمه الخبراء وقتها بأن تكون البداية برأس تمثال رمسيس وكان الخلاف ايضا هل يتم رفع الرأس كاملا أم يتم تقطيعه خشية أن تحدث بها أية شروخ أو انهيارات وتم فعلا تقسيمه حيث رفع أولا التاج ثم الوجه الأمامى ثم بقية الرأس وكانت لحظة رفع وجه رمسيس لحظة تاريخية اعتبرها من عملوا فى المشروع أروع لحظات العمل وأكثرها دلالة على عظمة الإنجاز واعتبرت اليونسكو ذلك اليوم وهو 10 أكتوبر 1965 التدشين الحقيقى لأكبر عملية تعامل مع أثر فى تاريخها الممتد لسبعين عاماً حتى الآن، بعدها توالت عمليات رفع باقى التماثيل ثم انتقل العمال لداخل المعبد لتقطيعه وتوثيقه ليعاد تركيبه مرة أحرى بعد نقله لمكان يقع على بعد 200 كيلو متر غرب مكانه الاصلى شرقا ويرتفع حوالى 65 مترا عن سطح الأرض ليكون فى مأمن من مياه البحيرة التى غمرت فيما بعد مكان المعبد القديم تماما » . رأس رمسيس معلق فى الهواء كيف أعيد تجميع وتشكيل المعبد ليكون تماما بنفس صورته القديمة ؟ يجيب السطوحى تلك معجزة أخري، فالمعبد أعيد تجميعه من الداخل ثم تركيب التماثيل بطريقة لا تعتمد على استخدام أى لواصق يمكن أن تظهر آثار القطع عبر تقنية التداخل فالرأس مثلا صنع له مجرى خاص من الحجر يتم تعشيقه فيه عبر بروز حجرى تم الاحتفاظ به أثناء التقطيع بينما باقى الأحجار تم رصها بنفس ترتيبها القديم ليكتمل بناء المعبد تماما كهيكل وبقى فقط أن يتم احتواؤه بالجبل كما كان وهنا ظهرت فكرة شديدة العبقرية تعتمد على بناء قبة خراسانية تغطى المعبد كاملا ليتم وضع أحجار الجبل فوقها وذلك لإعطاء الشكل السابق مع ضمان حماية المعبد من أى أحمال خارجية، هذه القبة يبلغ عرضها حوالى 65 مترا وتمتد لضعف هذا العمق للداخل، هذه المساحة على وجه التحديد هى التى اوحت لى منذ عام 1998 بضرورة استخدام المساحة الفارغة فيها وبالفعل وضعت تصورا لمتحف توثيقى لعملية نقل المعبد كاملة لتكون بمثابة استرجاع للتاريخ الذى لا يعرفه الكثيرون من زوار المعبد وفى عام 2008 قمت فعلا بوضع التصميم النهائى للمكان وتمت الموافقة عليه من وزير الثقافة وقتها فاروق حسنى وكان يفترض أن تتم الإجراءات التنفيذية للمشروع ولكنه تعطل وسط اللجان الرسمية ثم جاءت الثورة وارتبكت الأمور ورغم إعلان أكثر من وزير ثقافة بعد ذلك تحمسه للمشروع إلا انه ما زال ينتظر التنفيذ والآن نسعى لإحيائه من جديد ليكون افتتاحه مواكبا لاحتفالية 50 عاما على أبو سمبل كمحاولة منا أن نحتفى بمن صنعوا تلك المعجزة وعلى رأسهم 2000 عامل مصرى بعضهم توفاه الله والبعض الآخر ما زال حيا ونجهز الآن بالفعل لقائمة شرف تحمل أسماء وبعض صور هؤلاء من فراعنة العصر الحديث كما قال عنهم مدير اليونسكو وقتها لتكون ضمن معروضات المتحف والذى ستضم توثيقا للمشروع بالإضافة لمعلومات تاريخية عن المعبد.