من السهل أن نلاحظ هذه العلاقة بين الخطاب الذاتى والخطاب الجمعى، التى تنقل لنا خيوطا مشتركة في روايتين في إصدار واحد. كان هذا أكثر ما يلفت النظر في آخر إصدار للروائى محمد بركة؛ روايتيه(الفضيحة الإيطالية) و(عشيقات الطفولة) .. وكان أكثر ما يلاحظ في كلا النصين تبنى المنهج الرمزى الدال الذى يتم تطويعه عبرضمير المتكلم والاسترجاع الفنى والزمنى لاستعادة الذاكرة والموروث الشعبى وتلمس الشفاهية والتعبير الشعرى والشعرية.. إلى غير ذلك من أدوات الروائى.أدوات فنية وشعرية ورمزية عالية القيمة أقرب الى الشهادة ..إن أكثر ما يلاحظ في هذا النص أو ذاك أن السرد الرمزى خاصة يمضى في تجربة واقعية، عبر شعارات واستعارات فنية وشعرية في النص الدرامى الصاعد، وعبر مواقف تبدو رمزية، لكنها تتماهى مع الواقع، وهوما يصل بنا إلى «خطاب» روائى دال يعبر عن هذا الواقع حين يختلط الذاتى والجمعى في آن واحد، وبما يشير إلى أن الروائى كان واعيا للحاضر الذى ينتمى إلى نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادى والعشرين فيعيد استعادته في خيوط مشتركة. كما يلاحظ الناقد المدقق هنا حالة أقرب إلى الشهادة منذ البداية؛ سواء على مستوى اللغة والخيال، أو على مستوى علاقة مع الآخر تضىء مصابيح الغرام في حضرة الأنثى، وتعزف ماتيسر من ألحان الشجن في حضرة مولانا الوطن. وعلى هذا النحو تعددت الدلالات الواعية هنا وهناك .. ومن ذلك أن ضمير الراوى( وإن بدا ذاتيا) فإنه كان يتمثل في الخطاب المباشر الذى يسرى عبر الضمير والزمان والذاكرة والتعبير الشفاهى .. إلى غير ذلك من أدوات العمل الروائى بما يصل بنا إلى تسلل ذات الروائى في العمل الفنى، حتى إننا يمكن أن نردد أن ما يجمع عليه القراء والنقاد كان العبور من ذات الروائى- وهى الذات التى تغادر الخاص إلى العام عبر ضمائر الروائى واصواته - لتجسيد الذات في تعبير فنى صادق « تلك الذات التى يجسدها المؤلف من خلال الراوى» ؛ وهو مايرينا كيف كان الراوى/الروائى يسعى بأدواته الفنية للتأثير في المتلقى عبر أفكاره وأحلامه وسعيه للتغيير. إن الروائى كان يسعى بدأب شديد لإعادة كتابة التاريخ في النصف قرن الأخير من زماننا. لقد كان صوت الروائى هو الصوت الأول، هو الصوت/الرمز، صاحب الذاكرة والموروث الشعبى في تلمس الشفاهية والشعرية، وهو صوت الراوى الذى كان صوتا فنيا معبرا بحق عن هذا الصوت الجمعى لهذا الجيل، ساعيا إلى عدم فصل العلاقة بين الروائى والمتلقى بأي حال. وعلى هذا النحو، بدا كيف أن الروائى منذ البداية كان واعيا بالضمير المباشر(الجمعى) عبر بناء درامى ورموز وإشارات وأصوات وأحداث ماضية في تعميق هذا(الخطاب) الروائى، وإن بدا التماس بين الذات والعام مؤكدا ودالا عبر تعميق الخطاب الروائى ، وهو ما يلاحظ معه كيف حاول الروائى أن ينقل لنا ضمير الجيل الأخير الذى عرف زمن الانفتاح، وحذر من رجال الأعمال، وأحكم شهادة على الهجرة الداخلية والخارجية، ورصدا دقيقا لهذه العلاقة الدالة من الشمال إلى الجنوب؛ بين كفر سعد إحدى مناطق الوطن- وكفر شحاته، ومدن العاصمة، وخارجها، وثورتى يناير ويونيو، وربما كان من المهم أن نلحظ دلالة هذه الشهادة هنا حين سجل بشكل فنى أن ( مصر تحررت من الاستعمار الانجليزى الخارجى لتقع في قبضة الاستعمار التعليمى الداخلى و(..) المدارس الحكومية سجون تتبع وزارة التربية والتعليم بدلا من الداخلية .. المساجين هم أطفال زى الورد والمدرسون هم السجانون، وناظر المدرسة حضرة المأمور .(..) . (أهدأ قليلا، واستعيد 80% من قدرتى على الرؤية، ويحن على صدرى الأوكسجين، وأمد الخطا في الشوارع الجانبية لجاردن سيتى قبل أن أصل إلى الكورنيش واستقل تاكسى من أمام «جراند حياة»، عائدا إلى بيتى، وقد عشت لمحة بسيطة من حياة الفلسطينيين اليومية في ظل الاحتلال الإسرائيلى.) إنه العبور من الذات إلى العام، من الشهادة على ما يحدث في قلوبنا هنا وما يحدث في أوطاننا هنا والآن .. وهو مايقدمه هذا الجهد الإبداعى الدال ..
الكتاب : روايتان «الفضيحة الإيطالية» و«عشيقات الطفولة» الروائى محمد بركة الناشر: على نفقة الكاتب 2015 لمزيد من مقالات ◀ د.مصطفى عبد الغنى