كان الأمل هو شعلة الثورة التي أضاءت ميدان التحرير كرمز يوم 25 يناير, والأول ولد من رحم توافق إبداعي في الثمانية عشر يوما الأولي. توافق لم يسعي فيه أحد للاستحواذ علي فكرة الثورة ولم تنتابه نزعة الغلبة علي الآخرين وارتبط بالأمل برباط وثيق, هدف التغيير, الذي لا سبيل اليه بغير الخلاص نهائيا من منظومة تفكير وسلوكيات وقيم, تأسست علي هيمنة مجموعة بمفردها علي مختلف السلطات, والاستحواذ علي اتجاهات ومقاليد صنع القرار, واقصاء الآخرين. وكان هذا هو المعني الذي يلخص مطلب الذين أطلقوا الثورة, من أجل التغيير, ومن أجل أن تنتهي ظاهرة التناقض الصارخ بين ما يقوله النظام السابق وبين ما يفعله, وهو ما أوجد فجوة راحت تتسع يوما بعد يوم, بينه وبين الناس, فأعطوه ظهورهم ومشي النظام وحده متوهما أن الناس مازالوا يسيرون خلفه, فكان أن سقط النظام. أخشي أن تكون القاعدة الأساسية التي أطلقت الثورة في يناير, والطلاق البائن مع قيم الهيمنة والاستحواذ, قد غابت عن الطريقة التي تم بها التصويت علي اختيار اللجنة, المكلفة بتشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور. إن نص المادة 60 من الإعلان الدستوري تنص علي أن ينتخب النواب جمعية تأسيسية من مائة عضو تتولي إعداد مشروع الدستور. ولم يرد في النص ان يختار النواب أنفسهم, حتي ولو ترك التفسير لفطنة البرلمان, فالناخب لا ينتخب نفسه, ثم إن أعضاء مجلس الشعب, قد انتخبوا لأداء دور تشريعي ورقابي برلماني, ولم ينتخبوا لوضع الدستور, فتلك مهمة أخري, ثم ان الدستور هو الذي ينشيء سلطات الدولة بما فيها البرلمان وليس العكس. والدستور هو دستور الأمة بكل اتجاهاتها وتنوعاتها, وليس دستور الأغلبية, وإلا فإننا نكون بصدد انتاج نظام الاستحواذ السابق للحزب الوطني, والتحكم في توجهات الدولة وسلطاتها, بما في ذلك وضع الدستور. والأغلبية البرلمانية لا يمكن ان يناط بها وضع الدستور, فوضعها مؤقت ومحدود زمنيا, مادامت قد قبلت مبدأ تداول السلطة, أحد أهم اركان الديمقراطية. صحيح أن الدستور يعبر عن الواقع الراهن, في المحافظة علي مصالح الأمة بجميع طوائفها واتجاهاتها, ووضع الضوابط التي تمنع تكرار الخطايا التي كانت سببا في ثورة الشعب, لكن الصحيح أيضا ان الدستور لا يحصر نفسه في الواقع الذي نعيشه, بل يتخطي الحاضر, إلي آفاق المستقبل, مستخلصا عمق نظرة الخبراء وأهل العلم والمعرفة والتخصص, خاصة ونحن في عالم يتغير بسرعة إيقاع عصر ثورة المعلومات, ويتغير فيه المزاج النفسي والاجتماعي, والطبيعة البشرية للمواطن, الذي يتأثر من اتصاله بالعالم, عن طريق وسائل التكنولوجيا الحديثة. وهذا يجعل الدستور في عصرنا عملية أشد تعقيدا مما كانت عليه في عصر مضي. وبحيث يتلاءم الدستور مع ما يجري في زمن تتطور فيه الأفكار والنظريات التي تحكم وتوجه السياسات, ويكون الإلمام بها طريقا لنهضة دول, وفشل دول أخري. كل هذا عمل له أهله, من المفكرين, ورجال القانون, والفقه الدستوري, والعلم بمختلف جوانبه, ويشاركهم من يمثلون بقية مكونات المجتمع علي اختلافها. ان هذا الدستور يأتي بعد ثورة تعبر عن روح المجتمع, وليكون وثيقة لعصر جديد لمصر, وليطلق سراح المجتمع, ولا يحجر عليه, ولا يخنقه, ولكي ينهي العمل بمنظومة قيم كانت تخص فصيلا وحده, وليس المجتمع بكل مكوناته, ويتفق علماء الدستور في العالم بناء علي التجارب التاريخية, علي ان الذي يدعم الدستور هو ملاءمته للمجتمع, وتمسك الشعب به, وشعور الهيئة الحاكمة بتمسك الشعب بدستوره فيكون ذلك حائلا يمنع العبث به ويحفظ له قدسيته. القلق عارم من عودة ظاهرة الاستحواذ علي المناصب والسلطات, من فريق بعينه, وهو ما يعود بنا إلي فجوة عدم الثقة, التي ينبغي ان ينأي الجميع بنفسه عنها. فمصر في حاجة للثقة بين الحكم والمجتمع, والابتعاد عن نثر الضبابيات في الأفق, بما يزيد من تراكم هموم الإحباط وعدم اليقين مما هو آت. أليس ما جري في 25 يناير كان ثورة شعب, نجحت لأنها قامت علي التوافقية المجتمعية في فترة نقائها في الثمانية عشر يوما الأولي, التي أنجزت هدف إسقاط رأس النظام؟ فلماذا إهدار هذه القيمة وهي التوافقية! وقبل ذلك كله العودة الي روح الثورة, بالالتزام بأفكار وسلوكيات وسياسات, تضمن الانجاز التام لأهداف الثورة, ليس بالاكتفاء بإسقاط رأس النظام, بل بالتخلي نهائيا عن نبت غرسه في التربة المصرية, كأنه تراث ينبغي رعايته وعدم التفريط فيه! هذا الغرس هو منظومة قيم وتفكير وسلوك, الهيمنة والاستحواذ. ان الوضع في مصر معقد ومتشابك تداخلت فيه مؤثرات عديدة من ثورة الي ثورة مضادة الي عمليات مخططة لاختطاف الثورة وإجهاضها, وإجهاد الشعب نفسه في أموره اليومية, وفي المقابل هناك اصرار قوي وجماهير لن تتراجع عن استكمال الثورة, التي هي تيار تاريخي نبع من الروح المجتمعية للمصريين. نحن ننتقل من حكم استبداد الي الديمقراطية, والديمقراطية ليست مجرد انتخابات, وتعددية حزبية, وتداول سلطة, لكنها أيضا تواصل بين كل القوي والتيارات السياسية والاجتماعية, ولكل منها دوره الذي يشبه المنابع فهي تصب في مجري النهر فتثريه, ولايزال المصريون متعلقين بالأمل.. فلا تخنقوا الأمل رحمة بمصر. المزيد من مقالات عاطف الغمري