لم يكن يروق له أن يكتب عن التسكع فى ليل المدينة، أو المقاهى وضجيجها، أو حتى بنت الجيران التى يتلصص عليها طوال الليل، لم يعد مغرمًا بالكتابة عن الحفاة والمهمشين، أو القطط والكلاب الضالة، لم يعد ينتوى اللجوء لكتب التاريخ واستنطاق شخصية أو حدث، ظل ممسكًا بالقلم، متأملًا الورق الأبيض أمامه، لاعنًا حظه ككاتب ينتمى للمدينة، فماذا يتبقى له، كان قد قرر ألا يجوب عوالم سبق أن تطرق إليها، ألايكتب عن كل ماسبق، وعن كل مفردات المدينة، صحيح أن عوالم المدينة كبيرة، لكنه ملّها، ظل يفتش فى خبراته خارج إطار مدينته، وجد أن له علاقة بالريف، والبحر، بل والصحراء أيضا، فعشقه لرحلات السفارى أمده بخبرات لا يستهان بها، كطريقة نصب خيمة فى العراء، خبرات عن حرارة الشمس نهارًا، صوت الرياح ليلًا، وتقلبات الجو طوال الوقت، خبرات عن الرمال الصفراء الناعمة، المفروشة على مدد الشوف، عن آثار نبش أقدام الحشرات الدقيقة عليها، والتى تبدو حين تراها كسٍر خفى، عن نظراته للخلف، ومشاهدته آثار أقدامه، وشعوره بأنه إنسان أول على كوكب جديد. يعرف أيضًا كيف يحدد اتجاه الشمال فى الصحراء بلا بوصلة، يتوقع أماكن العقارب والثعابين، ملأته الثقة بأن كل ذلك كافٍ جدًا للإقدام على الخطوة التى حلم بها، ساعتها قرر، وساعتها أيضًا قفزوا فى رأسه، بجلابيبهم الخشنة، وعماماتهم وشواربهم الكثة المتربة، تملكوا روحه تمامًا ببنادقهم ورائحة بارودها، ورائحة البصل المنبعث مع أنفاسهم ممتزجًا برائحة التبغ، كانوا يجلسون ليلًا حول براد الشاى الذى يغلى فوق الكانون، الجوزة تنتقل بين يدى مكارى وعليوة، بينما فضّل أبو النيل الاستئثار بسيجارته الملفوفة . لم يكن القرار سهلًا، فهم أهل دربة وخبرة، يدركون جيدًا ماذا يعنى قطع مسافة تزيد عن مئتي كيلومتر على أظهر أحصنة هزيلة، تبدو مرتعشة، وكأن سيقانها ستلتف حول بعضها البعض أثناء الجرى، لكنه العفش كان قد اتخذ القرار، ذهب للبهلول الأبكم، المقيم دومًا على باب المغارة، لم يغادره، ولم يحتمِ بالداخل تحت أى ظرف، وكأنه الحارس الأمين، بشعره المهوش ولحيته المتشابكة والتى تصل حتى نهاية صدره، وضع العفش أمامه سيجارتين، تناول على الفور تلك التى فى جهة اليمين، اعتبر العفش أنها إشارة للرحيل، كان واثقًا فى أننا سنعود مجبورين. البلدان القريبة، والتى اعتادوا الإغارة عليها، أصابتهم بعدوى الفقر والهزال، فى العام قبل الماضى، كان أبوالأنوار هو صاحب الفكرة، كانوا جميعا معترضين، حتى العفش نفسه لم يتحمس للفكرة، لكن أبو الأنوار كان صاحب حجة، يجيد الحديث ويجيد عرض أفكاره والدفاع عنها، قال إن “أرض الله واسعة”، وقال: “سيحوا فى الأرض”، قال الكلام الكثير، وفى النهاية لم يملك العفش سوى الموافقة، ولم يملك باقى الرجال سوى الانصياع. قطعوا المسافة ليلًا بلا أى ارتباك، كانت علاقتهم بالصحراء علاقة حقيقية، هم جزء منها، مثلما هى جزء من تكوينهم، هم مفردة من مفرداتها، مثلهم مثل الرمال والصخور والعطش، حتى لون جلابيبهم، ولون بشرتهم، اكتسب تمويهًا طبيعيًا مع الصحراء، وصلوا للبلدة ليلًا، وفى موسم الحصاد، كما دبر تمامًا أبو الأنوار، لم تكن أحصنتهم قد أصابها الهزال بهذا الشكل، ولم يكونوا قد انكسروا كما هم الآن، بعد رحيل فرج الإفريقى، وأبو الأنوار، الذى كان فرحًا أشد الفرح بالجمل الذى عاد به، كان الجمل يسير معه كأنه مخدر، لم يقاوم، ركب أبو الأنوار حصانه، وظل ممسكا بلجام الجمل الذى كان يسير بجوار الحصان محملا بما خف وزنه وغلى ثمنه، حتى وصلوا لمقرهم بالخير الوفير، مر عامان على هذا، لم يفعلوها ثانية، فقد مات فرج الأفريقى بعدما لدغته طريشة فى أذنه وهو نائم، ليموت فى الحال بعد صرخة أيقظت الجميع، لم يملكوا له شيئًا سوى دفنه فى بطن الجبل، وقراءة الفاتحة لروحه، بعدها بأشهر قليلة كان أبو الأنوار يقوم بتدريب جمله، يقسو عليه ليصل به لما يريد، الجمل لم يدرك أن خلف القسوة محبة وتقدير، فما كان منه إلا أن التف فى إحدى اللحظات القاسية، أطبق بفكيه على رقبة أبو الأنوار الذى ظل يخور وينتفض إلى أن فارقته الروح، التى قرأوا عليها الفاتحة، بعدما رقد جسده بجوار رفات فرج، الذى يقسم الجميع، أن عظامه انتصبت وتمايلت، وكأنها كانت ترقص طربًا لاستقبال جسد صديق العمر. فى أقل من سنتين زارهم الموت مرتين، وليته موت فى مواجهة شريفة، لكنه موت خسيس، موتات عادية تنال من كرامتهم كأبناء لهذه الصحراء، موتات كالتى تصيب أيًا من المزارعين الطيبين، الذين ينامون منكمشين ليلًا فى أحضان زوجاتهم. اتفقوا على الترجل قليلًا، حتى تلتقط الأحصنة أنفاسها، كانوا يسيرون متجاورين، يمسك كل منهم بلجام حصانه، الذى يسير من خلفه مطرقًا، ملتقطًا من حين لآخر، قضمة من الحشائش الجافة، ملتمسًا بها بعضًا من الليونة. مروا عليها، توقف العفش قليلًا أمامها دون أن يلفت النظر، مدعيًا أنه يعيد ربط عمامته، كانت صخرته الأثيرة، يراها دومًا من بعيد وسط التلال الجبلية، تبدو له كوجه امرأة منسدلة الشعر، تبتسم له، هى صخرته، بينه وبينها أسرار، صخرته التى ما مر بها وابتسمت إلا وعاد مجبور الخاطر. الأحصنة مجهدة، تتصبب عرقًا، لا أعرف كيف سيعودون بها محملة، وهى بالكاد تقوى على المشى، بالتأكيد سيقرر العفش تركها هناك، واستبدالهم بأفضل منهم. أنظر إليهم من بعيد، وهم يسيرون متجاورين مع أحصنتهم، جلابيبهم تتجسم على مقدمة أجسادهم، وتتطاير من خلفهم، من أثر سيرهم عكس اتجاه الرياح، التى تقاومهم، كما تقاوم خطواتهم الرمال، أنظر إليهم، أشعر بشقائهم، لكننى غير راضٍ حتى الآن عنهم، هم أناس على الورق، وليسوا فى الصحراء، مازالوا بالنسبة لى شخصيات مرسومة، وليست حقيقية، لعلنى لو اقتربت منهم أكثر لشعرت بهم.. مبدأ ساذج، وسيجرنى بالتأكيد لكتابة ساذجة، عن حياة كل منهم، والبحث فى أسباب صعوده للجبل، وهنا ستكون الكتابة عن المدينة ومقاهيها أفضل بكثير، لذا سأهرب للمكان الذى أحبه، مكان الأسرار الخاصة، تلك الأسرار الدفينة، التى نخجل من الحديث عنها أمام أحد، الأسرار التى لا يعرفها سوانا، و تشكل جزءًا هامًا من أرواحنا، بل وتؤثر على الكثير من أفعلنا. حكيت لكم منذ قليل عن سر، ربما مر دون ان تلحظوه، وهو سر العفش مع الصخرة التى تبتسم له، العفش الذى يعد كبيرهم، أكثرهم هيبة، وخبرة، ومعرفة بكل خن فى بطن الجبل، العفش لديه علاقة بالصخور، يقرأ أشكالها المختلفة، يستنبط منها الرسائل الخفية، التى لا يراها سواه.. مكارى يخشى الظلام، والأماكن المغلقة، قد يبدو هذا عبثيًا، أن يكون رجل من رجال الجبل، شاربه كث، عيونه قاسية، لكنه يخشى الظلام، وهذا يفسر لنا علاقته بالبهلول، هو الذى منعهم من قتله، دافع عن وجوده، يقتسم معه الطعام، الدخان، ليبدو أمام الرفاق كرجل ليل طيب، لكنه فى الحقيقة، يضمن بذلك بقاءه، حتى يأتنس به فى الأوقات التى يضطر فيها للبقاء وحيدًا.. عليوة كان سره هو ارتباطه بالنجوم، يبثها همومه، يبحث عن أكثرها خفوتًا، يناجيها، وكأنه يقول لها، أنا أشعر بك، أنا لم يبهرنى الأكثر لمعانًا، أفهمك، وأقدر حزنك وخفوتك، عليوة كان يشاهد النيازك المتساقطة، وظل طوال حياته يتمنى لو يستطيع الحصول على جزء من نيزك محترق، جزء من رفات النجوم الخافتة التى كثيرًا ما نجاها، هكذا ظل الثلاثة يسيرون، الذى يخشى الظلام، بجوار عاشق النجوم الخافتة، يتقدمهم قارئ الصخور.. العفش تذكر أثناء سيره، أيام الخدمة العسكرية، وطوابير الملاحة، تذكر أن المائة وعشرين خطوة بمائة متر، انتقى عشر حصوات صغيرة، وضعهم فى جيب جلبابه الأيمن، ومع كل مائة وعشرين خطوة كان يقوم بنقل حصاة من الناحية اليمنى لليسرى، حتى عندما ينتهى من نقلهم جميعا يكون قد سار مسافة كيلو متر بالتمام، لكنه بعد قليل لم يعد يتذكر إذا كان ينقل الحصى من اليمين للشمال أم من الشمال لليمين، لذا أفرغ ما فى جيوبه من الحصى متأففًا، ولم يلحظ رفاقه سوى أنهم وجدوه فجأة، يسب ويلعن دونما سبب واضح لهم. أخرج علبة التبغ، أمرهم بنصب كانون الشاى، لشرب الشاى، ثم الانطلاق نحو القرية التى لم يعد يفصل بينهم وبينها سوى أقل من ساعة على أحصنتهم التى بدت وقد استعادت بعضًا من عافيتها، على ضوء القمر الباهت جمع مكارى بعض الأخشاب الجافة، أخرج عدة الشاى من خُرج كان فوق ظهر حصانه، بدأوا يرشفون بتلذذ، ويراجعون خططهم.. كانوا يراجعون خططهم، وكنت أحاول معالجة توترى، ماذا سيحدث لو وصلوا للقرية بعد ساعة كما هو مقرر، جاءت اللحظة التى كثيرًا ما أرجأتها، سيذهبون للقرية، وستكون مفاجأة أليمة لهم، بالتأكيد سيصيبهم اليأس عندما يكتشفون أنهم أخطأوا فى حساباتهم، وأن موسم الحصاد بالقرية يتبقى عليه ما يقترب من ثلاثة أسابيع، هل سيتذكرون الترحم على روح أبو الأنوار ، وعلى عقليته الفذة التى كانت تحسب بدقة كل خطوة، هل سينتقمون من أهل البلدة، ويسطون على ما تطوله أيديهم، ويحرقون البيوت الفقيرة المنتظرة للحصاد، سأترك لهم التصرف، ساتركهم يتصرفون كما يليق بهم كرجال صحراء.. رائحة الشاى تعبق الهواء، يرشفون، بلا انتباه، وهم يتناقشون حول أمورهم، وعندما يهمون بالمسير، سيكتشفون أن أحد الأحصنة قد فارقته الروح، هنا يصيبهم الانهيار، ولا يفكرون سوى فى تبادل الاتهامات، ولأول مرة يتقاتلون، يرفعون السلاح فى وجه بعضهم البعض، يبقى الحصان الميت لتتناول جثته الطيور الجارحة والذئاب، ويهيم آخر على وجهه فى الجبل، بينما يعود الأخير منهكا تحت جسد صاحبه للمغارة.. ساعترف لكم فى البدء اصابتنى الحصرة لهذه النهاية المبتورة للحكاية، ولكننى بقليل من التروى وجدت أننى ما كان يجب أن أنتظر الكثير من رجال جبل يعشقون النجوم الخافته ،أو يقرأون رسائل الصخور، ويخشون الظلام والأماكن المغلقة.