منبطحة أرضاً تسند رأسها المثقل بأفكارها على رسغها، والأوراق حولها مبعثرة، لا أحب القراءة لكني أقرأ ما تكتبه تيسير بشغف، أستغرب كيف لأختي الطائشة أن تكتب بهذه الحرفية، لا شيء فيها يوحي بالعلم أو الموهبة، شاردة معظم الوقت، تقضم أظافرها بوحشية، اعتدلت في جلستها وقالت: أنهيت قصة جديدة عن غزالة عشقت أسداً، أريد رأيك بها. طبعاً سأقرأها، لكن لماذا لا تكتبين عنا؟ وماذا أكتب عن جثث في انتظار البعث؟ أختي، البشر نوعان: نوع يعيش الحياة، ونوع يكتفي بالكتابة عنها، ونحن النوع الثاني. لمَ كل هذا التشاؤم؟ أنا واقعية، والأحلام مكانها أوراقي فقط.تيسير إنسانة عجيبة، أظنها مثقفة بالفطرة، نعيش ذات الحياة ومررنا بذات التجارب لكنها تختلف عني بشدة، تقدم لخطبتها تاجر مواشي، عرضت أمي الأمر عليها، طلبت قليلاً من الوقت لتفكر، خرجت من المنزل يوماً، وتبعتها ، ذهبت إلى المدرسة الإعدادية وقابلت مدرس اللغة العربية, تحدثا بضع دقائق، لم أتمكن من سماعهما، عدت إلى المنزل، جاءت بعد قليل معلنة موافقتها على الزواج، دلفت إلى غرفتها وجمعت كل كتبها وأوراقها وأشعلت بها النار، حاولت منعها من هذا التصرف الجنوني لكني فشلت، قالت إنه تصرف صائب, فزوجها لا يقرأ وهى ستتوقف عن الكتابة، ولا حاجة لأحد بهذا الهذيان المطبوع، علينا إخلاء الغرفة لنضع أطقم المطبخ والمفارش.تغيرت كثيراً في كل أحوالها, صارت تهتم بثيابها، تصبغ شعرها، كفت عن الفلسفة, تشاركنا إعداد الطعام وكأنها أنا، تعلمت الرقص الشرقي، تم تحديد موعد زواجها، أصبحت تدلل طفلتي، ثارت دهشتي حقاً، سألتها: ما بكِ يا تيسير؟ كل خير، في أفضل حالاتي، عروس ولا أروع. لكنكِ لست أنتِ. يكفي أني كما يريد الجميع، مثلكِ ومثل أمي. ما الذي بينكِ وبين مدرس اللغة العربية؟أنكرت في أول الأمر ثم قصت لي كل ماحدث، كيف كان يدعمها في الكتابة ويقرأ لها حين كنا نسخر منها، أحبته كما تسرح مع بطلات رواياتها, حلمت بالزواج به، اعترف لها بحبه وعجزه عن الزواج في ذات الوقت، يريدها والحياة بخلت بها عليه، المادة وقفت كجدار صلد بينهما، اكتفى بها حلماً ملهماً في أشعاره، أخبرها أن الحب يستعر بالبعد وللقدر حكمة ستدركها لاحقًا، رأت أن كل ما كانت تشعر به نحوه أرخص من الأوراق التي خطت فيها عشقها، فلا حب ولا أمل ولا كتابة أو حلم، تزوجت ثم ذبلت وانكمشت حين عرفت أن مدرس اللغة العربية ترك التدريس والتحق للعمل بالصحافة وسافر إلى العاصمة، وحدها هى حبيسة الدار، تميتها أحلام لا تموت.سألتني مرة: لماذا لا أصبح مثلكِ وأقدر على هذه الحياة؟ ربما لو لديكِ طفلة لتغير الأمر!صدمتني إجابتها، كانت تتناول أدوية تمنع الحمل خوفا من إنجاب فتاة تلاقي ذات المصير، نصحتها بالتوقف عن هذا الجنون, لم تصغِ لي، عرف زوجها وعادت إلى منزل أبي، هاجمها الجميع: كيف تحرم رجلاً من أقل حقوقه؟ باسم الرغبة في جمع الشمل عنفوها وضربوها, لم تصرخ أو تتذمر، صمدت وصمتت، في صباح أحد الأيام دخلت لأطمئن عليها، وجدتها مسجاة وبجوارها شرائط أدوية مخدرة، وقصة حب ممزقة….