قرابة خمسين ألفا يضمهمو برج بابل, يحتشدون دخولا ويحتشدون خروجا, وجوههمو شاخصات إليه وأحزانهم فوق طوق البشر. كأن سحابة قهر تسد الفضاء وتحجب شط النهر. وبينهمو عشت عمرا, تسرب في بهوه ودهاليزه ومكاتبه, وتقلبت بين قطاعاته, تلاحق فيض الطموح الذي شد أزرك بين الإذاعة- في معظم الوقت- أكثر من أربعين من السنوات, وذاك العتي الذي كم تقلبت في أسر شاشته, ثلاثين عاما من الركض والخوف والقلق المستبد, تلاحق يومك, خشية ألا يوافيك ضيفك, أو يتأخر وقتك, أو يتوقف ترس صغير فيفسد آلتك الدائرة. وها أنت بعد العبور إلي شطك الآمن المستقر, تعاين عمرا تقضي, وتلمح شخصك يمضي خفيفا, ويصعد سلمه واثبا, ويلاحق وعدا هنا, ولقاء هناك, ويمرق من شرك خادع, وينسي بأن الزمان يدور, وأن مسيرة عام تفر كشهر قصير, وأن الطريق الذي سوف يفضي إلي حلم فردوسك المشتهي, ليس سهلا كما كان يبدو لعينيك في أول الأمر, كانت تشاغلك البارقات فتغمض عينيك عن شوكه, وبعض عذابات أيامه, وفي كل يوم يقال: لماذا استضفت فلانا؟ وأين محل فلان؟ وإن أنت أخطأت, حين تجاوز عمدا سياجا يحدد خطوك, فالويل لك. سيلقاك سيدهم غاضبا مشيحا كأن لا يراك, وتعزل عن فيض رحمتهم, ودنيا غنائمهم ومناصبهم, لأنك, خارج هذي الحظيرة, غر أبق! أتذكر يوم استضفت فلانا إلي الأمسية, فراح يسائل في دهشة كيف فكرت في, أنا المبعد المستهان به, لا يشاركهم في الوليمة قط, ولا يستفاد به, ولم يدع يوما لإبداء رأي, وآراؤه- لو أذيعت علي الناس- فيها خلاصة عمر ووعي وخبرة, وموقعه في الجهاز رئيس قطاع شهير, ولكن غيرة صاحبنا منه قاتلة, وخشيته أن يكون بديلا له ذات يوم, فعين الرئيس عليه, إذن فلينبه علي العاملين جميعا, بأن يحجبوه عن الضوء, لكنه جاء من دون علمهمو حين حاورته, وعرضت لإنجازه عن رموز الوطن. وسارع كل الخفافيش كي يبلغوه بأني تجاوزت حين خرجت علي أمره الشفوي! أتذكر كيف استشاط رئيس التليفزيون ومن بعده كيف هاجت رئيسة تلك القناة, وظل الحوار حبيسا طوال أسابيع ممتدة, لا يذاع, وأصداء فعلتي الآثمة, يرددها صبية للوزير الهمام, وأقزام مملكة هم عيون العسس. وراح يدير اجتماعاته, يراني كأن لا يراني, ويحرمني نطقه الملكي الكريم, وتكشيرة منه ناطقة بالذي لا يقول, وعيناه مثل عيون الثعابين شاخصتان بما ينتوي من وعيد, وما يتملكه من غضب. وحين تشاء المقادير أن يصبح المبعد المستذل وزيرا, يفاجئ صاحبنا الأمر, يسرع- وهو الشهير بخسته ونذالته- فيدعو نجوم وزارته مشاركة في الحفاوة بابن وزارته, رئيس القطاع الذي صار بعد الهوان وزيرا وندا له وزميلا يطاوله كتفا بكتف- وجاء يمثل دور الكبير الذي يزدهيه اعتلاء أخيه مكانته ليصير نصيرا له ومعينا, ألم يستفد من ريادته وتألق إعلامه وشموخ رسالته في بناء الوطن؟ وحين استفاضت عواطفه, وراح يعانق من كان بالأمس خصما لدودا يريد له الموت, كنا نسجل بعض مواهبه في النفاق الأصيل, وفي كذب أسود وذميم, ونلمح سما يسيل علي شفتيه, ونارا من الغيظ تسطع في مقلتيه, وحقد مرير يسد الأفق! أتذكر يوم اعتداء عليه؟ لقد أصبح اليوم ذكري يقيم مريدوه فيها- نفاقا وزيفا- مواكب ذبح عظيم, تطاير منه الدماء تلوث جدران مبني يئن من الظلم والقهر, حين تئن العجول الذبيحة قدام باب الوزير لتلحظها مقلتاه ويرضي! وحين تصير الذبيحة زاد الوليمة يلتف من حوله المادحون, يلوكون لحما وشحما, وهم يهتفون له بالسلامة عاما فعاما, وبالشكر لله أن صانه ورعاه لهذا الوطن, فهو ركن ركين لدولة هذا النظام, وصانع كل ريادته ومفاخره, وكأنهمو لم يروا حولهم أو يعيشوا مباذله وخطاياه, لم يدركوا أنه ذات يوم قريب سيجرفه سيله ممعنا في الغرق! أتذكر؟ ماذا تقول وماذا الذي لا تقول, يعف لسانك عنه, فتمضي! وفي كل يوم حكاية فعل أثيم وحقد ذميم, ودنيا يمارس فيها الصغار فنون شطارتهم في التبجح, أو في التقافز, أو في النميمة, كي يغلقوا كل باب يتاح لغيرهمو, أليسوا همو الخدم المخلصين, همو التابعين الأذلاء, همو السوقة الوالغين سماسرة العصر والوقت, كهان هيكله, كتاب ما أبدعوا من تقارير, ما زينوا من أقاويل, ما صنفوا من وقائع تسلكهم في عداء المضحين بالوقت والجهد, والشهداء العظام, وهم ينحنون لكذاب زفتهم, متي ذات يوم صدق؟ أراك تراجع عمرا, حكاياته سوف تروي ويعرفها الناس في كل صوب, وتصبح ملهمة للدراما, وللسينما, وللعالم القصصي, وللمبدعين الذين يشاغلهم برج بابل, لا يعرفون الذي قد جري فيه, طيلة عصر بأكمله, فهو مرآة مجتمع ونظام, وفضح لإفساد دولة. وفيه نماذج من بشر رائع, أحبطوا أو أزيحوا, وأيضا حثالة قوم طفوا فوق من يستحقون, صاروا همو الصوت والوجه والواجهة. لقد جاء يوم لرؤية باطلهم يتهاوي, ورؤية سيدهم في الرغام, وسهم العدالة يمرق بين حشاهم, ورؤية فجر جديد يطل, ويوم شريف يهل, برغم اختناقاته وتشتت صناعه وتخاذل حراسه, ولكنه بالحياة انطلق. ليعبر بالناس هذا النفق! المزيد من مقالات فاروق شوشة