في شهر رمضان, قبل بضع سنوات, قدم التليفزيون برنامجا اعتمد علي تركيب صور مزيفة للضيف ومراقبة ردود فعله التي أوشكت أن تصل في عدة حلقات لاستخدام العنف البدني!! و بغض النظر عن التقييم المهني و الأخلاقي لمثل هذه النوعية من البرامج وإذا ما كانت تندرج تحت مسمي الكوميديا و الترفيه أم مسميات أخري معروفة(!!), فإن هذا البرنامج تحديدا كشف للمشاهد أن الصورة لم تعد دليلا بينا يكشف الحقيقة, بل والأكثر من ذلك أنها قد تصور واقعا مزيفا محكما, لم يجل بخاطرنا إمكانية حدوثه يوم كان أساتذتنا الأجلاء في كلية الإعلام يكررون علينا مقولة ان الصورة تساوي ألف كلمة!!. تداعت إلي ذهني كل تلك الصور فيما كنت أتابع الأوراق البحثية المقدمة لمؤتمر مستقبل الإعلام بعد الثورات العربية الذي عقد بصحيفة الأهرام الاسبوع الماضي. وكان أهم ما استرعي انتباهي في معظم أوراقه البحثية التركيز علي محور الإعلام الإلكتروني و فكرة المواطن الصحفي, التي اعتمدتها معظم وسائل الإعلام اليوم أداة للحصول علي معلومات و صور من مواقع الأحداث في أسرع وقت, و باتت وسيلة معروفة علي شبكة الإنترنت. و تتلخص فكرة المواطن الإعلامي أو الصحفي في تحويل الجمهور من مجرد متلق للخبر أو مشاهد للصورة إلي مشارك في صناعة المادة الإعلامية التي تبث عبر أجهزة الإعلام التقليدية أو المستحدثة. والحقيقة أن هذا التطور الجديد في مجال الإعلام يطرح أكثر من معضلة تتجاوز إطار العمل الإعلامي, إذ يحمل في ثناياه انعكاسات علي الأطر الاجتماعية والثقافية في المجتمع. فعندما عرضنا في الأسبوع الماضي لأثر الإعلام في تشكيل وعي المواطن وتحديد اتجاهات الرأي العام تناولنا التداعيات السلبية لتخليه عن المعايير المهنية ومواثيق الشرفوالانحياز للمصالح الضيقة, وهو ما انعكس علي الحالة المصرية وتجلت سماته خلال العقود السابقة فيخلخلة منظومةالإدراك المعرفي وتزييف الوعي الجمعي وإنتاج شكل ثقافي رخو منفصل عن التاريخ والمكان و الزمان. واليوم وأمام هذا الكم من الأبحاث الذي يشي بالتحول لشكل إعلامي مختلف,( أهم سماته القدرة علي التواصل بكل حرية دون رقيب أو قانون ملزم, ومشاركة الجمهور في بث الخبر والصورة في ظل تكنولوجيا متقدمة لا تسمح فقط بنقل الخبر أو الشائعة في دقائق, بل أيضا كفيلة بأن تدعمه بالصورة سواء كانت حقيقية أم مركبة, وتحول الجمهور من مجرد متلق سلبي للمادة الإعلامية لشريك في صنعها ونشرها محليا ودوليا) نجد أنفسنا إزاء مجموعة من الأسئلة الملحة, ربما كان أبسطها البصمة التي سيخلفها هذا التحول الجديد عل ثقافة المجتمع وتشكيل وعي المواطن. أما أخطرها وأكثرها تعقيدا فأظنه كيفية الوصول للحقيقة بعد أن تعددت زوايا روايتها وأصبح لها أكثر من وجه ولون!! وإذا ما رجعنا لعدد من البحوث المحلية والدولية التي تناولت إيجابيات وسلبيات الواقع الجديد الذي فرضه الإعلام الإلكتروني, من حيث التأثير علي المهنية واللغة والبنيان الثقافي,تطالعنا نتائج مهمة. فقد تناول البعض منها مشكلة افتقاد المواطن الصحفي للتأهيل العلمي و المهني و التركيز علي سرعة بث الخبر علي شبكات التواصل الاجتماعي مما يؤدي لنشر بعض الأخبار الكاذبة و الشائعات أو تناول موضوعات دون إلمام كامل بأبعادها, بما يدرج الأمر تحت بند النشر غير المسئول. من جانب آخر تناول البعض قضية اللغة وأشاروا إلي ان التركيز علي بث المعلومة أو البوح في المدونات وإن كان قد صنع لغة وأشكالا أدبية جديدة خاصة وتعبيرات ورموزا صنعتها آلية التواصل الإلكتروني, إلا أنه أثر سلبا علي اللغة من حيث انتقاء الكلمات و تركيب الجمل وإهمال القواعد, الأمر الذي ينذر بظهور لغة مهجنة لا علاقة لها باللغة الأم!!. وفيما يتعلق بتأثير وسائل الإعلام الجديدة أو البديلة في الرأي العام وتحولها إلي صحافة شعبية تنافس الإعلام المقروء والمرئي, يشير عدد من البحوث إلي أن النمط الإعلامي الجديد الذي يستخدم اليوم علي نطاق واسع في مختلف أنحاء العالم, صنع فئة جديدة من الإعلاميين الهواة. وقد تناولت أكثر من دراسة علمية تأثير هذا النمط الإعلامي في المجتمعات وفي توجيه الرأي العام سلبا أو إيجابا. و قد أبرزت عدة دراسات في مؤتمر مستقبل الإعلام بعد الثورات العربية هذا الدور.. في هذا السياق أوضحت د. ثريا البدوي الأستاذ المساعد بقسم العلاقات العامة والإعلان بكلية الإعلام في دراستها التحول من مفهوم المتلقي إلي المستخدم في البيئة الافتراضية أن تفاعل المتلقي و المستخدم لموقع نوبي أدي لتدعيم الإحساس بالهوية الثقافية النوبية والاهتمام بمفرداتها وإيجاد أرض وواقع افتراضي مختلف. والحقيقة أن مجمل هذه النتائج وإن دشن ميلادا لنمط إعلامي سريع سهل يوجد حالة من التفاعل الحي بين الخبر وناقله ومستقبله يؤكد أننا أمام سلاح ذي حدين, يضع علي عاتق المجتمع ككل وعلي الإعلاميين سواء المهنيون منهم أوالهواة مسئولية جسيمة. فالجميع اليوم يتعامل مع أداة ذات فاعلية وتأثير قوي ونشيط في الشارع, والرأي العام يتلقي ويتفاعل مع ما ينشر وما يتم بثه, الأمر الذي ينعكس بالضرورة علي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. من هنا يتضح أن استعادة ملكة التفكير وتربية الذائقة النقدية للتفرقة بين الحقيقة والأكذوبة و تأكيد ثوابت الهوية لابد أن يكون علي رأس قائمة أولوياتنا الآن لمجابهة التحديات التي يفرضها شكل الإعلام الجديد بما يحمله من تعددية فكرية ووجوه متعددة للحقيقة.. فإما أن نحول كل هذا لبناء ثقافي حقيقي وإما أن نغرق معه في مستنقع الثقافة الرخوة.. ge.gro.marha@ahieless