يدهشني، كما يدهش غيرى أمر عشراتٍ من صحف » رجال المال » التى تُسَوِّق للعامة ودهماء الناس أنها تخوض حروبا مقدسة لكى تبقى محرابا للحريات السياسية والاجتماعية فى مصرنا الجريحة، فقط لأنها ليست مملوكة للدولة. كأن الدولة، المخترقة داخليا وخارجيا على مدى أربعين سنة، هى وحدها القادرة على صناعة الإعلام الستالينى ذى الطبيعة الوظيفية بما يستتبع ذلك من النواهى ولوائح المنع فاشية الطابع. هذه المفارقة وحدها تعكس نوعا من البَلَه الذى يمارسه صحافيون ورؤساء تحرير من أنصاف وأرباع المتعلمين ، مدركين أو غير مدركين لتآكل وظائف الدولة التقليدية، فضلا عن التحولات التى طرأت على تلك الوظيفة فى سياقات كان معادل خللها الأعظم يتمثل فى تلك المنتجات الطفيلية لرأسمالية من أنصاف وأرباع المهنيين. ورغم أن الفرضية المنطقية لمصير تلك الطبقة كان السقوط المحتم بتأثير الزخم الهائل لثورتين كبيرتين، إلا أننا مازلنا نطالع مع كل إشراقة شمس عشرات من عرائض الدفاع اليائسة وهى تتصدر العناوين الرئيسة لتلك الصحف دفاعا عن موتى النظام القديم ورميم دولتهم الغاربة. أذكر أن صحيفة من تلك الصحف نشرت حوارا مطولا مع وزير الصناعة والتجارة الهارب رشيد محمد رشيد فى الثامن من مارس عام 2011 ، أى بعد سقوط مبارك بأقل من شهر واحد.حاول الحوار أن يصنع مسيحا جديدا من الوزير الهارب فى حين كان الأجدر به وبصحيفته أن يقدما عرائضهما اليائسة للمحكمة التى قضت بسجنه أكثر من ثلاثين سنة. ثم توالى على الشعب ما قالت تلك الصحيفة أنه انفرادات صحفية. فنشرت حوارا على صفحتين مع أحد رؤساء المجالس التشريعية السابقين حاول فيه ابتكار بلاغة تكافئ جرائمه السياسية الغليظة التى لم يحاسب عليها حتى أيامنا. وهكذا رأينا كيف ارتفعت أسهم رئيس تحرير تلك الجريدة فى سوق رجال المال. ليست تلك الصحيفة وحدها من يلعب مثل هذه الأدوار. فثمة صحف أخرى لا تقل سفورا تستمر فى أداء الدور نفسه تحت الإشراف المباشر واليومى لرجال المال . فكيف نفهم مثلا قيام إحدى تلك الصحف بنشر تحقيق موسع عن الأوضاع الصعبة للعمالة المصرية باليونان تزامنا مع زيارة لرئيس الدولة ، كما تنشر صحيفة أخرى حوارا على حلقتين مع رجل الأعمال الهارب حسين سالم بالتزامن مع زيارة الرئيس لإسبانيا، وتنشر ثالثة ملفا كاملا عن خطر الوهابية على خلفية زيارة رئاسية للسعودية، ورابعة تنشر حوارا مع أحد مستشارى مبارك يتهم فيه مؤسسة الرئاسة بعدم النضج ، فقط لأنه قدم طلبا للقاء الرئيس منذ عدة أشهر ولم يتلق ردا مناسبا! وخامسة تنشر تحقيقات مطولة عن مظاهر تسييس القضاء بعد تحفظه على أموال لاعب كرة بسبب ما أثير عن تمويله لإرهاب الإخوان متوعدين الدولة بثورة شعبية ثالثة جراء عدم التراجع عن تلك الحماقة ! وسادسة تنشر أخبارا ملفقة عن أزمة فى العلاقات المصرية الروسية قبيل زيارة رئاسية لروسيا للمشاركة فى الذكرى السبعين لاحتفالات روسيا بالانتصار على النازية. التوقف أمام تلك المخازى لا يعنى بأى حال ، إضفاء قداسة من أى نوع على أدءات الدولة فى هذه الملفات فهى قطعا أدءات قابلة للنقد والنقض فى آن، لكن للنقد والنقض طرائقهما التى ليس من بينها تضليل الرأى العام بمحاولات دءوب لإيجاد احتقانات شعبية تمثل أداة مؤثرة للضغط على النظام لكسر إرادته ،ما يؤكد أن الميراث الباهظ لفساد نخبة المال والأعمال أكبر من احتوائه عبر مدونة تشريعية هم صناعها ،وهى مدونة تعمل ضد الثورة والدولة على السواء. والمؤكد أن السفور الذى تمارسه منابر تلك النخبة يتزايد يوما إثر يوم. لا أقطع طبعا بأسباب مباشرة للأمر لكن المعلومات المتداولة فى كواليس السياسة تؤكد أن ثمة ضغوطا صعبة مارسها رجال أعمال كبار تجاه تعطيل قانون ضرائب السمسرة وتداول الأسهم ، وكذلك مورست ضغوط كبيرة للحصول على امتيازات أوسع فى قانون الاستثمار الجديد ، فى الوقت نفسه رفضت الدولة مئات الطلبات لتخصيص أراض ومنتجعات فى العاصمة الإدارية الجديدة ، وكذلك تم نزع ملكية آلاف الأفدنة من رجال مال بطريق الإسكندرية والإسماعيلية والسويس ، كما لا تبدى الدولة تسامحا يطفئ قلق رجال المال حول ما سبق أن حصلوا عليه من امتيازات. فى هذا السياق سنصادف وجبات من الغثاء اليومى الذى تقدمه تلك المنابر عبر ِرُطَان نصفه جاهل ونصفه مغرض، تباكيا على قيم سياسية ومجتمعية يهدرها النظام السياسى ليس لسبب سوى أن أفق الصفقات المليارية المشبوهة بات مهددا بالانسداد. ويذكر عامة الناس وخاصتهم كيف كان يتم إعداد تلك المنابر كجزء من الطليعة التى جيشها رجال المال ترويجا لمشروع توريث حكم مصر لجمال مبارك باعتباره «مواطنا مصريا» كما روجت عدة صحف ومن ثم فإن ما يكفله الدستور لعامة الناس يكفله أيضا لابن الرئيس !! ألم تكن تلك هى الليبرالية الجديدة ؟ وقد حاولْتُ، كما حاول غيري، التماس الكثير من الأعذار لتلك المنابر كجزء من الانفتاح الضرورى على حرية الرأى وإثراء مفاهيم التعدد والتنوع لكن ذلك لا يجب أن يعني، فى إطار أى أعراف مهنية وأخلاقية، تحول تلك المنابر إلى أدوات لحماية مراكز غير مشروعة، أو أن يكون وجودها رهنا بالدفاع عن قيم تنافى ما ينشده المجتمع بعد ثورتين كبيرتين، لتتحول إلى أداة من أدوات تضليل الرأى العام ، ما يعنى أن تلك الكيانات لن تتورع ، عندما تواتيها الفرصة، عن إطلاق ثورتها المضادة . لذلك أتصور أن ثمة حتمية يجب أن تدفع الدولة لتحويل تلك الكيانات إلى شركات مساهمة تتساوى فيها أسهم الشركاء ويتم فيها فصل الإدارة عن التحرير، وهذا هو السبيل الوحيد لتحرير تلك الصحف من فساد أصحابها. وأتصور أن هذه الصحف ، بما تنطوى عليه من كفاءات صحافية ووطنية مهمشة، لجديرة بصناعة صحافة شديدة المهنية والأخلاقية ، فلا يصح أن تغتسل تلك المنابر من خطيئة الترويج لمشروعات قديمة للتوريث بتبنى مشروعات جديدة للتجريس. لمزيد من مقالات محمود قرنى