زارتنى أخيرا شابة واعدة قادمة من صعيد مصر الجوانى «قنا» ومعها حزمة من الأوراق تحوى انتاجها من القصص القصيرة. جاءت تحمل حلما كبيرا فى أن تجد بالقاهرة فرصة للاستزادة المعرفية ونشر انتاجها الأدبى ولم تخف طموحها فى أن تنال بعض الشهرة التى حظى بها السابقون من المبدعين من أبناء قنا إذ ظل اسم الأبنودى ويحيى الطاهر عبدالله وأمل دنقل يسيطرون على خيالها.. سألتها هل تعتقدين أنك تمتلكين جزءا من قدراتهم الابداعية وجرأتهم الفذة على اقتحام العاصمة برغم اختلاف الزمن الحالى عن زمنهم وظروفهم، فأجابت بثقة ان التجربة العملية سوف تثبت ذلك وحينئذ سوف أواصل عطائى الابداعى، وإذا عاكستنى الظروف سوف أعود الى قريتى فى أبوتشت، ولكن لن أتوقف عن العطاء والتعبير عن مخزون تراثنا من الحكاوى والمواويل خصوصا ما يتعلق بالمرأة الصعيدية وفضائها الذى يمتلئ بالمآسى والأحزان المكبوتة والاحباطات والأفراح القليلة.. وقد قرأت انتاجها ووعدتها خيرا، ومرت عدة أسابيع ثم فوجئت بزيارتها الثانية بعد رحيل عبدالرحمن الابنودى، وقالت لى إنها تحمل سؤالا محيرا وترجونى ان أفسح صدرى لسماعه وهو لماذا تتجاهل الدولة المبدعين والمبدعات فى صعيد مصر؟ ثم ارتفع صوتها وامتلأت عيناها ببريق حاد وأردفت قائلة خصوصا عطيات الأبنودى التى انتمت الى الصعيد بأعمالها الابداعية فى السينما التسجيلية، ونالت ثمانى جوائز دولية من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وجنوب إفريقيا ونيكاراجوا والهند وهولندا وأبرز أفلامها «حصان من طين» و«ساندوتش» و«بحار العطش» و«ايقاع الحياة» و«الأحلام الممكنة» و«أيام الديمقراطية»، وقد امتلأت الندوات والمؤتمرات والمهرجانات الثقافية المصرية والعربية والأجنبية بعروض رائعة لهذه الأفلام، ولكن التليفزيون رفض وقتها بإصرار عرضها بلا سبب.. لقد احزننا تجاهل هذه المبدعة المصرية اللامعة التى رافقت الأبنودى كزوجة ورفيقة نضال ما يقرب من عشرين عاما وساندته ماديا ومعنويا ورافقته فى رحلاته الى الصعيد لتجميع السيرة الهلالية، ويعرفها ويعتز بها أهالى أبنود وقنا وسائر الأهالى فى أسيوط وسوهاج. وواصلت الشابة الصعيدية حديثها، وقد اختنق صوتها قليلا: جئت أحمل رسالة من أهالينا فى الصعيد الى مثقفى العاصمة والمسئولين عن الثقافة فى مصر بعد ثورة 25 يناير 2011، ونود أن ينتبه التليفزيون المصرى خصوصا القناة الثقافية الى ضرورة عرض أفلام عطيات الأبنودى لأنها تسجل لقطات حية عن التاريخ الاجتماعى للمهمشين من صناع الحياة فى بلادنا وذلك سعيا لاشباع تطلعات الأجيال الجديدة المتعطشة لمعرفة تاريخ وتراث أوطانهم من خلال الأعمال الابداعية. وقد تذكرت على الفور مقولة عطيات الأبنودى عندما حصلت على احدى الجوائز الدولية عن فيلمها «ايقاع الحياة» ويحكى بالصوت والصورة ملامح الحياة اليومية فى قرية الزرابى بمحافظة أسيوط، وقالت يومها «لا شيء يعادل جائزة الوطن التى مازلت أتطلع اليها عندما يعرض التليفزيون المصرى أعمالى قبل رحيلي»، صمتت الشابة الصعيدية، وبللت ريقها بكوب من الماء ثم استطردت قائلة: هناك قصة أخرى لا تقل إيلاما عن قصة تجاهل عطيات الأبنودى انها تخص الشاعر القنائى المبدع كرم الأبنودى شقيق الراحل عبدالرحمن الأبنودى، وقد أصدر عدة دواوين شعرية ونثرية لم يسمع عنها سوى نفر صغير من مثقفى القاهرة ولم تتح له فرصة المجيء الى العاصمة والاستمتاع بما كان يستحقه من اهتمام ورعاية سواء من الجمهور أو من المسئولين عن الثقافة المصرية، كما لم ينل حظا طيبا من الشهرة. مرة ثانية تداعت الى ذاكرتى تلك الأمسية البعيدة عندما كنت فى زيارة لمحافظة قنا مع فريق من الصحفيين وإذ بشخص تجاوز منتصف العمر ويكتسى وجهه بفيض من السماحة والحياء الذى يميز معظم وجوه الرجال والنساء من أهالى قنا، وقدم نفسه لى قائلا: «أنا الشاعر كرم الأبنودي»، وامتدت يده بمجموعة من دواوينه، فرحبت به وجلسنا طويلا نتبادل الحوار والحكاوى والأشعار عن الصعيد وابداعات أبنائه التى لا يعلم عنها جمهور العاصمة إلا النذر اليسير. واختتمت الشابة الصعيدية حديثها متسائلة: هل سمع المثقفون والشعراء فى العاصمة عن الشاعر المبدع كرم الأبنودي؟.. ثم انصرفت! د. عواطف عبدالرحمن