أبدأ اجتهادى فى هذا الموضوع الذى أصبح تحديا يؤرق كل مثقف وطنى، وكل مسلم غيور على دينه، بعدة ملاحظات تأسيسية، لابد من وضعها فى الاعتبار، سواء عند القارئ الذى يقرأ أو الكاتب الذى يكتب. وأولى هذه الملاحظات أننى آثرت اختيار كلمة “ الفكر” بدل “الخطاب” لأن كلمة “الخطاب” أصبحت بالغة الشيوع بما أفقدها بعض دلالات معناها ومقصدها الأهم الذى يرتبط بالبعد التداولى للمصطلح الذى يرصد اللغة، وهى فى حالة فعل، من حيث هى أفعال كلام تؤثر فى الواقع الذى تنطق فيه، وتتوجه إليه لتغييره بوصفها أفعالا فيه وبه ومنه وإليه. ولما كان اصطلاح “تحليل الخطاب” تحوّل إلى تحليل المضمون الفكرى للخطاب، واختزل معنى الحديث عنه فى الجانب الفكرى من الخطاب. وقصر معنى اللغة فى الكلام من حيث هو أفكار، فمن الأوفق الحديث عن الجانب الفكرى- المضمونى لتحليل الخطاب، والاكتفاء بكلمة الفكر الدينى الذى أصبح فى حالة بينة من الركود الاتَّباعى، والجمود التصورى، وافتقاد القدرة على متابعة الحركة المتسارعة للزمن الذى نعيش عولمته، وما بعد عولمته، شئنا أو أبينا، ونتأثر بالثورة المذهلة فى تطوير أدوات اتصالاته، والتراكم الكمى والكيفى للتطور المدهش فى مصنوعاته ومخترعاته، فضلا عن التحولات والمتغيرات المستمرة فى موازين القوى والعلاقات التى تتحكم فى مصائرنا على نحو مباشر أو غير مباشر، ونحن عنها لاهون أو غارقون فى جمود وعينا وتخلف فكرنا الذى يتخذ من الدين سندا ومبررا لشروط الضرورة التى أصبحت معادية لكل جديد، يؤثر العقل على النقل، أو يعمل المعقول فى المنقول حتى يتسق مع منطق العلم والتجربة الحية. هكذا أصبحنا عبيدا للماضى الذى لم نعد نرى إلا بعينيه. نمضى إلى الأمام وأعيننا فى أقفيتنا، فنعجز عن رؤية علامات المستقبل المتاحة للناظر فى حاضرنا المتغير الذى لا نقبل من إيجابياته إلا ما نجد دليلا عليه فى الماضى. وكلما أوغلنا فى الاتباع والتقليد، تقلصت أمامنا صور الماضى نفسه، فتحول الماضى المستعاد إلى عصور من الهزائم والانكسارات، وفقه دينى مذعور من غزوات المغول والتتار والصليبيين، فاستعدنا فقيه السلطان والفقه الذى يحيل الآخر المختلف إلى عدو، رافضا الاختلاف والتباين والتنوع، مؤثرا التقليد والاتَّباع، منكرا كل جديد، خاصة ذلك الذى يأتى من الآخر عدو الدين، رافضا معنى “الوطن” الذى هو بدعة، اخترعها أعداء الخلافة الذين هم أعداء الإسلام. وكانت النتيجة أننا استبدلنا الذى هو أدنى بالذى هو خير، ووضعنا فقه التطرف والتعصب موضع فقه التسامح والمجادلة بالتى هى أحسن، وانقلب التطرف والتعصب إلى إقصاء للآخر المختلف وقمع له. وكان ذلك فى المتوالية القمعية التى أحالت المجادلة بالتى هى أقمع إلى أفعال إرهاب صريح، تستبدل الرصاصة بالكلمة، وقطع الرقاب بإقامة الحجة، وذلك فى منحى أحال المختلفين من المسلمين إلى كفار لابد من قتالهم وسبى نسائهم وتدمير ممتلكاتهم. وتحوّل العصر الحديث إلى جاهلية، انتقلت من القرن العشرين إلى القرن الحادى والعشرين، فشهدنا “القاعدة” التى ورثت صقور الإخوان المسلمين أو القطبيين بلا فارق حقيقى، فبدايات الإرهاب كجذوره موجودة فى فكر حسن البنا الذى أنشأ أول تنظيمات الاغتيال التى لم تتوقف على امتداد التاريخ الإخوانى، وما تفرع عنه من جماعات عنف. وحاولت القاعدة أن تكمل السلسلة التى أحدثت من الكوارث فى العالم كله ما أحدثته، وذلك فى السياق الذى شهدنا فيه ورثة القاعدة من “داعش” وأشباهها من الذين ملأوا الأرض رعبا وخوفا، وجعلوا “الإسلام” السمح متهما فى أعين من لم ير من أبنائه الضالين سوى الرعب والدم والقتل. وكان ذلك كله فى سياق زمنى، بدأ بالسبعينيات الساداتية، وتدعم بقيام الجمهورية الإسلامية فى إيران سنة 1979، وما تبعها من العمل على تصدير الثورة الإسلامية إلى العالم كله. وكانت نقطة البدء المناطق المجاورة، فى السياق الذى أدى إلى قيام الحرب العراقيةالإيرانية من سبتمبر 1980 إلى أغسطس 1988. ولم يكن من المصادفة- فى هذا السياق الذى لم يخل من تلاعب الأصابع الأمريكية- أن يتأسس تنظيم “القاعدة” سنة 1988 بتجمع سنى سلفى جهادى، تحول بعد انضمام أيمن الظواهرى إلى تنظيم عالمى بعنوان “الجبهة العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين”. وأثمر المذابح التى جمعت تفجير برجى التجارة العالمية- نيويورك سبتمبر 2001 وتفجيرات لندن يوليو 2005 وقبلها تفجيرات مدريد 2004. والمسافة ما بين غروب “القاعدة” وشروق “داعش” هى المسافة التى استغرقتها ثورات الربيع العربى لتولد نقيضها المخيف على هيئة “خلافة” تذكرنا بكل أولئك الذين يصرون على إبقاء “الخلافة” عنصرا تكوينيا فى خطابهم الدينى، ابتداء من الخطاب الدينى لجماعة الإخوان المسلمين وتنظيمها العالمى، وليس انتهاء بالمجموعات السلفية التى ينبنى خطابها الأصولى على العنصر التكوينى نفسه، فارا وراء أقنعة التقية ومراوغات التوافقات السياسية الظاهرة التى ليست سوى قناع آخر من أقنعة التقية أو المناورة السياسية. أما الملاحظة الثانية فتتصل بالإجابة عن السؤال: لماذا يكتب مثقف مدنى فى موضوع دينى، وهو أستاذ جامعى يؤمن بالدولة المدنية الوطنية الديمقراطية الحديثة، ولا يزال يدعو إليها من عقود خلت، مؤمنا بحتمية تأسيس وتأصيل تجديد فكر دينى حديث، ينطوى على قضايا هى من اختصاص رجال الدين وحدهم، فيما يزعم بعض رجال الدين من علماء الأزهر، خصوصا أولئك الذين لم نر لهم جهدا يذكر فى تجديد الخطاب الدينى، بل رأينا منهم نقيض هذا المسعى بالإسراف فى الجمود والحرفية والتعصب، وكلها نقائض لدعوى تجديد الخطاب الدينى التى أعلنها رئيس الجمهورية نفسه، ووصلت به حماسة الدعوى وصدقها إلى حد المطالبة بثورة دينية فى الدين، وليس على الدين، إيمانا عميقا منه بضرورة الثورة فى داخل الدين الإسلامى من أجل استعادة حيويته وعافيته التى أنتجت حضارة عظيمة، كانت إنجازا غير مسبوق فى تاريخ البشرية بتسامحها وعقلانيتها، قبل أن تنخر فيها عوامل الفساد التى كانت تجمع دائما بين سلطان مستبد وفقيه فاسد، سلطان أفسده التعصب وأغوته شرور الدنيا، وفقيه لا هم له سوى إقناع الناس بطاعة ولى الأمر، مهما يكن جبروته وظلمه. ولذلك أسلمت الحضارة العربية الإسلامية مفتاح إنجازها العظيم إلى أوروبا يوم أن سجنت ابن رشد وأحرقت كتبه، بعد أن أحرقت كتب أمثاله فى المدن العربية على امتداد خارطة العالم الإسلامى وعواصمه الممتدة على خارطته. وكانت تلك هى لحظة الزمن المتحول الذى حملت فيه أوروبا شعلة الاستنارة التى ألقاها أصحابها وداسوا عليها بالأقدام، بينما أخذت أوروبا ما بقى من الشعلة ونورها، وجعلت من الرشدوية (نسبة إلى فلسفة ابن رشد) والسينوية (نسبة إلى فلسفة ابن سينا) أساسا للنهضة التى قامت على احترام العقل الإنسانى بوصفه نور الفكر ومصباحه فى المدى المعرفى الذى تعلمنا منه نحن العرب، حين كان لنا دور فى التاريخ، أن الحق لا يضاد الحق، فيما نسب إلى ابن رشد، وأن “الحق حق فى نفسه لا لقول الناس فيه” - فيما قال ابن النفيس. وعندما أقرأ لشيخ الأزهر العظيم الإمام محمد عبده: “إن لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله، دون توسيط أحد من سلف أو خلف، فليس فى الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه”، فإنى أفهم أمرين. أولهما أن لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسول الله من كلام رسول الله، ما دام قد تحققت له من المعارف الأساسية ما يعينه على القراءة والفهم السليم والاستنتاج المعقول، ممارسا التفكير الذى هو فريضة إسلامية فيما رأى عباس العقاد الذى يحمل كتاب له هذا العنوان. أعرف أن بعض مشايخ الأزهر يحظرون الاجتهاد إلا على أنفسهم. وأذكر أننى كنت أحاجج بعض عقلائهم قائلا: وماذا تفعلون مع عباس العقاد الذى لم يحصل على درجة الدكتوراه فى الآداب، ولا حتى درجة الليسانس، ولكننا نحترم آراءه واجتهاداته فى الأدب والثقافة احترامنا لطه حسين الذى حصل على الدكتوراه الأولى من جامعة القاهرة، والثانية من السربون، فليس فى الفكر ولا الدين كهنوت، والإسلام - فيما يقول محمد عبده- هدم بناء السلطة الدينية، ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم، ولا رسم. صحيح أنك سوف تجد شيخ الجامع الأزهر يؤكد ما قاله الإمام محمد عبده. لكن هذا على سبيل القول لا الفعل، وإلا فما سبب هذه البيانات السياسية التى يصدرها الأزهر حينا بعد حين، وآخرها ما صدر عن تعذيب الشيعة للسنة فى العراق، وأدى إلى استدعاء السفير المصرى من الحكومة العراقية، خصوصا بعد أن اتهم بيان للأزهر “قوات الحشد الشعبى” بارتكاب مجازر ضد أهل السنة. ولا معنى لمثل هذا البيان إلا أن الأزهر يتصور نفسه سلطة دينية للسنة، فى موازاة بقية الطوائف والمذاهب الإسلامية التى يراها الأزهر مغايرة لموقفه السنى من منظور الأشعرية الماتريدية التى ينتسب إليها شيخه. والحق أنه ليس الأزهر وحده هو الذى يتصرف عمليا وواقعيا على أنه سلطة دينية منذ عقود من السنوات فى العصر الحديث، خصوصا بعد أن ضرب الأزهر بآراء الشيخ محمد عبده عرض الحائط. والدليل ميسور. لقد توفى الشيخ محمد عبده سنة 1905، وبعدها بحوالى عشرين عاما لم يكن الأزهر مبلغا ومذكرا، وإنما كان مهيمنا ومسيطرا فى قضية الشيخ على عبد الرازق، عندما أصدر كتابه “الإسلام وأصول الحكم” وانتهى إلى اجتهاد أفسد على الملك فؤاد حلمه فى الخلافة، وكان على الأزهر تأييده ومباركته لسلطان الملك المستبد، فانتهى إلى اجتماع لجنة كبار العلماء التى سحبت العالمية من الشيخ على عبد الرازق، الأمر الذى ترتب عليه فصل الرجل من عمله الذى كان يشغله قاضيا فى محكمة المنصورة الشرعية. هذا الأزهر نفسه حاول مرة ثانية ممارسة دور السلطة الدينية، عندما أرسل شيخه شكوى ضد طه حسين وكتابه “فى الشعر الجاهلى” إلى سعد زغلول رئيس البرلمان فى حكومة الائتلاف الوطنى سنة 1926. ولكن برلمان سعد زغلول آثر الاحتكام إلى الدستور والقانون، وعدم الانصياع إلى ما أراده الأزهر ممارسة لسلطة دينية موهومة، فأحال البرلمان شكوى الأزهر إلى نيابة مصر العمومية التى أعملت نصوص دستور 1923 والقوانين المتفرعة منه، فانتهى رئيس نيابة مصر العمومية إلى تبرئة طه حسين، والحكم بأن ما كتبه فى كتابه “فى الشعر الجاهلى” إنما كان على سبيل الاجتهاد. وكانت النتيجة انتصار السلطة المدنية للدستور والقانون على السلطة الدينية المزعومة للأزهر. ولم يكن الأزهر فى المعارك التى شنها أخيرا الغلاة من رجاله على المثقفين والمبدعين سوى تجسيد آخر لممارسة تلك السلطة الدينية التى هدمها الإسلام ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم. وبماذا نصف ما فعله الأزهر حين عقد محاكمة تأديبية للشيخ عبد الحميد بخيت فى يونيو 1955 لرأى رآه وفتوى هى اجتهاد اجتهده فى الصوم لمن لا يطيقه، وكان الحكم إبعاد الشيخ عن وظائف التدريس، ونقله إلى إحدى الوظائف الكتابية، وجاء فى حيثيات الحكم أنه كان يستحق أقصى عقوبة تأديبية، وهى الفصل إلا أن مجلس التأديب رأى أن يأخذه بالرحمة، ولكن الشيخ بخيت لم يقبل الحكم ورفع قضية أمام محكمة القضاء الإدارى طالبا بإيقاف الحكم، وبعد مرافعات وردود، انتصر الشيخ، وقضت المحكمة (الدائرة الثانية) بوقف تنفيذ قرار مجلس التأديب وقرار شيخ الأزهر نفسه، وذلك على سند من الدستور والقانون، وعلى سند من الدين الذى يثيب المجتهد على اجتهاده حتى لو أخطأ، ومواجهته تكون بالحجة العقلية، وليس بسلطة دينية غير موجودة فى الإسلام. ولا أريد أن أمضى فى الاستقصاء، فما نراه من الأزهر من ردود أفعال قمعية، إزاء من يختلف مع شيوخه فى الاجتهاد، وهم بشر يصيبون ويخطئون، ليس فى أغلب الأحوال سوى ممارسة فعلية لسلطة دينية، ليست من الإسلام فى شىء. ولماذا نذهب بعيدا، وما فعله الأزهر الرسمى ببرنامج إسلام بحيرى بقناة «القاهرة والناس» ومطالبة هيئة الاستثمار بإغلاق البرنامج ومنعه، وذلك قبل تقديم شكوى إلى النائب العام. وعندما لم تفلح هذه المحاولة أرسل الأزهر أحد مشايخه لنقض أفكار إسلام بحيرى فى برنامج علنى أذاعته القناة، فكانت النتيجة نفورا ثقافيا من أفكار ممثل الأزهر الذى تكلم عن سلطة الأب لتزويج ابنته التى قد تكون «مربربة» تحتمل الوطء منذ سن الخامسة، فكشف ممثل الأزهر عن نموذج عملى لتخلف الخطاب الدينى فيما يتعلق بقضية المرأة عموما، وزواج القاصر تخصيصا. وهو الأمر الذى أكد أن الأزهر بأوضاعه الحالية أعجز من أن يقوم بتجديد جذرى أو شبه جذرى لقضايا الخطاب الدينى، خصوصا تلك التى تتعلق بالمرأة، أو تصور الأزهر لنفسه بوصفه سلطة دينية، تكاد تكون على حق مطلق فى اجتهاداتها التى بدأت تأخذ شكل سلطة كهنوتية، تتولى تجريم أى اجتهاد يخالف اجتهاداتها، أو يخرج عليها فيما هو مباح لكل عقلاء المسلمين الاجتهاد فيه بلا تحريم قمعى من أى مؤسسة علمية، علماؤها بشر يصيبون ويخطئون فى الاجتهاد، شأنهم فى ذلك شأن مخالفيهم سواء بسواء. ولكن ليس الأزهر وحده هو الذى يتخيل لنفسه هذه السلطة. لقد ورث عدد من مشايخه مفهوم هذه السلطة عن المذاهب الحنبلية المتأخرة، وعن فكر ابن تيمية المؤصل الأكبر للفكر السلفى ما بين القرنين السابع والثامن للهجرة. وكانت أن تجسدت «السلطة الدينية» فيمن رأوا أنفسهم حراسا للعقيدة، وسمحوا لأنفسهم- دون وجه حق - بالتدخل بين الإنسان وخالقه، ولم يتردد غلاتهم فى إيقاع الأذى الذى رأوه عقابا على مخالفيهم. هكذا أحيت المجموعات السلفية قمع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بما أدى إلى القتل للمسلم (هل تذكرون الشاب الذى قتلوه لأنه كان يجلس وخطيبته فى حديقة عامة؟!) والإقصاء للمسيحى الذى وصلت درجات التمييز ضده إلى حرق كنائسه، ابتداء من حرق كنيسة الخانكة سنة 1972 فى أوائل سنوات التحالف الإخوانى الساداتى. وتواصل حرق الكنائس، فى موازاة إيذاء المسيحيين والاعتداء عليهم بدنيا أو طردهم من ديارهم فى أكثر أشكال ممارسة السلطة الدينية فجاجة ووحشية وبعدا عن الإسلام. ودعونى أذكركم باغتيال فرج فودة فى الثامن من يونيو سنة 1992 بعد أن نشرت جريدة “النور” التى كان بينها وفرج فودة قضية قذف بعد اتهامه بأنه يعرض أفلاما إباحية. وقد خسرت المجلة القضية. لكنها - قبل ذلك - نشرت بيانا من ندوة علماء الأزهر يكفر فرج فودة، ويدعو لجنة شئون الأحزاب لعدم الموافقة على إنشاء حزب “المستقبل”. وكان ذلك فى السياق الذى تولى فيه شابان مهمة تنفيذ حكم الإعدام الصادر على فرج فودة بعد تكفيره من سدنة جريدة “النور” الإسلامية الذين فهموا أن لديهم سلطة دينية، لا تتيح لهم معصية التدخل فى ضمائر الناس فحسب، بل تكفيرهم والحض على اغتيالهم ممن يتشرف بأن يغتال الناس استجابة لتعاليم هذه السلطة الدينية التى ليست من الإسلام فى شىء، ولا علاقة لها بالإسلام. ونضيف إلى فرج فودة الشهيد محاولة اغتيال نجيب محفوظ فى أكتوبر 1994 بطعنة فى عنقه على يدى شابين، سرعان ما تبين أنهما قاما بتنفيذ أوامر سلطة دينية ضالة، حكمت بكفر نجيب محفوظ ووجوب قتله. ولن ننسى كيف امتدت عدوى السلطة الدينية حين خامرها التعصب الدينى إلى القضاء، فكانت النتيجة الحكم على نصر أبى زيد بالردة وتفريقه عن زوجه سنة 1997، وذلك كله باسم بشر يصيبون ويخطئون، لكنهم افتروا على الله كذبا، وافتروا علينا ظلما، ادعاء بأنهم سلطة دينية لا أساس ولا وجود لها فى الإسلام الذى لم يكن مهيمنا ولا مسيطرا، ولم يجعل لأحد من أهله، ولا لأزهر ينطق باسمه، ولا لأى جماعة مهما تكن قوتها أو مدى سطوتها على عقول أقوام جهلاء صاروا لها جندا ورقباء قمعيين على غيرهم من المسلمين المخالفين، فلا الأزهر ولا لأى جماعة تقتدى به، أو يقتدى بها، الحق فى ادعاء سلطة باسم دين نفى هذه السلطة عن المنتسبين إليه، فلا رقيب بين الإنسان والله سوى الله وحده، وليس لمسلم مهما علت درجة علمه بالدين على مسلم مهما ضؤلت معرفته بالدين إلا حق النصيحة والإرشاد لا حق الأمر والنهى، والتخويف بسلطة دينية لا أساس لها إلا فى أوهام الذين تخيلوها ولا يزالون يخادعون بها الناس، فلكل مسلم عاقل ومتعلم – فى النهاية- أن يفهم من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله، ما ظلت القاعدة الكبرى هى أن الإسلام ليس لديه سوى سلطة العقل الذى خلقه الله حجة علينا يوم حسابه، وحجة لنا فى محاججة خلقه الذين يخايلون بمناصب ما أنزل الله بها من سلطان، ما لم تستخدم حجة الله على الخلق وعليها نفسها حتى لا تتحول إلى سلطة ظالمة باسم دين عادل برىء من الظلم، منحاز كل الانحياز إلى العقل فى المدى الذى دفع إلى القول المأثور: “الحق حق فى نفسه لا لقول الناس فيه”. ولذلك فكل مسلم غيور على دينه - من حيث هو مواطن غيور على وطنه - مندوب إلى أن يجتهد ما وسعه علمه كى يسهم فى تحرير الفكر الدينى الإسلامى مما لحق به من تعصب المتعصبين وتدليس المدلسين وفساد المفسدين فى الأرض، والمفسدين للفكر الدينى والمسيئين له فى الوقت نفسه. والبداية هى نفى السلطة الدينية عن كل مدع لها، ابتداء من المتعصبين من مشايخ الأزهر، وليس انتهاء بالمتاجرين بالدين من مدعى الولاية الدينية على الناس باسم سلفية هى باسمها نفى للآخر وقمع لحضوره. والدليل على ذلك أنهم يختزلون السلف كله فى حضورهم، كأنهم وحدهم المنتسبون إلى هذا السلف، أما المختلفون عنهم فهم منسيون قمعا إلى خارج أحفاد السلف الصالح. لمزيد من مقالات جابر عصفور