أعترف بأننى عندما قرأت رد الدكتور عباس شومان شعرت بالحزن لأن يكون هذا الرد من وكيل الأزهر وممثله الذى يرأسه شيخ جليل واسع الأفق لا يكف عن أداء دوره التنويرى الذى يؤكد القيم العقلانية للفكر الإسلامى ، ويمضى فى السنة الحميدة التى تواصل فتح أبواب الاجتهاد ، وكلى ثقة فى أن شيخ الأزهر لم يقرأ هذا الرد، وأنه لا يقر لغته ولا أسلوبه ، ولا المسارعة إلى رمى الناس بالباطل، إلى درجة لا تتباعد كثيرا عن التكفير . ولن أتناول ما قاله وكيل الأزهر سطرا سطرا، وإنما سأقف عند الملاحظات العامة: أولا: أنا لا أدعى على مشايخ الأزهر الذين ذكرتهم فى مقالي، فكل من ذكرتهم من مشايخ الأزهر هم تنويريون بالمعنى الذى يقرن التنوير بإعمال العقل - كما يقول الإمام محمد عبده - وإعمال العقل أول علامة من علامات التنوير ، وما أكثر ما اقترن العقل بالنور فى تراثنا الإسلامى ، وإعمال العقل لا يعنى التناقض مع النص الدينى ، قرآنا أو حديثا أو سنة، فمن يقول بذلك لا يفهم معنى التنوير ، وينصح بقراءة آخر كتبى "للتنوير والدولة المدنية"، وهو متاح فى الأسواق لمن يريد الفهم وليس لمن يريد أن يقذف الناس بالباطل . ثانيًا: أنا من المبشرين بتنوير عربى إسلامى ، وفى ظنى أن كلمة التنوير فى اللغات الأوروبية بمعناها الدال على العقلانية والمرتبط بالنور مأخوذة من تراثنا الإسلامى ، ويمكن لوكيل الأزهر مراجعة مقدمة كتابى "أنوار العقل" ليفهم ذلك ، إذا كان يحب المعرفة ، أما "العلمانية" التى تؤرق وكيل الأزهر فهى من "العَلم" بفتح العين وتسكين اللام، ومعناها "الدنيا" وينسب إليها فيقال "علماني" نسبة إلى الدنيا، كما نقول "عقل" و"عقلاني" ، وإذا نسبناها إلى "العِلم" بكسر العين، فهى تعنى الاتجاه العلمى . وكلا المعنيين ليس فيه ما يسيء إلى الدين ، فالدنيوية تستخدم بمعنى "أنتم أدرى بشئون دنياكم"، والمنهج العلمى وسيلة مهمة للتقدم، وليس فى ذلك ما يوهم كفرا أو خروجا عن دين . ثالثًا: أما توهم أن رفاعة الطهطاوى قد رفض الوضعية المجردة عن الشرع فهو قول حق، لكن الأدق أن عقلانية رفاعة دفعته إلى استخدام منهج التحسين والتقبيح الاعتزالى ، فَقَبِل ما قبل من الحضارة الفرنسية لأن له مبررا عقلانيًا وسندا من الشرع، ورفض ما رفض لأنه لم يجد له سندا فى الشرع ولا من العقل . وأرجو أن ينتبه وكيل الأزهر لمعنى أن يترجم رفاعة الطهطاوى جزءا من الدستور الفرنسى (المدني) عن العلاقة بين الحاكم والمواطنين، وحقوق المواطنين على الحاكم ، أضف إلى ذلك ما نقله عن العلوم والفنون ، ومنها المسرح ، أما ما قاله عن "اللخبطة" فى فهم الحجاب فهو كلام متقدم حتى على كثير من مشايخ هذا الزمان. رابعًا: أما أن نفسى سولت لى ظلم شيخ الأزهر الحالي، فحشرته فى زمرة التنويريين الداعين إلى مدنية الدولة بمعنى علمانيتها، فهذا كلام رخيص، لا يليق بأن يكتبه وكيل الأزهر الشريف ، ومع ذلك فالدكتور أحمد الطيب يؤكد أنه ليس فى الإسلام سلطة دينية، وأن الأزهر ليس له على المسلمين سوى سلطة الموعظة، وإبداء رأى هو اجتهاد علماء فى النهاية، يمكن أن يحتمل الصواب والخطأ. ولن ينكر عليّ شيخ الأزهر نسبته إلى أنصار الدولة المدنية، ذلك لأن الإسلام نفسه يؤكد معنى الدولة المدنية القائمة على مبادئ الشريعة الإسلامية التى لا يمكن أن تعادى العقل السليم الذى هو حجة الله علينا ، وذلك ما لا تنكره الماتريدية الأشعرية التى هى أقرب الاتجاهات إلى شيخ الأزهر التنويري، حتى لو كره وكيل الأزهر معناها الذى لم يترو فيه. خامسًا: اتق الله يا وكيل الأزهر فليست مجلات وزارة الثقافة "تسير فى درب الغلو اللاديني"، حتى لو اعترضت على مقال هنا أو هناك ، وليتك تتحلى بآداب أسلافك التى تنسب إلى الإمام مالك قوله : "لو ورد قول عن قائل يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان ولم يحمل على الكفر" فتأدب بآداب أسلافنا الأجلاء يا وكيل الأزهر، ولا تصف خطاب وزارة الثقافة بأنه "خطاب يلغّ فى الغلو اللادينى الذى يستفز الكثيرين فيدفعهم إلى الغلو الدينى الأمر الذي... يضع الألغام على طريق الوسطية الإسلامية التى يعمل الأزهر الشريف على إشاعتها".. إن هذا اتهام جائر يرتد على صاحبه الذى ينسى وسطية الإسلام وسماحة خطابه الديني. والحق يا وكيل الأزهر أن المعتمد فى خطاب مجلات وزارة الثقافة هو خطاب الإسلام المستنير الوسطى المعتدل ، لكن مع احترام الاختلاف وتأكيد حق الاجتهاد الحر، وفوق ذلك كله احترام كل نصوص الدستور الخاصة بحرية الرأى والاعتقاد والتفكير والإبداع ، ولا تنس يا وكيل الأزهر أن وزارة الثقافة شأنها شأن كل الوزارات ومؤسسات الدولة بما فيها الأزهر تخضع للدستور والقانون. سادسًا: فصل الدين عن الدولة ليس معناه كفر الدولة أو تحكم العلمانيين الكفار فيها ، وقد تحدث جمال الدين الأفغانى وتلميذه الإمام محمد عبده عن ضرورة الفصل بين السلطة الروحية (الدينية) والسلطة المدنية ، ولا يعنى ذلك سوى الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، والنص الوارد فى المادة الثانية من الدستور بأن "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع" لا ينفى صفة المدنية عن الدولة، وإنما يؤكدها من خلال النص على المبادئ الأساسية للشريعة، وهى مبادئ كلية مقبولة من جميع المواطنين: أقباطا ومسلمين ، ذكورا وإناثا ، وأخيرا هى مبادئ تحترم العقل ، وتصل المنقول بالمعقول ، وتؤكد معانى التجدد والاجتهاد المتغير بتغير الأزمنة وتحول المجتمعات . سابعًا: يبقى أن أؤكد بأن الدساتير الحديثة تقوم على فصل الدين عن الدولة، وإلا أصبحنا فى دولة دينية، وهو أمر يجلب من الدمار ما تعد أفغانستان مثالا عليه ، لذلك فوزارة الثقافة شأنها شأن مؤسسة الأزهر نفسه، تخضع لأحكام الدستور المدنى ومواده التى تنص فى الديباجة على أن الحكم مدني، وليس لهذا معنى سوى الفصل بين الدين والدولة فى كل مجالات الحياة، ابتداء من نظام الحكم، مرورا بسلطة الدستور والقوانين، والفصل بين السلطات وحقوق المواطنة، وتجريم التمييز بين المواطنين على أساس من الجنس أو الدين أو المذهب أو الطائفة. وأخيرا: لا يبقى سوى أن أؤكد ما تعلمته من شيخ الأزهر من رحابة صدر وسعة أفق واحترام للاختلاف، فالاختلاف فى الرأى لازمة من لوازم فتح أبواب الاجتهاد ، والحقيقة التى يؤكدها شيخ الأزهر نفسه أن الأزهر ليس سلطة دينية، وأنه لا يمنع أحدا من الاجتهاد فى شئون الدين ما دامت توافرت له شروط الاجتهاد. ومن علماء الأزهر نفسه من خالف أقرانه فى الاجتهاد، وكسر قاعدة التقليد، ابتداء من شيخ الأزهر العظيم محمد عبده، وصولا إلى المرحوم عبد الصبور شاهين، وليس انتهاء بالدكتور سعد الدين الهلالى الذى كتب عن فقه المستحدثات التى لم يرد فيها نص قرآنى أو حديث شريف أو سنة مطهرة. ومن المؤكد أن مشيخة الأزهر مؤسسة دينية وظيفتها الدعوة، ولها على المسلمين النصح والتوجيه ونصيحتها كتوجيهها قائمة على اجتهاد من علماء، هم بشر يصيبون ويخطئون ، ولذلك واجب على الأزهر أن يفتح باب الاجتهاد لكل مجتهد برحابة صدر، عملا بمبدأ: "رأيى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب" ، ففى هذا ما يجعل من الأزهر منارة للتنوير. إن جموع المثقفين ترى فى الأزهر حصنا أمينا للإسلام الوسطى المستنير، لذلك فهى تقف معه فى خندق واحد ضد الإرهاب الإخوانى وأى شكل من أشكال التطرف الديني، فلا داعى للجاج ومحاولة الوقيعة بين المثقفين وشيخ الأزهر الذى هو منهم، وفى طليعتهم الوطنية. تحية للأزهر ، وشيخه الجليل ، وعلمائه الذين يحسنون الظن بغيرهم من المسلمين، ويعرفون من أدب الحوار والاختلاف ما يجعلهم قدوة لغيرهم ، وسلام الله على العقلاء والمجتهدين غير المتبعين. .. ولن أعاود فتح هذا الباب الذى لا طائل من ورائه.