كشفت أحداث بالتيمور الأخيرة عن الوجه الآخر لأمريكا كرمز للحرية والديمقراطية والعدالة, وعن وجود ثقوب فى الثوب الأمريكى ترتبط بشكل مباشر بوضع الأمريكيين ذوى البشرة السوداء من الأصول الإفريقية، والذين يواجهون تحديات متزايدة انعكست فى المواجهة المتكررة بينهم وبين الشرطة, والتى كان آخرها مقتل الشاب الأمريكى برصاص الشرطة فى مدينة بالتيمور بولاية ميرلاند, وفجر موجة عنف واحتجاجات واسعة, وأعطى الانطباع باستهداف واضطهاد الأمريكيين السود. والواقع أن مسيرة النضال الكبيرة التى خاضها الأمريكيون السود فى سبيل نيل حقوقهم القانونية والسياسية والاقتصادية لم تنته بعد, برغم مرور أكثر من مائة وخمسين عاما على قانون تحرير العبيد الذى أعلنه الرئيس الأمريكي الأسبق أبراهام لينكولن، وأكثر من خمسين عاما على الحركة الاحتجاجية الشهيرة التى قادها القس الأسود مارتن لوثر كينج ضد التفرقة العنصرية بحق أصحاب البشرة السوداء، وأدت لمكتسبات مهمة على المستوى القانونى والدستورى بإلغاء العبودية ثم حق التصويت فى الانتخابات عام 1965, ثم توج بفوز أوباما أول رئيس أمريكى من أصول إفريقية لمنصب رئيس الولاياتالمتحدة, وهو ما يعكس أنه من الناحية القانونية والدستورية يحظى جميع الأمريكيين بحقوق كاملة ومتساوية أمام القانون, بغض النظر عن أصولهم العرقية أو الدينية أو لون البشرة فى إطار مبدأ المواطنة, لكن التحدى الكبير الذى يواجهه ذوو البشرة السوداء، ويجعل حقوقهم منقوصة حتى الآن, يرتبط بعدة عوامل تتمثل فى: أولا: استمرار وجود شروخ اقتصادية كبيرة بين الأمريكيين البيض والسود, فالأمريكيون ذوو الأصول الإفريقية يحظون بأوضاع اقتصادية أقل بكثير من البيض سواء من ناحية الدخل أو التوظيف والتشغيل, وتدنى الخدمات التى تقطنها التجمعات السكنية للسود مقارنة بتجمعات البيض, وتراجع مستويات المعيشة, كما ترتفع معدلات البطالة بين السود نتيجة لتدنى مستويات التعليم وتزايد حالات التسرب, خاصة أن أغلب الأمريكيين ممن يقعون تحت خط الفقر هم من الأمريكيين السود, إضافة إلى انتشار المخدرات والجرائم, لدرجة أن ثلثى المسجونين فى السجون الأمريكية هم من الأمريكيين السود. ثانيا: الفجوة المجتمعية بين البيض والسود, وهو ما أوجد حالة من تدنى النظرة والصورة الاجتماعية الأقل من جانب البيض لذوى البشرة السوداء وهى لا تعكس نمطا اجتماعيا ممنهجا فى التمييز, كما أنه لا يمكن وصفها بحالات فردية مع تكرار حالات استهداف السود من جانب الشرطة الأمريكية وأزمة الثقة المتزايدة بين الجانبين, والتى كرستها الحالات المتعددة لتعديات وتجاوزات الشرطة ضد السود فى العديد من المدن الأمريكية خلال السنوات الأخيرة, وإفلات كثير من الضباط من العقاب أو صدور أحكام مخففة ضد بعضهم بما لا يتناسب مع حجم تلك التجاوزات, وهذا يرتبط أيضا بوجود ثغرات فى نظام العدالة الأمريكية, وعدم وجود أحكام رادعة لمنع تكرار تلك السلوكيات, وضبط سلوك الشرطة فى تعاملها مع المواطنين خاصة ذوى البشرة السوداء. ثالثا: برغم أن الأمريكيين السود يشكلون ما نسبته 12% من سكان الولاياتالمتحدة, وتمكن عدد كبير منهم من تبوؤ وظائف مهمة فى مختلف المجالات, إلا أن أوضاعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية ما زالت متدنية, سواء من حجم الوظائف القيادية السياسية والاقتصادية والأمنية والعلمية التى يتولونها, برغم إسهامهم الواضح فى المجتمع الأمريكى, وهنا يقع عبء كبير على الأمريكيين السود فى زيادة الانخراط فى المجتمع والاهتمام بالتعليم لتحقيق الحراك الاجتماعى الذى يمكنهم من تحسين أوضاعهم. رابعا: إن تحول الاحتجاجات السلمية من جانب الأمريكيين السود ردا على تجاوزات الشرطة وتحولها إلى أعمال عنف وشغب والهجوم على الممتلكات, واستخدام الشرطة للقوة المفرطة, يعكس أزمة الثقة والمصداقية من جانب الأمريكيين السود فى مدى تجاوب السلطات الأمريكية لمطالبهم, خاصة مع تكرار الأزمات والتجاوزات، ولم تتخذ الحكومات الفيدرالية أو المحلية خطوات جادة لمنع الاعتداء على السود أو النهوض بأوضاعهم المجتمعية والاقتصادية, وهو ما يضع علامات استفهام حول الخطاب الأمريكى العام الذى يتحدث عن الحرية والمساواة فى الحقوق بين الجميع, ويعكس فجوة كبيرة مع الواقع الذى يعيشه الأمريكيون السود, كما أن الأحداث الأمريكية تفقد المصداقية فى الخطاب الأمريكى الخارجى الداعم للثورات والمطالب بإجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية فى الكثير من دول العالم ومنها الدول العربية, كما أنه يعكس الازدواجية فى التعامل مع قضية حقوق الإنسان فى داخل أمريكا وخارجها فى الدول الأخرى. الوجه الآخر لأمريكا ليس فقط فى تراجع أوضاع ذوى البشرة السوداء, بل هناك تحديات أخرى منها أوضاع ملايين المهاجرين من دول أمريكا اللاتينية والذين يقيمون بصورة غير قانونية، ولا يحظون بإقامات أو الجنسية، وهناك جدل داخل المجتمع الأمريكى, خاصة فى أوقات الانتخابات, حول تقنين أوضاعهم أو ترحيلهم, يضاف إلى ذلك كله سيطرة المجمع الصناعى العسكرى على الثروة والسلطة فى أمريكا, وتزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتهالك البنية الأساسية, وكلها ثقوب فى التجربة الأمريكية وتثير التساؤلات حول قدرتها على استيعاب ومواجهة تلك الثقوب قبل أن يتفاقم الوجه الآخر غير الوردى لأمريكا. لمزيد من مقالات د . أحمد سيد أحمد