لم تعد المساحيق تجدى مع الوجه المشوه للولايات المتحدة أمام العالم، ففى بالتيمور، أكبر مدن ولاية ميريلاند الأمريكية، تكررت نفس الجريمة البشعة التى ما زالت فيرجسون تعانى منها، حيث تعدت الشرطة الأمريكية بشكل سافر على شاب ينحدر من جذور افريقية فى أثناء القبض عليه، مما أسفر عن إصابته بكسر فى العمود الفقرى أدى إلى وفاته، الأمر الذى أشعل النيران الخامدة تحت الرماد مرة أخرى فى العديد من الولايات. وتعود بداية أحداث بالتيمور إلى الثانى عشر من أبريل الماضي، حيث اعتقلت الشرطة الشاب الأسود فريدى جراى - 25 عاما - بتهمة حيازة سكين، وبعد أسبوع من اعتقاله تم إعلان وفاته بسبب إصاباته بكسور فى العمود الفقري، مما استدعى وقف 6 شرطيين من ذوى البشرة البيضاء عن العمل لحين الانتهاء من التحقيق فى الواقعة. وبحسب تسجيل فيديو لعملية اعتقال الشاب الأسود التقطه أحد المارة، بدا شرطيان وهما يثبتان الشاب الأسود على الأرض وهو يصرخ من الألم، ويظهر الفيديو بعد ذلك سيارة للشرطة تنقل جراي، إلا أنها توقفت على الأقل مرتين قبل أن تقوم بنقله، الأولى لكى يقوم الشرطيون بتقييد قدميه، والثانية لإحضار سجين آخر تم فصله عن جراى بحاجز معدنى فى مؤخرة سيارة الشرطة، وحاول جراى كثيرا الاستغاثة، وطلب المساعدة الطبية لكى يستطيع التنفس، لكن الشرطة تجاهلته. ومنذ وفاة جراي، نظم سكان المدينة العديد من التجمعات اليومية المحدودة التى تطالب بكشف ملابسات إصابته، إلى أن اعترفت شرطة بالتيمور فى 24 أبريل بأن عملية إسعاف جراى تأخرت، وبأنه كان يجب أن يحصل على مساعدة طبية فور إصابته بالكسور، الأمر الذى جعل الاحتجاجات تأخذ منحنى سياسياً، حيث نزل الآلاف فى العديد من الولاياتالأمريكية للتظاهر رافعين اللافتات والشعارات المناهضة لممارسات الشرطة ضد السود بصفة عامة، وتنوعت الاحتجاجات بين السلمية وأخرى غاضبة تحولت إلى أعمال عنف، حيث هاجم المتظاهرون الغاضبون الشرطة وقذفوا عناصرها بالحجارة والعصى والزجاجات ومواد أخرى، كما أضرموا النيران فى العديد من المبانى والسيارات بما فى ذلك سيارات الشرطة، فضلا عن نهب وتدمير العشرات من المحال التجارية والصيدليات ومركز تجارى وتحطيم نوافذ سيارات خارج أحد الفنادق. وكان من المقلق للسلطات الأمريكية هو ظهور بعض المحتجين فى شوارع بالتيمور وهم يلوحون بعلم تنظيم داعش الإرهابي، فى محاولة من التنظيم للاستفادة من التوترات العرقية فى البلاد لتجنيد أعضاء جدد، وذلك حسب ما ذكرته صحيفة "إنترناشيونال بيزنس تايمز" البريطانية، هذا بالإضافة إلى إطلاق الداعمين لتنظيم داعش فى مواقع التواصل الاجتماعى حملة لتشجيع متظاهرى بالتيمور على الانضمام إلى التنظيم المسلح الذى لا يعرف العنصرية أو التفرقة، بناء على لون البشرة. ونشر القائمون على الترويج للتنظيم المسلح صورا من داخل دولة الخلافة المزعومة لمقاتلين سود إلى جانب زملائهم بيض البشرة، مشيرين إلى المساواة بين الأجناس تحت ظل داعش. واستخدم داعمو التنظيم موقع "تويتر" لنشر صور لقتلى ادعوا أنهم ذهبوا ضحايا لعمليات القصف الجوى التى تقودها أمريكا ضد معاقل داعش فى كل من سوريا وشمال العراق، متهمين الحكومة الأمريكية بارتكاب الجرائم داخل وخارج الولاياتالمتحدة. ولم يكتفوا بذلك بل قدموا العديد من النصائح للمتظاهرين عن كيفية صناعة قنابل المولوتوف. وأمام اتساع نطاق الشغب وظهور تنظيم داعش فى الصورة, كان رد فعل السلطات الأمريكية حازماً، حيث استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع ورذاذ الفلفل لتفريق المتظاهرين، وألقت القبض على مئات المحتجين، وفرضت حالة الطواريء، وحظر تجول فى أنحاء المدينة، كما تم إغلاق مدارس بالتيمور وأغلقت الشركات وتوقفت محطات القطارات، وصارت الأحداث مادة لسخرية دول العالم التى لطالما اكتوت بنيران البيانات الأمريكية التى تدخلت فى شئونها فى أحداث مشابهة. وتعتبر مدينة بالتيمور التى تصدرت عناوين الصحف العالمية بعد مقتل جراى سادس أكبر مدينة فى الولاياتالمتحدة التى تقع فى ولاية ميريلاند، ورابع أكبر مدن الساحل الشرقى للولايات المتحدة بعد مدينة نيويورك وفلادلفيا وجاكسونفيل، حيث كانت ثانى أكبر ميناء يستقبل المهاجرين فى بداية القرن التاسع عشر، ويبلغ عدد سكانها حوالى 950 ألف نسمة. وكغيرها من العديد من المدن الأمريكية الأخرى، تشهد بالتيمور تآكلا فى قاعدتها الاقتصادية، وذلك يرجع إلى انقسامها إلى جزءين، الأول فقير معدم، والثانى معروف بالميناء المجدد الذى تتباهى به الإدارة الأمريكية وتعتبره واجهة المدينة والذى يسكنه الطبقة الراقية ولا يتعدى السكان فيه ثلث سكان المدينة، مما جعلها تحتل المركز ال12 من ضمن خمسين ولاية أمريكية فى من حيث المساواة فى الفرص، وتتصدر قائمة المدن الفقيرة فى الولاياتالأمريكية، هذا بالإضافة إلى أن أغلب السكان فى أحياء بالتيمور الفقيرة يشعرون بالتخلف عن باقى الأمريكيين بسبب تدنى مستوى الخدمات الأساسية فيها مثل المياه والصرف الصحي، كما أن العديد من المبانى فيها لم يتم ترميمها منذ أحداث الشغب العنيفة التى وقعت فى 1968 عقب اغتيال قائد حركة الحقوق المدنية مارتن لوثر كينج، الأمر الذى جعلها تدور فى حلقة مفرغة من التدنى الاقتصادى مع تراجع فرص العمل وزيادة عدم المساواة فى الدخول بين الأشخاص. أما حى ساندتاون الذى كان يقطنه الشاب الأسود جراى تصل فيه نسبة البطالة إلى 20%، و يعتبر أغلب سكانه من ذوى الدخل البسيط، حيث يبلغ 25 ألف دولار سنويا، مما يؤكد أن حادث مقتل جراى لم يكن سوى سبب ظاهرى فى اندلاع الاحتجاجات، حيث أدت الظروف الاقتصادية السيئة المتمثلة فى تدنى فرص العمل والعيش الكريم للمواطنين فيها هى الأسباب الحقيقية التى أشعلت النيران الخامدة تحت الرماد منذ فترة طويلة. وتعتبر قضية العنصرية و عدم المساواة التى يعانى منها المجتمع الأمريكى من ابرز القضايا التى تشغل بال كل من الديمقراطيين والجمهوريين قبل بدء الانتخابات الرئاسية فى 2016 حيث تعتبر معالجتها دربا من دروب الخيال. وكان اكبر دليل على فشل الرئيس الديمقراطى باراك أوباما الذى ينحدر من أصول أفريقية وحزبه فى حل تلك القضية خلال فترتين رئاسيتين ورفض المجتمع لسياسته, هو انقلاب بعض المشاهير الذين كانوا يقفون بجواره فى جميع حملاته الانتخابية عليه، وكانت أولهم نجمة الغناء الأمريكية السمراء بيونسيه التى كانت دائما ما تدعمه وتغنى فى حفلات تنصيبه، حيث أعلنت عبر حسابها الرسمى بموقع إنستجرام عن كامل دعمها لضحايا الفوضى والمعارك الدائرة بين قوات الشرطة والمحتجين فى مدينة بالتيمور. فإلى متى سيظل الشعب الأمريكى يعيش فى وهم المساواة التى تحاول السلطات إقناعه بها، وإلى متى ستظل الولاياتالمتحدة تلقى مواعظها على العالم عن ضرورة احترام حقوق الإنسان، وهى التى تتناسى أن مجتمعها يكره بعضه البعض ولا يستطيع أبناؤه التعايش فى ظل دولة مثالية ذات نسيج واحد. وأحداث بالتيمور أثبتت أن أمريكا بها ظروف سانحة ليس لظهور علم داعش فحسب، وإنما لاندلاع ثورة!