منذ عامين تقريبا أرسلنى الخال عبدالرحمن الأبنودى إلى أبنود. كانت فكرته أن أقوم بتصوير ما تبقى من ذكريات طفولته على أن يكتب هو ديوانا تنشر فيه الأشعار والصور معا. لم يكتمل الحلم للأسف كان قطع طريق القطارات أمرا مألوفا فى هذا الوقت، فسافرت الى الأقصر بالطائرة مع صديقى مجيب رشدى ومنها الى أبنود حيث استقبلنا الشاعر الشاب محمد خليل (أبوه ابن عم أبو الأبنودى) وفتح لنا بيت الضيافة الخاص بمتحف السيرة الهلالية والذى تم تغيير اسمه منذ عشرة أيام ليصبح متحف عبد الرحمن الأبنودى. فى الصباح أخذنى محمد خليل لزيارة القصر وقابلت عددا من السيدات يدن بوظائفهن للأبنودى الذى توسط لبناء وافتتاح المكتبة فى بلده. كان وقع كلمات المديرة على أذنى غريبا بعض الشئ، فهى من أبنود فى عمق أعماق الصعيد الجوانى وحاصلة على «ليسانس آداب فلسفة». كنت أتبع فى سيرى تعليمات الخال عبد الرحمن الأبنودى، وطبقا لخطته ذهبت لزيارة سوق كلاحين أبنود الذى ينعقد يوم الأحد من كل أسبوع، ولكن طبقا لخطة القدر فدائما ما يظهر لك فى الصعيد وفى الدلتا وفى القاهرة شخص مرتاب فى ذلك الغريب الذى يصور بكاميرا حقيقية وعدسات. والعجيب أن ذلك المرتاب لا يظهر أبدا إذا كنت أصور بالتليفون المحمول 24 ميجابيكسل، بعض الناس يبتسم ببساطة ويكبر مخه. أما النسوة فينظرن باستغراب، بعضهن غاضبات والبعض الآخر يبتسمن فى حياء وهن يفكرن إن كانوا سيسمحون بالتصوير أم لا؟ أما المرتاب فاقترب منى وسألنى عمن أكون فسألته بدورى عمن يكون سيادته وناقشنا حقوق الغرباء فى دخول القرية والتصوير، وفى النهاية ولكى أحسم الموقف قلت له: أنا هنا بتكليف من الخال. أنهى خال؟ فيه هنا فى السوق خمسين خال. الأبنودى. (مبتسما بسخرية) الأبنودى مين؟ إحنا هنا كلنا أبنوديين وهنا تدخل محمد خليل لينقذنى وشرح لى أن الجميع هنا بما فيهم هو بنفسه وكذلك الأستاذ المرتاب يحملون لقب «الأبنودى»، ذلك أننا هنا فى أبنود.ابتسمت خجلا من جهلى الواضح وابتسم الرجل ورافقنى فى جولتى ليفتح لى الأبواب المغلقة. أما الخطوة التالية طبقا لخطة الخال (طبعا إنتم عارفين عن أى خال أتكلم) فكانت الذهاب للنجع الذى ولد هو فيه، والنجع لمن لا يعلم هو كلمة صعيدية أقرب ترجمة لها هى كلمة «الحارة». المنزل متهدم تماما ولا يسكنه أحد وبجانبه فرن وعجوز وخروف ورجلان. عرفنى الأول بإسمه «براهيم (وهذه ليست غلطة إملائية) حسين موسى محمد مسعد أبو ترس من نجع التروسه وإبن عم عبد الرحمن الأبنودى»، واكتفى زميله بقوله «جابر على زايد من نجع التروسه وابن عمنا عبد الرحمن الأبنودى». ولما سألته عما إذا كانوا جميعا أولاد عمه قال بدهشة «طبعا، ما كل المنطقة دى أولاد عم». وأضاف أن هذه هى بلد عبد الرحمن لأنه من نجع التروسة تحديدا وليس من أبنود كما يشاع. ذهبنا لتصوير الوابور، مطحن الغلال الذى كان يعمل فيه جد عبد الرحمن الأبنودى، وهو مبنى عجيب بداخله جهاز عملاق قديم صدئ وتغلفه خيوط العنكبوت. جاء أحد ملاك الوابور شاب يبدو عليه مظاهر الثقافة والعز ورحب بى وفتح الباب وسمح بالتصوير مرحبا. سألته لماذا تحتفظ عائلته بتلك الخردة التى تصلح لأن تعرض فى متحف، فهز كتفيه وقال: «يعنى». جاءت معه طفلته مرتدية فستانا جميلا والتقطت لها صورة مع الوابور. فى اليوم التالى وطبقا للخطة ذهبت لسوق البهائم. واحد من آثار أبنود الموجودة منذ بداية الزمن. السوق تمتلئ بالفلاحين وأصحاب البهائم الذين حضروا لبيعها ويمتلئ كذلك بمن أتوا لمقابلة معارفهم وبباعة مستلزمات البهائم من حبال وحدادة وغيرها، وخيمة تبيع الشاى وتجرى فيها الإتفاقيات مع كوب قهوة ، وطبعا بياع الفول والطعمية مع بعض المزارعين يبيعون منتجاتهم حيث أن سوق القرية لن ينعقد إلا بعد أسبوع. قبض على الموظفين أثناء بحثى عن نقطة مرتفعة ألتقط منها صورة للسوق، وطلبوا منى الخروج، وذلك بعد أن قضيت ثلاث ساعات كاملة ألتقط الصور وأشرب الشاى وأتحدث مع الفلاحين. رفضوا تماما أن ألتقط أية صور، فخرجت وتشعبطت على سيارات نقل البهائم لألتقط صورة «توتاله» للسوق وعندما ذهبت للإسماعيلية بعدها لمقابلة الخال أخبرنى أن السوق تعرض لسطو مسلح فى الأسبوع الماضى. وبينما كنت معه فى الإسماعيلية طلبه الأستاذ هيكل، وكان ذلك يوم 23 يوليو عام 2013 ودار بينهما حوار ثمين استهله هيكل بعبارة رثاء حزينة قال فيها: «مالقيتش حد أعيد عليه فى عيد الثورة غيرك» بعدها أرسلنى لتصوير أنوال النسيج. يقع النول فى منزل على مسافة مئة متر شمال المتحف وعشرين مترا جنوب الوابور. فتحت سيدة الباب ودعتنى للدخول. كان المنزل مظلما للغاية فى عز الظهر، إنتظرت بضع دقائق حتى اعتادت عيناى الظلمة واستطعت ملاحظة بقعة فى نهاية الصالة تقل فيها الظلمة ويجلس رجل فى حفرة فى الأرض وفوقه نول نسيج وذلك بدلا من النول العالى والنساج الجالس على مقعد. كان الرجل عجوزا ومستسلما للغاية. لم يبد أى فضول أو أى نوع من المقاومة كالأستاذ المرتاب فى السوق. قال المستسلم أن أسمه سعيد ذكرى وأنه يعمل على نول مفارش، وأنه جالس فى بوره للنول (الحفرة) وفيها الدواويس (الدواسات) اللى بيشتفل عليها. أخبرنى المستسلم أن الرجل التانى اللى جاعد هناك (والذى لم أكن لاحظته) هو محارب (إسمه محارب). إبتسم محارب محييا وأدار بكرة الخيط الجالس بجوارها والتى تشبه البكرة التى كانت تعمل عليها ساحرة سندريللا. سألت سعيد ذكرى إن كان هناك أى أنواع أنوال أحدث من ذلك الذى يعمل عليه، فنفى ذلك نفيا قاطعا، سألته أين أجد نولا آخر يشبه نوله؟، فحاول أن يضللنى ويخبرنى أنه مافيش غيره ولكنه كان مسكينا لدرجة أنه لا يقوى على المراوغة، فقال أن هناك ثلاثة أنوال فقط. النول بتاعه والنول بتاع إبن خاله ونول ثالث ما خابرش إسمه. وكما هى عجلة الحياة فقد توفى سعيد بعدها بفترة. يقول محمد خليل عن الأبنودى إبن عمه أنه بسيط يحب البسطاء، وكان حنونا لا تشعر أبدا أنه مشهور فى جميع قارات الأرض، كان عند حضوره، يقعد مع الناس على الدكة ليسأل عمن غاب وعمن حضر. أرسلنى الخال بعد ذلك إلى إسحاق فى جراجوس. كان إسحاق شابا فى بداية العقد الخامس من عمره. سألته: لماذا أرسلنى إليك الخال؟ فقال إن والده الفنان التشكيلى يوسف فهمى كان صديقا حميما للأبنودى. وأنه عند وفاته ترك صندوقا مغلقا عليه اسم وتليفون وعنوان الأبنودى فى المهندسين. وعندما كنت فى رحلة بالقاهرة اتصلت به (وكان لا يعرفنى) وأحضرت له الصندوق فقام وبيديه وبنفسه حمل صينية الشاى وقدم لى كوبا. لم أصدق أن شاعرا شهيرا كالأبنودى يقوم بنفسه ويحضر لى كوبا من الشاى. ولم يكن يعرف بوفاة والدى. مرت الأيام وأتى لزيارتنا فى جراجوس عدة مرات ومعه زوجته وبناته وكان حريصا على زيارة الأماكن السياحية والأثرية مع عائلته ومع عائلتى أحيانا وكنا أهلا. إلى أن أتى يوم فى عام 2005 ووصلت شكوى كيدية ضد رئيسى فى العمل فى التموين، ولكن رئيسى أبلغ ضدى وذهبنا جميعا للنيابة. كان الموضوع كله على 50 قرشا. اتصلت زوجتى بالخال وقام فورا بتوكيل نقيب محامين قنا الأستاذ محمد رشاد الخطيب الذى أرسل كل محامين مكتبه وعددهم خمسة لحضور التحقيقات، وكان هو ومدام نهال يتصلان يوميا للإطمئنان على أولادى، ومطمئنا زوجتى مخبرا إياها أنه هو أيضا دخل السجن وأن كل العظماء قد مروا بتلك التجربة، إلى أن انتهى الأمر ببراءتى تماما ولم يتم توجيه أية اتهامات لى. ذهبت بعدها مع ابن عمه الحبيب «الصغير» (اسمه كده) لبعض الكفور المجاورة، وعندما إتصلت بالصغير منذ يومين وجدت أنه هو الأخر قد رحل منذ فترة قصيرة فى أزمة صحية مفاجئة. أما آخر محطات خطة سير الأبنودى وربما أهمها فهى مقبرة أمل دنقل. فى كل مرة جاء فيها لأبنود كان يأتى لزيارة هذه المقبرة، ودائما ما كان يحكى كيف مات أمل صديقه على صدره، وكيف أنه لم يذهب بعد ذلك أبدا إلى المكان الذى مات فيه، ودائما ما ترقرقت الدموع فى عينيه وهو يحادث صديقه وليذكره كيف جابوا الأرض سويا. مكتوب على المقبرة «كل نفس ذائقة الموت ... هذا قبر المغفور له أمل دنقل. توفى يوم السبت الموافق 21/5 /1983». وهكذا تحققت حرفيا كلمات نبوة عبد الرحمن الأبنودى لابنتيه واللائى بلا شك قد يحفظنها من كثرة ما رددتها الصحافة « إلى طفلتى آية ونور.. لتعرفا أن لهما قرية وهبتنى ما لم تهبه قرية لابن، وأهلا حشوا صدرى بكلماتهم التى جعلت منى شيئا.. لقد تغير الزمن، أخشى إذا كبرتا وذهبتا إلى أبنود ألا تجدا شيئاً مما كتبت.. سيكون كل من عاشرتهم رحلوا مثلى، بعد أن تغيرت البيوت والدروب والقيم».