عقب انقلاب السفينة المحملة بشحنة من الفوسفات تبلغ 500 طن فى مياه النيل قرب قنا، ثارت حالة من الجدل والنقاش حول الحادث، ولم يتنبه أحد إلى ما كشف عنه من فوضى مستمرة فى قطاع النقل النهري، الذى يلقى فى النيل بسائر أنواع الملوثات، فى غياب رقابة فعلية، وخطة طواريء فعالة، ونظام للإنذار المبكر، إذ كان الجدل كله يدور حول نقطة: هل الفوسفات خطر أم لا؟ وكما تقول الحكاية: ذهب شخص إلى مطعم، ولما أراد أن ينبه الجرسون إلى أن أصبعه فى طبق الحساء، قال له الجرسون: «لا تخف.. الحساء بارد»! وبرغم أنها طرفة.. فإنها تمثل -لدينا- نمطا فى التفكير، ورؤية للأمور، من زاوية خاطئة، وبالتالى يكون القرار خاطئاً، والمعالجة خاطئة! وتكشف الزاوية الصحيحة لرؤية حادثة الفوسفات مدى الكوارث التى يتعرض لها النيل سنويا، والجرائم المتحركة التى تعوم على سطحه قبل أن تغرق فيه، لذا كان لابد أن ينعقد المجلس الأعلى للنيل الذى لم يجتمع منذ تشكيله حتى الآن، أو يجتمع مجلس المحافظين بالمحافظات المطلة على النيل مع كبار المسئولين لطرح الأوضاع الحرجة للنيل على مائدة الحوار، والخروج بخطة إنقاذ عاجلة وأخرى آجلة، لإنقاذ المصدر الوحيد للشرب والري.. لكن شيئا من هذا لم يحدث باعتبار أن الفوسفات غير خطر.. أى أن «طبق الحساء كان باردا!» ويشير تقرير فنى -على درجة كبيرة من الأهمية- أعده القبطان محمود إسماعيل خبير البيئة البحرية، إلى طيف من المخاطر التى تهدد سلامة النهر، ومنها: وجود 42 ميناء نهريا بطول النهر علاوة على 10 مراس نهرية منها مراسى لتحميل وتفريغ المواد البترولية (بنزين- سولار- مازوت)، كما يتم نقل نحو 800 ألف طن من مشتقات البترول سنوياً عبر النهر، ويوجد 108 مراس سياحية نهرية، منها 50 بالقاهرة، و 40 مرسى بالأقصر، و40 بأسوان. إضافة إلى وجود 927 صندلا تجاريا، ونحو 354 سفينة سياحية منها نحو 280 سفينة تعمل بين الأقصر وأسوان، و 1600 وحدة نهرية لنقل الركاب. كما أنه من المقرر قيام وزارة النقل بإنشاء 5 موانيء نهرية جديدة، والتوسع فى حركة النقل النهري، وزيادة أعداد سفن نقل البضائع العاملة بنهر النيل، مما يهدد بأن تزداد مخاطر التلوث الناجم عن منظومة النقل النهري. أما خطوط البترول العابرة للنهر فهى مشكلة أخري، إذ يقول القبطان محمود إسماعيل: يخترق نهر النيل خطى أنابيب قطر 180 سم بمنطقة التبين جنوب حلوان تابعين للشركة العربية لأنابيب البترول «سوميد» يتم خلالهما نقل 117 مليون طن زيت خام من العين السخنة، وحتى سيدى كرير، إذ تصل قدرة ضخ الزيت بالخط إلى 9 آلاف طن فى الساعة، وأى كسر فى خطوط سوميد سوف ينتج عنه كارثة بيئية، وبالفعل حدث خلال أكتوبر عام 1999 كسر بخط سوميد بمحطة تخفيف الضغط بالتبين نتج عنه تسرب نحو 1200 طن من الزيت الخام دمرت نحو 10 أفدنة من الأراضى الزراعية المحيطة، على مقربة من النيل . كما أن شبكة خطوط الأنابيب التابعة لشركة أنابيب البترول المصرية تصل لنحو 14 ألف كم منتشرة بربوع مصر لتوصيل المواد البترولية إلى مناطق التوزيع والاستهلاك، وتعبر نهر النيل بمناطق: التبين وأسيوط وبنى سويف والكريمات وشبرا الخيمة وشمال بنها وشرق المحلة (فرع دمياط) وغرب طنطا وكفر الزيات. والواقع أن التلوث بالبترول ليس هو الخطر الوحيد.. إذ تعبر صفحة النيل سنويا آلاف الأطنان من المواد الصناعية والخطرة، وتُلقى فيه آلاف الأطنان من القمامة وردم المباني، كما يستقبل -عبر المصارف- ملايين الأمتار المكعبة من الصرف الصحى الخام دون معالجة، فضلا عن روث الحيوانات، والجثث النافقة، بالإضافة إلى الصرف الصناعي. والأمر هكذا، يطالب الخبراء بتشكيل لجنة فنية عليا تضم المتخصصين من وزارات البيئة والبترول والموارد المائية والرى والنقل (النقل النهري)، والمعاهد العلمية المتخصصة، لإعداد الضوابط والاشتراطات البيئية اللازمة، للحد من حوادث تلوث نهر النيل، وروافده بالزيت والمواد الخطرة الأخرى والناجمة عن أعمال النقل النهري، مع تقويم موقف نظم ومنشآت استقبال المخلفات من السفن النهرية، وتحديد الاحتياجات لاستكمالها طبقاً لكثافة أعمال النقل النهري كما أن تتابع الحوادث يقتضى وضع خطة طوارئ وطنية لمواجهة حوادث التلوث بالزيت والمواد المضرة الأخرى بنهر النيل وروافده، بحيث تشمل تقويما كاملا للمخاطر المحتملة بالنهر، وتحديد المعدات المناسبة، وتوزيعها طبقاً لحجم المخاطر، مع مراجعة أساليب المواجهة، والاحتواء، واسترجاع المواد البترولية المنسكبة، وتحديد دور ومسئوليات الجهات المشاركة فى الخطة، واستكمال قواعد البيانات المتكاملة عن المناطق المهددة الحساسة بيئيا مثل مآخذ محطات تنقية مياه الشرب، ومآخذ المياه لأغراض تبريد محطات توليد القوى الكهربية ، ومناطق الثروة السمكية، وضفاف الفنادق والقرى السياحية، وغيرها.