عندما ترك عبدالرحمن الأبنودي بلدته أبنود وجاء للقاهرة بعد إذاعة أول أغنية له عام 1962 بعنوان " أنجد قطنك من الدودة" غناء المطربة الشعبية فاطمة علي، وتلحين عبدالحليم علي، كان يري أن عواطف الأغنية المصرية متخلفة جدا، وعلاقاتها العاطفية غير متكافئة ومتدنية بشكل أو بأخر، كان يرى أن الحب ليس بالضرورة أن يكون " ذل ومهانة وبهدلة"، ولذلك قرر بينه وبين نفسه، إذا دخل هذا المجال بقوة أن يحدث طفرة في الأغنية المصرية. كانت الأغنية فى عام 1962 وكما يقول الباحث الموسيقى الدكتور نبيل حنفي محمود قد شهدت مع ثورة يوليو عديدا من التحولات حيث علا صوت الوطنيات الغنائية على ما عداها من قوالب غنائية، لم يكن معظم تلك الوطنيات التى انقسمت إلى قسمين رئيسيين يتغنى أحدهما بالإنجازات، ويهزج الآخر بمدح الزعيم، تختلف كثيرا عما عداها من قوالب، فقد كان شعراء ما قبل الثورة هم أنفسهم من صاغوا أغنيات الثورة، فجاءت الكثرة الغالبة من وطنيات ذلك العهد فى صورة نداءات حماسية، وهتافات باسم الوطن ومعالمه وناسه، ولم تذهب هذه الغنائيات إلى الشعب القابع فى القرى والكفور لتأخذ منه مفرداتها وخطابها، حتى جاء عبدالرحمن الأبنودي وقدم عام 1964 الأغنية "الصدمة"!، "تحت السجر يا وهيبة" تلحين عبدالعظيم عبدالحق والتى كانت أول أغنية يعرفها الجمهور المصري للخال بعد أن قدم مجموعة قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة من الأغنيات والصور الغنائية لفاطمة علي، وعبدالعزيز محمود، وعصمت عبدالعليم، وسيد إسماعيل. وعن ظروف أغنية " تحت السجر يا وهيبة" يقول الخال : بعد نجاح بعض أغنياتي القليلة الأولى للإذاعة استدعاني الإذاعي الراحل العظيم محمد حسن الشجاعي وقال لي: يا عبدالرحمن أنت فين وليه بطلت تكتب اغنيات"، فقلت له: " لأننى شاعر، وحلمي كتابة الشعر وليس كتابة الأغنية"! وفى هذه الفترة كنت انتهيت من كتابة أغنية " تحت السجر يا وهيبة"، لكن نظرا لغرابة مفرداتها وعدم تداولها، توقعت عدم غنائها، فقلت للشجاعي أنا من فترة كتبت أغنية وقبل ابتعادي عن هذا المجال أتمنى تتغنى، فقال اسمعني، وبعداستماعه للأغنية قال لي : " والكلام ده مين يقدر يغنيه يا ابني" فقلت له : " مطرب اسمه محمد رشدي اللي غني " قولوا لمأذون البلد"، فقال لي: " لكنه اعتزل الغناء بعد الحادثة التى تعرض لها هو والمطربة الراحلة نادية فهمي"، وسألني ومن يقوم بتلحين هذا الكلام فقلت له الفنان عبدالعظيم عبدالحق لأنه صعيدي مثلي ويستطيع أن يتعامل مع هذه الكلمات بطريقة ر ائعة. وبدأ الأبنودي يبحث عن محمد رشدي، وبعد أسابيع من البحث، وجده جالسا على مقهى فى أول شارع محمد علي، وعندما عرض عليه الخال الأغنية رفض أن يعود للغناء مرة ثانية، وصمم أن دوره في الغناء قد انتهى بعد إصابته لكن الأبنودي واصل إصراره، وبعد طول تفكير وافق رشدي على العودة للغناء، وعندما دخل إستديو الإذاعة تأثر جدا وبكى وبدأ يغنى كلمات الأغنية التى تميزت بصور جديدة وجميلة لم تتطرق إليها الأغنية من قبل، مع إطار لحني جميل يتناسب مع الكلمات، لهذا ما إن اذيعت حتى تناقلتها كل الحناجر، وحققت نجاحا كاسحا في كل البيوت المصرية. وبعد النجاح الساحق لأغنية " تحت السجر" قرر الثلاثي " الأبنودي ورشدي وعبدالحق" معاودة التجربة مرة أخرى، لكنهم كانوا يريدون أن تحقق الأغنية الثانية لهم نفس نجاح " وهيبة"، وفى أحد الأيام كان الخال يجلس عند عبدالحق واحضرت له الشاي بنت صغيرة كانت تعمل فى منزله فسألها الأبنودي : " إسمك أيه" فقالت له البنت بخجل : " عدوية"، فقال لها إسمك حلو قوي والله لأ أكتب لك أغنية مخصوص وبالفعل كتب أغنية " عدوية" وعندما قرأعبدالعظيم عبدالحق الكلمات أعجبته بشدة، وقرر أن يلحنها، وبقيت عنده فترة طويلة، ولكنه لم ينته من وضع ألحانها، وبعد شهر اتصل بالأبنودي وقال له: " تعالى خد الأغنية بتاعتك لأنى مش عارف ألحنها"! فقال له الأبنودي: ليه ما كانت عجباك جدا فقال له: كل ما أجي أعمل اللحن أفتكر أن عدوية دى هي البنت الغلبانة دى اللي في المطبخ؟ فمقدرش أصدق الكلام الحلو اللي انت كاتبه عن عدوية، بصراحة يا عبدالرحمن عدوية دي غير دي، أدى الأغنية لحد ما يكونش شاف عدوية اللي عندي علشان يتعامل مع عدوية اللي في الأغنية. وفى هذه الفترة كان الموسيقار العبقري بليغ حمدي يتصل يوميا بالأبنودي، طالبا أن يتعاونا معا في أغنية، وعندما لم يستطع عبدالحق تلحين "عدوية"، أعطاها الأبنودي لبليغ حمدي، واندهش بليغ بالجرأة والغرابة وطريقة التناول والصور الجديدة، واستطاع أن يوظف كل هذا الصور في لحن من أجمل ألحانه الشعبية، وما إن إذيعت الأغنية حتى " كسرت الدنيا" ولفتت انتباه عبدالحليم حافظ الذى طلب التعاون مع الأبنودي، فقدم له أغنية " أنا كل ما أقول التوبة" التى لحنها بليغ حمدي، ووزعها على إسماعيل، لكن توزيع علي إسماعيل للأغنية كان " مودرن جدا" وسابق عصره، فلم تحقق الأغنية أي نجاح، وقوبلت بالهجوم الشديد، مما جعل العلاقة بين الأبنودي وعبدالحليم تتوتر خاصة بعد نقد الأبنودي لطريقة تلحين وتوزيع الأغنية، وهذا النقد جعل عبدالحليم يتوقف عن التعامل معه عاطفيا، فلم يكتب له الخال إلا أغنيتي " أحضان الحبايب" و" الهوى هوايا"، لكنه لم يستطع الابتعاد عن التعاون معه وطنيا فجدد الأبنودى دماء عبدالحليم فغني له العديد من الأغنيات الوطنية أهمها " عدى النهار، المسيح، أحلف بسماها وبترابها، ابنك بيقولك يا بطل، أضرب، ولا يهمك يا ريس من الأمريكان، وغيرها من أغنياتهما الوطنية التى كان آخرها " صباح الخير يا سينا".