ثمة بعد تاريخى غائب عن تلك المقالات التحليلية والتعليقات الصحافية المصابة بالصدمة جراء حوار الرئيس الأمريكى باراك أوباما مع الصحافى والكاتب توماس فريدمان حول تصورات الولاياتالمتحدة لمستقبل شرق أوسطى يتأسس، فى جانب منه،على فكرة الصراع السنى الشيعي. الصدمة هنا ترتبط بإذاعة مثل هذا الخطاب عبر أعلى التعبيرات الرئاسية وأكثرها جزما ووضوحا،حيث يتم الحديث عن فسطاطى العالم الإسلامي، ربما للمرة الأولى ، تحت لافته القسمة المذهبية. صدمة المحللين هنا ربما جهلت أو تجاهلت تقارير الأمن القومى الأمريكى التى كانت تصدر تباعا منذ عام 1993. فتلك الصورة التى تتشكل الآن تحدث عنها بوضوح واحد من هذه التقارير ضمن كتاب «زيبجينو برجينسكى» «لعبة الشطرنج الضخمة» عام 1997 أى قبل أكثر من ثمانية عشر عاما من الآن..يقول التقرير:«إنه ليس ثمة مصلحة فى استمرار العداوة الأمريكيةالإيرانية ويجب أن تؤسس مصالحة تتم فى النهاية على أساس الاعتراف بالمصالح الإستراتيجية المشتركة لدعم الاستقرار فى المنطقة المحيطة بإيران.. ومن مصلحة الولاياتالمتحدة أن تكون هناك إيران قوية..»!! هذا التصور جاء ضمن ترتيبات الحلف الأمنى المزمع تشكيله من مجموعة الدول «الأوراسية» التى تضم الفاعلين فى أوقيانوس آسيا وأوروبا فى إطار انسحاب أمريكى من قيادة العالم مقدر له نهاية العقد الثانى من ألفيتنا الراهنة. التصورات الأمريكية تنطلق من أن الولاياتالمتحدة هى آخر قوة على وجه الأرض يمكنها أن تقود العالم بشكل منفرد لذلك لابد من توزيع قيادة العالم ضمن اعتبارات القوة، وثمة رؤية أمريكية لآسيا تقول إنها تمثل الساحة المركزية للعالم والتحكم فيها يعنى التحكم فى أفريقيا بطبيعة الحال، فهى بين أكثر ثلاث مناطق فى العالم إنتاجا وتقدما ويعيش فيها ثلاثة أرباع سكان الأرض وتضم معظم ثروات العالم وتنتج حوالى 60 % من إجمالى الناتج العالمى وتملك 75 % من مصادر الطاقة فى العالم .وهنا سيتبدى قبول الولاياتالمتحدة بتراجع ناتجها القومى من إجمالى الناتج العالمى من 50% فى العام 1945 إلى 15 % فى العام 2020 نوعا من القبول الحتمى بعودة الاستقطاب مرة أخري. ومن أجل تفادى عودة أجواء الحرب الباردة رتبت الولاياتالمتحدة ما يسمى بالحلف الأمنى الأوراسى الذى سيتشكل قوامة من معظم الفاعلين الآسيويين بالاشتراك مع الاتحاد الأوروبي. كان لزاما إذن إن تكون إيران واحدة من أقطاب التحالف الأمنى للقارتين. فأوباما يعترف فى حديثه بأن فكرة القضاء على إيران فكرة غير واقعية، وأنه ليس ثمة تصور للمنطقة دون المحور الشيعى، إذ أن الوجود فى المنطقة ليس متصورا دون التحالف معهم. أما ما يحدث الآن فهو أن نتائج هذا التقرير تتحول إلى حقائق تعجز نظرية الأمن القومى العربى عن استيعابها. وهنا ثمة حاجة لأن أستعيد جانبا من مقال كتبته على ذات الصفحة فى إبريل من العام الماضى عن احتفال باذخ أقامه البيت الأبيض ب عيد القومية الإيرانية «عيد النيروز» الذى يمثل قلب الهوية الفارسية. كان السؤال المركزى للمقال يدور حول دلالة الاحتفاء المسرف فى بذخه بذلك العيد وهل يعنى ذلك أن ثمة اتفاقات أبرمت بالفعل لتعضيد التمدد الأمريكى داخل الخارطة «الأوراسية» المتوقعة مقابل تلك الفجوات المصطنعة التى سيتركها الخروج الأمريكى من الخليج العربى بحيث يصبح فضاء جاهزا لاستعادة النفوذ الفارسى/ التركى / والإسرائيلى ثم بسطه على تلك الجغرافية السياسية؟! كانت إجابة السؤال، الذى لم يكمل عامه الأول، حاضرة عبر ذلك الاتفاق الذى أبرمته مجموعة دول (5 + 1) «قبل أقل من أسبوعين، والذى ستتمكن إيران بموجبه من استكمال برنامجها النووى بالإضافة إلى رفع كافة العقوبات الدولية عن كاهلها. الأمر فى أدبيات السياسة لا يمكن أن يعنى إلا أثمانا دُفِعَت وخرائط صِيغَت وقوى جديدة تقرر لها أن تقود المستقبل. فى المقابل يبدو من المؤكد أن التصورات العربية لنظرية الأمن القومى لم تدرج فى حسبانها أن باكستانوتركياوإيران وإسرائيل يمثلون الكتلة الرئيسية لقيادة الترتيبات المستقبلية للشرق الجديد. من هنا يبدو أن أخطر ما استبطنه الخطاب السياسى الخليجى فى ذلك الصراع هو محاولة استنهاض النزعة المذهبية للصراع لدى دول مصنفة ضمن الجامعة الإسلامية السنية فى مواجهة الإمامة الشيعية فى المنطقة. هذه التصورات المكتظة بسوء الفهم للوضع السياسى فى المنطقة تتجاهل حقائق ساطعة على رأسها أن الترويج للصراع باعتباره صراعا مذهبيا لا يمثل أكثر من غطاء مزيف لتمرير وتبرير الصراع العسكري،غير أن المضامين الحقيقية للصراع ترتبط بأطماع توسعية لا علاقة لها بالصراع المذهبي، فهو من ناحية صراع اقتصادى سياسى عسكرى تتعزز عبره مصالح القوة الأمريكية فى الحلف الأمنى الأورو أسيوى، ومن ناحية أخرى ، فإن هذا التحالف يلبى مطامح الشركاء فى تمدد نفوذهم. ففى إيران تتعزز مرة أخرى فكرة الدولة الصفوية عن نفسها باعتبارها سليلة تمدد تاريخى ذى نزعة توسعية منذ الإمبراطورية الفارسية، الأمر نفسه ينطبق على الأتراك الذى يحلمون باستعادة مجد آل عثمان على حساب دويلات عربية ضعيفة ومفككة فى المستقبل القريب، أما باكستان فهى جزء من تحالفات وتوازنات إقليمية صاغت أولوياتها الأطماع الأمريكية مع تولى الجنرال ضياء الحق حكم باكستان فى العام 1977، وهى توجهات من شأنها وضع القوة الهندية الصاعدة تحت ضغوط مستمرة تضمن السيطرة على كتلتها البشرية والسكانية المليارية التى تمثل خطورة بالغة حال انفجارها أو تفككها. من هنا لا تملك الشعوب العربية سوى التساؤل أمام خطاب نخبتها السياسية الذى يتبدى فى تصريحات عرجاء غير مدركة لمقتضيات الترتيبات الإقليمية الجديدة. فخيبة الأمل التى صادفتها التوقعات الخليجية إزاء انضمام تركياوباكستان إلى حملة «عاصفة الحزم» لم تكن صادمة سوى لأصحابها. هذا ربما أجبر الجميع على إعادة النظر فى طبيعة وحجم الدور المصرى باعتباره القوة القادرة على حفظ التوازن النوعى عسكريا وسياسيا فى كافة أرجاء الإقليم. من هنا لا يجب على القيادة السياسية أن تسمح بأن تسدد مصر ثمنا، أى ثمن ، يتجاوز مقتضيات أمنها القومى وأهم تلك المقتضيات عدم الاستجابة لتحويل هذا الصراع إلى صراع مذهبي. لمزيد من مقالات محمود قرنى