بعث إمبراطورية الفرس على أطلال العرب والسنة رائد العابد توزيع الشيعة بالشرق الاوسط هل بدأت مسألة تصدير مبادئ الثورة الإيرانية تأخذ منحى التطبيق الجديد لتعيد أمجاد الإمبراطورية الفارسية ؟ وهل سيمثل مشروع المد الشيعي الذي تقوده طهران التحدي الإقليمي العالمي القادم ؟ باتت مهمة البحث عن إجابة لهذه التساؤلات الشغل الشاغل لكل من يحاول فهم أصول اللعبة السياسية التي تديرها طهران . فمشروع المد الإيراني بدأ يتدحرج ككرة الثلج لا توقفه التحذيرات السلفية في الشارع ولا الخطوط الحمراء الرسمية ، حيث انطلق مخطط أحياء الإمبراطورية الفارسية إلى حيث لا عودة ، ليشكل تحديا كبيرا عربيا ودوليا . يعتقد فرنسوا تويال مؤلف كتاب "الشيعة في العالم" ومدير الدروس في المدرسة الحربية العليا للجيوش الفرنسية:" أن المسألة الشيعية تشكل اليوم في الفضاء الإسلامي بعامة تحديا كبيرا وتأخذ مسارا مختلفا إلى حد كبير عما استقرت عليه طوال الفترة السابقة. وعند إلقاء نظرة عامة على الأحداث والأزمات القائمة اليوم في العالم الإسلامي يمكن بسهولة ملاحظة التأثير والحضور الشيعي، في إيران والعراق والخليج العربي وسوريا ولبنان وباكستانوإيران" . إلا أنه وبشكل عام تمثل أعداد الشيعة أقلية داخل العالم الإسلامي ، فلا تتعدى نسبتهم 15 % من إجمالي عدد المسلمين ، وينتشرون في معظم الدول الإسلامية في أقليات ، عدا إيران وأذربيجان ، وهم في معظم الدول يمثلون سؤالاً ملحاً عن موقعهم في الحياة السياسية والعامة وحقوقهم وتجمعاتهم السياسية والدينية وعلاقتهم بإيران التي تمثل قلقاً وتحدياً أساسياً للولايات المتحدة والغرب . لكن خطورة القضية الشيعية في اللحظة الراهنة أنما تنبع من ارتباطها بعدد من العوامل السياسية التي أكسبتها ثقلاً كبيراً ، أهمها غياب الكيانات السنية القادرة على تبنى مشروع إسلامي جعل من الطبيعي أن يكون السنة مغيبين عن لعب دور إقليمي مؤثر في قضايا المنطقة ، الأمر الذي قدم إيران التي تستند إلى مائة وخمسين مليون شيعي خدمة هائلة . أحداث العشرين سنة الماضية كانت كلها تصب في صالح المشروع الإيراني الشيعي، فالاتحاد السوفيتي انهار والولاياتالمتحدة انفردت بالعالم وما انفكت "تخدم" ذلك المشروع بلا حدود، فضربت طالبان في أفغانستان ونظام صدام حسين في العراق ، ومع غياب أي قوة "سنية" حقيقية ، أصبحت إيران الدولة الأقوى - الوحيدة تقريباً - في محيطها ما عدا تركيا. وهذا أعطى للإيرانيين "حرية" التمدد وتحقيق حلم فارسي أو إيراني أو شيعي . وعزز من إمكانية تحقيق هذا الحلم الارتفاع المتسارع لأسعار النفط - الذي تدر عوائده السنوية على إيران 50 مليار دولار - وزيادة الدخل الإيراني مكن المشروع الإيراني الشيعي من الحصول على سلاح نووي و تحقيق تقدم ملحوظ في تصنيع السلاح التقليدي وتصديره أيضاً ، بالإضافة الى التبرعات السخية التي تنهمر من الأقليات الشيعية حول العالم ، كل هذه العوامل ساعدت في سعي إيران لتشكيل دولة "عظمى" إقليمياً . وتمتلك طهران احتياطيات هائلة من النفط تقدر ب95 مليار برميل على الأقل، وتنتج حوالي 4 ملايين برميل يومياً ، وتمتلك حوالي ألف تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وتنتج حوالي 2.7 تريليون قدم مكعب سنويا، وهذا يجعلها بالطبع دولة إقليمية وعالمية وقوة اقتصادية وسياسية مهمة، وهي في الوقت نفسه تمثل تحدياً كبيراً للولايات المتحدةالأمريكية منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979. وتجسيدا لهذا الدور تشهد المنطقة صراعاً بين مشروعين ، المشروع الأمريكي الإسرائيلي ، والمشروع الإيراني أو الشيعي ، ولكن المشروع الأخير لا يملك إمكانيات تحقيق أحلامه إلا بالتفاهم مع الولاياتالمتحدة على حساب السنة بطبيعة الأحوال ، ويقف وراء هذه الفكرة الكثير من ساسة الشيعة في العراق ويدعمهم بقوة المرجع الشيعي آية الله على السيستاني وهؤلاء تحركهم فكرة أن الشيعة ظُلموا تاريخياً وينبغي الحصول على حقوقهم ولو بالتعاون مع أعداء الأمة . الأمر الذي اسماه المراقبون "صحوة شيعية" تستعيد الصراع السني- الشيعي التاريخي ، وهي مسألة ليست مبنية على خلاف ديني فقط، ولكنها تتعلق أيضا بالحقوق السياسية وتوزيع الموارد والصراعات القومية والعرقية، كما وصفها فرنسوا تويال. ويقول تويال:" أنه سيكون في وسع أي إنسان أن يدرك أن المسألة الشيعية القائمة على أيديولوجية وفهم ديني خاص يمكن أن تشكل رافعة لعدم الاستقرار في العالم. وبما أنها ممتدة في رقعة واسعة من العالم الإسلامي ففي مقدورها أن تحرك صراعاً عالمياً ، وقد أظهرت الأحداث الأخيرة أن الشيعية لا تضعف برغم الحروب والعنف والاضطهاد". وفي دراسة هامة بعنوان "الشيعة والديمقراطية" كتب الصحفي سريرام شوليا محرر القضايا العالمية بصحيفة "آسيا تايمز":"إن انبعاث الشيعية أثار القلق بين عدد من السنة حول الهلال الشيعي الممتد من جنوب آسيا إلى لبنان"، ويضيف شوليا:" بعد موت الإمام الخميني تركز الاهتمام ليس على نشر الثورة بل المحافظة على هيبة الدولة". إن "الصحوة الشيعية" التي صاحبت التغيرات في المنطقة طرحت إستفهامات فرضها المد الشيعي المتنامي عن دورهم ومستقبلهم في بلادهم بعد عقود من التهميش والحرمان، وعبرت هذه الصحوة عن "كبتها" برأي المراقبين على شكل عمليات انتقامية كما في العراق وسياسات إقصاء للسنة وتحالفات إقليمية بين سورية وإيران في مواجهة دول سنية عربية مجاورة، واحتجاجات صاخبة وتحالفات سياسية في تركيا والخليج العربي وتمرد مسلح في اليمن وإشتباكات دموية بين السنة والشيعة في باكستانوأفغانستان، وانقسامات حادة في لبنان. وعلى الرغم من ازدياد أعداد الشيعة الممارسين لحقوقهم الانتخابية كطريق للوصول إلى السلطة السياسية في الكثير من بلدان العالم، إلا أن شوليا يلاحظ أن عددا منهم يرفض ذلك الطريق ويستبدله باللجوء إلى السلاح ، معطيا الأمثلة في المليشيا المسلحة التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وهو أكبر تنظيم شيعي، وجيش المهدي التابع للتيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر. ويضيف الكاتب: "أن عددا من قيادات الشيعة مثل الشيخ حسن نصر الله ومقتدى الصدر قد تجاوزا في أطروحاتهم الدفاع عن الشيعة محاولين إظهار أنفسهم كقيادات لكل المسلمين مدافعين عن الإسلام ضد الأعداء الأمريكيين والإسرائيليين". وبالعودة إلى علاقة أمريكا بالدور الإيراني، يتفق المراقبون على أن فشل الاتفاق بين الإيرانيينوالولاياتالمتحدة ليس عائدا لعدم رغبة الإيرانيين في ذلك ، بل إن الإيرانيين يمارسون "براجماتية" وهم مستعدون للاتفاق مع الأمريكان ، ولكن على حد قول علي لاريجاني مسئول الملف النووي الإيراني فإن واشنطن ليست مستعدة لدفع ثمن حقيقي للاتفاق. ويكاد يجمع المراقبون أن الإيرانيين مستعدون للتخلي عن الملف النووي وهم أيضا مستعدون لبيع حزب الله مقابل أن تطلق أمريكا يدها في الخليج فتسيطر على تلك المنطقة التي تحتوي على 70% من نفط العالم لتقيم إمبراطورية شيعية تشمل العراق والسعودية والبحرين والكويت وأجزاء من الإمارات. وينتشر الشيعة على امتداد الخليج العربي، في الكويت والسعودية والبحرين وقطر وعمان، ويعلق تويال على هذه الظاهرة بقوله:"إن النفط الموجود بكثافة في هذه المنطقة بالإضافة إلى التواصل الجغرافي والمذهبي والإثني بالنسبة لبعض الشيعة يجعل من المسألة الشيعية في هذه المنطقة تحدياً سياسياً واجتماعياً كبيراً يتداخل مع العلاقات الدولية والإقليمية". وفي قراءة فرنسية للنفوذ الشيعي في منطقة الخليج العربي يقول وزير الدفاع الفرنسي السابق جان بيار شوفنمان:" إن مركز الثقل في العالم العربي قد انتقل في السنوات الخمس والعشرين الماضية من محيط البحر المتوسط نحو الخليج، أي إلى مناطق يشكل الشيعة فيها أغلبية أو نسبة كبيرة مؤثرة". ويرجح خبراء استراتيجيون احتمال انفجار شيعي قادم في المستقبل القريب لأن عملية توسع نفوذ الشيعة تجاوزت قدرة المتخوفين من تعاظم قوته لكونه مسيطراً على جزء كبير من العلاقات الدولية. فإيران مازالت تخوض مواجهة مع الغرب، وقد وصل العراق بعد الصعود الشيعي إلى حالة من الانفجار التي ستبقى آثارها وتداعياتها على العراق والعالم لسنوات وعقود طويلة، وفي لبنان تشكل حركتا أمل وحزب الله بدعم وتمويل إيراني وسوري كبيران رقماً صعباً في العملية السياسية اللبنانية والمنطقة. كذلك الحال بالنسبة للطبقة الحاكمة "العلوية" في سوريا تبدو متجهة إلى إعادة صياغة علاقاتها في محيطها العربي "السني" بتمتين صلاتها بإيران، وفي أفغانستان بدأ الشيعة يلعبون دوراً حيوياً ومختلفاً عن الحالة التاريخية، وفي باكستان تحظى تنظيمات شيعية مسلحة مثل "إسلامي تحريك" وتنظيم "سيباهي- محمد" بشعبية واسعة بين الشيعة لمواجهة مجموعات سنية متنفذة . ويجمع المراقبون على أن تهديدات الولاياتالمتحدة بحرب ضد إيران والجماعات الشيعية حول العالم لا تبدو حقيقية ، وما صفقات الأسلحة الأمريكية الأخيرة التي وصلت قيمتها الى 63 مليار دولار لتسليح "المعتدلين العرب" وإسرائيل في مواجهة إيران وحزب الله وحلفائهما سوى استعراض للقوى كما هو حال اكبر حشد في التاريخ للبوارج الحربية الأمريكية الراسية في الخليج العربي منذ أشهر . الإيرانيون من ناحيتهم اعتبروا تلك الصفقة لا تعدو سو صفقة تجارية. علاء الدين بروجردي رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني قال:" إن من الأهداف التي تتوخاها أميركا هو أحياء شركاتها المصنعة للأسلحة والتي أوشكت على الإفلاس وتريد عبر إخافة الدول العربية المطلة على الخليج الفارسي أبرام صفقات كبيرة تقدر بعشرات المليارات من الدولارات وهي ليست متناسبة لا مع جيوش هذه المنطقة ولا هي بحاجة إليها". في كتابه "نفط ايران" يعرض الصحفي الأمريكي روجر هاورد المتخصص في شؤون الطاقة والدفاع في الشرق الأوسط حشداً من الأدلة والمعلومات ليبرهن على أن الحصار الأمريكي على إيران والعقوبات المفروضة عليها تضر بالولاياتالمتحدةالأمريكية أكثر من إيران، وبحسب ترجمة مجلة "الوسط" المصرية للكتاب ، يؤكد المؤلف أن التحالف السياسي مع الولاياتالمتحدة في مواجهة إيران بدءا بالحليف الأساسي أوروبا آخذ بالتصدع والانهيار، بل وتبدو ثمة فرصة لقيام تحالف روسي صيني إيراني وربما تنضم إليه الهند في مواجهة الولاياتالمتحدة . يلخص هاورد مشهد الصراع الإيراني الأمريكي بالموقف الإيراني الواعد إقتصاديا بالنسبة لدول العالم المهمة والمؤثرة، وهي بذلك تملك أوراقا مهمة للقيام بأدوار سياسية مهمة، والحصول على مكاسب تقنية واقتصادية . وبحسب المحللين فإن المشروع الإيراني إنما يهدف إلى تمكين طهران من أن تصبح قوة مساهمة في رسم جميع خرائط المنطقة، وفق حلمها التي قامت عليه مبادئ الثورة "الخمينية" ، والمتمثلة في عودة الإمبراطورية الفارسية، إن لم يكن بالجغرافيا، فبالسياسة والاقتصاد والنفوذ الاستراتيجي وبالنتيجة سيكون العرب ضحية للتقسيم والخرائط . *رئيس تحرير شبكة الإعلام العربية "محيط" [email protected]