فى مقدمته المعروفة باسمه «مقدمة ابن خلدون» والتى كتبها عام 1377 المفكر والعلامة العربى الكبير عبدالرحمن بن محمد خلدون (1332 1406)، يتناول فيما يتناوله موضوعا يبدو غريبا من نوعه فى ذلك الزمن، ولعل أول من كتب عنه فى تاريخ الفكر الإنساني، ففى الباب السادس الذى يحمل عنوان «فى العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وما يعرض فى ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولو أحق»، وفى الفصل رقم 41 من هذا الباب تحت عنوان «فى أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم» يكتب ما يلي:«وذلك ان ارهاف الحد فى التعليم مضر بالمتعلم سيما فى أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة. ومن كان مرباه بالعنف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطابه القهر. وضيق على النفس فى انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما فى ضميره خوفا من انبساط الايدى بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت معانى الإنسانية التى له من حيث الاجتماع والتمرن، وهى الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالا على غيره فى ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد إلى أسفل السافلين».
وفى 3 فبراير عام 2010، وبعد ستمائة وثلاثة وعشرين عاما بالتمام والكمال من ظهور «مقدمة ابن خلدون» وقف د.أحمد زكى بدر عقب توليه وزارة التربية والتعليم فى الحكومة المصرية، أمام مجلس الشورى ليعلن أن المدرس أصبح (ملطشة) بسبب قرار الوزارة بمنع عقوبة الضرب فى المدارس، وأضاف متفاخرابأنه تعرض للضرب وهو تلميذ.
واستنكر تحرير أولياء الأمور لمحاضر فى أقسام الشرطة عند ضرب ابنائهم، وادعى ان ذلك يخرب العملية التعليمية(؟!!)، وعقب استنكار الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والمعروفة باسم هيئة المعونة الأمريكية AID لتصريحات الوزير، واعتبارها انتكاسة لقانون الطفل، ولوحت إلى وقف جميع المنح والمعونات والقروض الدولية للوزارة، عقد الوزير مؤتمرا صحفيا نفى فيه عودة عقوبة الضرب فى المدارس مع تأكيده على احترام المدرس.
ومما يدعو للدهشة انه وبعد ترك د.أحمد زكى بدر لمنصبه عقب ثورة 25 ينابر عام 2011 التى كان مطلب الكرامة الإنسانية مدرجا فى شعارها الرئيسى إلى جانب العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، أن يأتى وزير للتربية والتعليم وهو إبراهيم غنيم ليصرح خلال زيارته لمدارس محافظة الغربية فى 14 أكتوبر عام 2012، بأنه ليس من حق ولى الأمر مهما كان معاقبة أو محاسبة المعلم، وأنه مع الترهيب والترغيب فى المدارس، وأنه لا يمانع فى الضرب شريطة الا يكون الضرب مبرحا وبدون عصا، وأن ضرب الطلاب ليس مشكلة على حد قوله.
وفى الواقع فان هذين الوزيرين الأسبقين خلال الأعوام الأربعة الماضية قد عبرا عن قناعتهما بممارسة عقوبة الضرب كإحدى الوسائل المستخدمة فى التعليم، فالأجيال التى تعايشت مع عقوبة الضرب فى المدارس اعتادت أن تستكمل مشوار الضرب فى المدرسة الذى تربت عليه واعتادته، بأن تضرب فى أقسام الشرطة، وفى سجون الدولة ومعتقلاتها، وترتعد لمجرد التفكير فى معارضة السلطة بصورة أو بأخري، بل تعتاد «الكذب والخبث والتظاهر بغير ما فى ضميرها خوفا من انبساط الايدى بالقهر عليها» كما يذكر ابن خلدون، وتتحول إلى الانتهازية وظيفيا وسياسيا، وتلجأ إلى (الفهلوة) واللف والدوران لنيل حقوقها الطبيعية التى حرمت منها متمثلة فى حريات الحياة السياسية فى مصر، وفقر العمل السياسى ومحدوديته، يرجع أساسا إلى حالة القمع المنهج التى تمارس على تلاميذ المدارس على جميع المستويات، كما أن هذه القسوة البالغة والايذاء البدنى الذى يواجهون به منذ طفولتهم الباكرة يؤدى إلى خلق حالة من العنف المضاد والتعصب والكراهية.
ولقد شهدت السنوات الأخيرة انهيارا شديدا فى العملية التعليمية فى مصر حتى أصبحت فى أسفل السافلين، واحتلت مصر المرتبة الأخيرة تقريبا على مستوى العالم فى جودة التعليم الابتدائى فى تقرير التنافسية الدولية السنوى للمنتدى الاقتصادى العالمى عام 2013، وأن كان تقرير 2014 قد أظهر تحسنا طفيفا.
ولقد تمثل انهيار التعليم العام فى مصر، فى عاملين أساسيين، أولهما تعليم القمع، حيث يترادف التعليم بالقهر والاجبار تحت طائلة العقاب البدنى الذى تجاوز كل الحدود ووصل فى ذروته إلى حد القتل.
أما ثانى هذين العاملين فهو قمع التعليم نفسه بحيث يقدم نوعا من التلقين البليد الخالى من الخيال والابتكار.
وبالنظر إلى السنوات القليلة الماضية، يمكننا أن نلاحظ استشراء العقوبات القمعية الوحشية التى تمارس على تلاميذ المدارس والتى وصلت إلى حد القتل بدءا من عام 2008 عندما قام مدرس رياضيات بمدرسة سعد عثمان الابتدائية بالاسكندرية بضرب التلميذ اسلام عمرو بالمسطرة، ثم ضربه بعنف فى بطنه لأنه لم يكمل واجبه المدرسي، فنقل إلى المستشفى حيث فارق الحياة، وانتهاء بوفاة التلميذ اسلام شريف بمدرسة الشهداء بالسيدة زينب بالقاهرة فى 8 مارس من هذا العام إثر تعرضه للضرب بالعصا فوق رأسه من قبل أحد المدرسين مما أدى إلى اصابته بنزيف فى المخ.
وبين مصرع الاسلامين عمرو والشريف، سجل حافل من التعذيب والايذاء البدنى والنفسى الذى يعانى منه عدد كبير من تلاميذ مصر فى مختلف المراحل التعليمية، ففى عام 2014 فقط ومن بين مئات الحالات التى وصل العقاب البدنى فيها إلى احداث اصابات جسيمة بالتلاميذ، تم كسر ذراع تلميذ عمره ثمانية أعوام بمدرسة الطبرى الابتدائية بمصر الجديدة لعدم قدرته على حل احدى مسائل جدول الضرب، وتعرض تلميذ بالصف السادس الابتدائى بمعهد بغداد الأزهرى بمحافظة البحيرة لضرب مبرح بعصا مدرس التربية الدينية بسبب خطئه فى تلاوة سورة «النحل»، فأصيب بكدمة طولها عشرة سنتيمترات وعرضها ثلاثة سنتيمترات أعلى الكتف وجرح قطعى أعلى الحاجب الأيسر استدعى عمل غرزتين مع وجود كدمة فى القدم اليسري، وقام مدرس بمدرسة شبراقاص الابتدائية المشتركة بضرب التلاميذ بماسورة ستارة، كما قام مدرس بمدرسة السادات الاعدادية بالبيارة مركز كوم أمبو بالاعتداء على تلميذ بالصف الثانى الاعدادى أثناء رحلة مدرسية لحديقة «فريال» بأسوان، وذلك بضربه بقبضة يده على عينه تارة وعلى رأسه تارة أخرى مما تسبب فى حدوث تجمع دموى على العين وتورم شديد، بالاضافة إلى اشتباه بارتجاج فى المخ.
ومن الطبيعي، والحال هكذا، أن يظهر أيضا رد فعل من نفس النوع لهذه التصرفات والممارسات الوحشية والسادية من قبل أمثال هؤلاء المدرسين.
وحسب جريدة «الدستور» فى عددها الصادر بتاريخ 2/6/2014، فلقد كشف مصدر مطلع - تقرير غرفة العمليات المركزية بوزارة التربية والتعليم والتى كانت تتابع سير العملية الدراسية داخل المدارس، فى الفصل الدراسى المنتهى (عام 2014)- عن وجود أكثر من مائتين وسبعين تعديا من أولياء أمور التلاميذ على مدرسين أشدها تعدى أحد الطلاب على معلم بالاسكندرية حتى وفاته، ومن أمثلة هذه الاعتداءات عام 2014 أيضا، قيام ولى أمر طالب بالاعتداء على مدرس بمدرسة المنيا الاعدادية بنين وأصابه بكدمات فى الوجه وارتجاج فى المخ لمحاولة المدرس منع نجله من العبث بصاعق كهربائى داخل الفصل، وكان الطالب قد اعتدى على المدرس بالقول والضرب مما دعا المدرسة لاستدعاء ولى أمره الذى واصل الاعتداء على المدرس، كما قام طالب بالصف الثالث الثانوى بمدرسة القومية الثانوية بنين بالاتصال بوالده عقب طرده من الفصل لعدم التزامه، فحضر والده إلى المدرسة واعتدى على المدرس وجعل ابنه يقوم بصفع المدرس على وجهه عدة مرات أمام هيئة المدرسة، مما أدى إلى قيام عشرات من مدرسى المدرسة بالاعتصام احتجاجا على الاهانات التى لحقت بهم، وتصل المأساة والمهزلة إلى قمتها فى ختام العام الماضى (2014) بقيام مدير احدى المدارس الابتدائية بتحريض أحد الطلاب على ضرب مدرس اللغة الانجليزية على قفاه (!!!!)
ولنا أن نتساءل فى مناخ تعليمى كهذا عن نوعية التعليم الذى يمكن أن يقدمه أشخاص مقموعون لأشخاص مقموعين فى هذه الدائرة الجهنمية من العنف والاستبداد؟!
وكمحاولة لتدارك هذه الأزمة أعلن وزير التعليم السابق محمود أبو النصر، الذى ترك منصبه منذ أقل من شهر، عن خطة اصلاح شامل للمناهج الدراسية يتم تنفيذها تدريجيا مع الاتحاد الأوروبي، واعادة النظر فيها، لتكون مفاهيم التنمية أكثر تحديدا مع تطوير طرق التدريس للحد من الاعتماد على التلقين والاستنساخ، وتشجيع الفكر التنفيذي، كما التزم الدستور الجديد لمصر ولأول مرة بتحديد نسب للإنفاق على التعليم من النتاتج القومى الاجمالي، فيؤكد فى المادة ال 19 التى تنص على - أن التعليم حق لكل مواطن هدفه بناء الشخصية المصرية والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمى فى التفكير، بأن تلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الانفاق الحكومى لا تقل عن 4% من الناتج القومى الاجمالى تتصاعد تدريجيا، حتى تتفق مع المعدلات العالمية، وفى المادة 21 الخاصة بالتعليم الجامعى تلتزم الدولة بتخصيص نسبة لا تقل عن 2% من الناتج القومى الاجمالي، وتنص المادة ال 230 على تخصيص نسبة 1% من الناتج القومى الاجمالى للبحث العلمي، وهاتين النسبتان أيضا وكما ينص الدستور قابلتان للزيادة وتتصاعدان تدريجيا حتى لتفقا مع المعدلات العالمية.
أما السؤال الذى سيظل يطرح نفسه فهو: أى نوع من التعليم؟، وهل هو تعليم أم تلقين؟، إن التعليم الحقيقى يتم فى مناخ ديمقراطى حر، يتيح للعقل النقدى التحليلى أن يفكر بصورة حرة مبدعة تختلف بالضرورة عن النظام العام والأفكار السائدة المستقرة فى كل مجالات العلم والمعرفة، أنه يستوعب ما سبق ولكنه لا يقف ضده وإنما يستمر فى تطويره أو حتى نفيه، إذا اقتضى الأمر، أما فى النظم الاستبدادية فيتحول التعليم إلى تلقين يمنع الاختلاف ويحد من التطور، بل يتوقف عندنا كما تدعى بعض الاتجاهات (اللاعقلية) عند تراث السلف الصالح.
وكيف نطلب من معلمين خضعوا للقمع والاستبداد حتى اعتادوه وبشروا به، أن يقوموا بتطوير الفكر النقدى الابداعى الخلاق لتلاميذ اعتادوا على أن يلقنوا وأن يستفرغوا ما يلقنون به على أوراق الاجابة فى الامتحانات على كل مستوياتها، وعقول قمع معظمها بالقهر والإيذاء البدنى الذى لم تتوقف عجلته حتى الآن؟!
جميعها أسئلة لا تحتمل سوى اجابة واحدة، تتمثل فى اتخاذ اجراءات فورية صارمة لوقف تعليم القمع فى المدارس المصرية متمثلة فى العقوبات البدنية والنفسية التى تمارس على التلاميذ، ووقف قمع التعليم بكل أشكاله والعمل على تطويره كمناهج وطرق للتدريس، وبقناعة كهذه نتفق عليها ونتكاتف لتحقيقها سننهض بقيم الحرية والديمقراطية، ونقضى على قوى الظلام والتخلف والإرهاب الذى لا ينمو إلا مع غياب الحرية، واستشراء الاستبداد، وقمع العقول.