في هذا المجال بالذات تختلف فكرة النجومية، لأننا لا نتحدث هنا عن موهبة أو وسامة أو سبق أو اكتشاف أو عبقرية، وإنما نتحدث عن دين: سنة نبوية وقرآن كريم، وعن علم له مذاهب فقهية وقواعد شرعية واجتهادات وتفسيرات، لا يقوم بها إلا عالم من العلماء، ولا يتحدث بشأنها إلا متلقي لعلومها، فاهم لأحكامها، قادر علي توصيل معانيها بأسلوب واضح وبسيط دون إفراط أو تفريط. لكن الواقع أن مفاتيح الشهرة أصبحت الآن بأيد خفية ربما تكون إعلاما يعطي من لا يملك مالا يستحق،وربما تكون مطالب اجتماعية أوأجندات سياسية، الواقع أن الساحة إمتلأت بالغث والسمين، الكل يفتي ويتحدث في الدين وعندما نقارن زمن الغزالي والشعراوي بزماننا لابد أن نسأل لماذا لا يظهر مثلهم نجوم حقيقيون يملأون الساحة الدينية عن حق، ويشبعون أفئدة المسلمين ؟؟ السعي للشهرة والإنشغال بالظهور علي الشاشات والتحدث في كل وسائل الإعلام، سلوك يتنافي تماما مع شخصية عالم الدين الذي إذا امتلأت نفسه بالغرور وإنشغل عقله بهذه المظاهر الدنيوية فلا نتوقع أن يكون بداخله علم حقيقي، لأن العالم يتسم بالتواضع والزهد في الأضواء، ولا ينظر للعلم علي أنه سمعة أو جاه أو رياء، فهل من يظهرون الآن ويتصدرون المشهد علي الفضائيات يدركون مكانة العالم الذي قال عنه القرآن الكريم: « يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات « هذا ما قاله لنا الشيخ عبد الحميد الأطرش رئيس لجنة الفتوي بالأزهر سابقا موضحا أن المشكلة في المنابر الإعلامية أنه لا أحد يراجع من يتحدث أو يصحح له خطاه خاصة أن كثيرا من الإعلاميين الذين يتصدون لبرامج تستضيف من يتحدث في الدين لا تكون لديهم أبسط الخلفيات الثقافية الدينية وبالتالي فلا يملكون القدرة حتي علي المناقشة الجيدة، ويذكر لنا موقفا قابله قبل سنوات إذ شاهد بالمصادفة برنامجا وجد فيه من يرتدي الزي الأزهري ويظهر علي الشاشة ويتحدث باعتباره رئيسا للجنة الفتوي بالأزهر وهو المنصب الذي كان يشغله الشيخ الأطرش وقتها، فماكان منه إلا أن تعقب الأمروعلم أن هذا الشيخ يعمل واعظا بالأزهر، ولما عاتبه أخبره أن القناة هي التي وضعت هذا المسمي علي الشاشة، ويقول: طالبت وقتها بأن يكون إختيار المتحدث من المؤسسة الدينية بترشيح من مدير عام الإعلام والدعوة في أي محافظة لأنه الأقدر علي إرسال الأزهري المناسب للتحدث في الموضوع المطلوب، لأننا يجب أن نعترف بأنه ليس كل من ارتدي الزي الأزهري أو درس بالأزهر فهو صالح لمخاطبة الرأي العام خاصة في القضايا الفقهية، ويلقي بلوم أكبر علي الدولة التي تجرًم بشدة من ينتحل شخصية ضابط أو طبيب ولا تجرًم من ينتحل شخصية عالم دين مع أن الدعوة أخطر من كل هذا، وتساءل إلي متي نتركها مستباحة لكل من قرأ كتابين وظهر علي الناس بمنهج خاطئ ولكن لأنه يتحدث بشكل لطيف ويتنازل عن كثير من ضوابط الدين، فنجده أصبح مقبولا مثلما يفعل بعضهم الذي نجح في إقناع الفتيات بالحجاب ولكنه حدثهم عن حجاب «الموضة» لا عن حجاب أمهات المؤمنين، فبدلا من أن يفيد نجده يضر بأمور أساسية في الدين، ونجد الناس يتقبلون ما يقول بزعم أن هذا هو الإسلام الوسطي ونسوا أن الوسطية لا علاقة لها بالتفريط، ويقول لا أنسي كذلك الضجة التي أحدثتها فتوي جمال البنا عن إباحة تدخين سيجارتين في نهار رمضان، والتي سارعت لجنة الفتوي وقتها بالتصدي لها وتكذيبها في الصفحة الأولي بالأهرام، أيضا فتواه عن إعتبار القبلات بين شاب وفتاة لمما لا يضر، وهكذا تنطلق الكثير من الفتاوي والآراء الفقهية التي لا أساس لها، لتنخر كالسوس في جذور الأجيال الحالية والناشئة، ربما يكون الكبار أكثر وعيا بجهلها ولكن المشكلة أن تتلقفها عقول شباب ومراهقين في طور التلقي والبناء. العلماء .. والرؤساء عالم الدين هو الذي أسمع صوته عاليا مصححا لأي خطأ يرتكب في الدولة أو ظلم يمس القطاع الديني أو مصالح المواطنين .. هذا هو رأي عمرو شاهين شاب في أواخر الثلاثينيات، ومع ذلك فذاكرته تتسع لعهود لم يعيها بحكم السن وإنما قرأ عنها، فهو يذكرنا بمواقف بدأت منذ تصدي الشيخ عمر مكرم والشيخ السادات شيخ الجامع الأزهر لمظالم المواطنين من الأسعار والغلاء والجور لحد قيادة ثورة ضد الوالي العثماني خورشيد، إلي معارضة ، وخروج الإمام عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر تضامنا مع فلاحي بلبيس في مواجهة امراء المماليك ضد كثرة الضرائب وتفشي المظالم وضيق المعيشة فيحصل لهم علي وثيقة موقعة من الوالي بكل ما أرادوا. والإمام سليم البشري الذي رفض تدخل الحاكم في إختياراته وتهديده له بعزله من منصبه قائلا: لن( أضحي بما يدوم في سبيل ما يزول).. الإمام المراغي شيخ الأزهر تصدي للحكومة المصرية كيلا تشترك مصر في الحرب العالمية الثانية.. والإمام عبد المجيد سليم شيخ الأزهر وقف متصديا للملك فاروق لضغطه ميزانية الأزهر قائلا قولته الشهيرة:( تقتير هنا وإسراف هناك) والامام عبد الحليم محمود يشهر إستقالته في وجه الرئيس السادات إعتراضا علي محاولات الانتقاص من إستقلال الأزهر.. والإمام شلتوت يفعلها أيضا في مواجهة الرئيس عبد الناصر.. هؤلاء بعض من مشايخ الأزهر وعلمائه الذين أخافوا الولاة العثمانيين والحكام المصريين كما أخافوا الإنجليز والفرنسيين، وسمحوا لساحات الأزهر وأروقته أن تكون مركزا لتنظيم المظاهرات الوطنية، وإلقاء الخطب الحماسية، ومنبرا لرفع الظلم، قادوا الشعب قيادة روحية وعسكرية في عين جالوت و الحملة الفرنسية، وأشعلوا نيران الثورة العرابية وثورة1919، ولم يلزموا الصمت أو يرفضوا تدخل الأزهر في شئون الرعية. ربما أيضا كانوا نجوما يضيف محدثنا لأنهم زهدوا في المناصب السياسية، ونحن نعلم أن الإستقالة كان هينة عليهم ولو كان المنصب مشيخة الأزهر، أو وزارة الأوقاف كما فعل الشيخ متولي الشعراوي الذي أتصور أن جزءا كبيرا من حب وثقة الناس فيه علي المستوي الشخصي والعلمي والدعوي هو زهده في المنصب الحكومي، وعدم سعيه لتملق حاكم وكلنا يذكر مقولته الشهيرة التي أوجزت المعني للرئيس المخلوع مبارك بكل كياسة وحكمة: (إذا كنت قدرنا فليوفقك الله، وإذا كنا قدرك فليعينك الله علي ما تتحمل) جيل جديد لماذا لم يعد يظهر نجوم بحجم وشعبية هؤلاء العلماء والقادة الدينيين؟ تقول فاطمة محمد (خريجة جامعة الأزهر ) يتم الآن إفساح الساحة الإعلامية لجيل جديد من الذين يبحثون عن هدم ثوابت الدين والتشكيك في السنة النبوية ومصادرها والطعن علي البخاري كعالم وككتاب، وسواء كانوا من الإعلاميين المقحمين أنفسهم في موضوعات الدين أو ممن يسمون أنفسهم باحثين دينيين،أو حتي دعاة، فالأمر أدي لنفور قطاع عريض من المتمسكين بثوابت الدين قرآن وسنة، وعزوفهم إلي إتباع مشايخ السلفية سواء من المصريين، أو من الجنسيات الأخري .. الدراما تشوههم النجومية تعني شهرة مع احترام وتقدير فكيف يحدث هذا في وقت تحارب فيه الأعمال السينمائية والدراما التليفزيونية، شخصية عالم الدين أو الداعية بشكل خاص؟! هذا السؤال الإستنكاري حمل وجهة نظر كوثر إبراهيم سيدة مسلمة في الخمسينيات، قالت لنا: بعد أن كان الشيخ هو الطيب المعتدل مثل الشيخ حسن الذي تلجأ الناس إليه لتلقي المشورة كما في فيلم جعلوني مجرما أصبح هو صاحب الوجه العبوس الذي يعطل مصالح الناس بدعوي الصلاة كما في فيلم الإرهاب والكباب أو الداعية الكذاب المادي المستغل كما في فيلم ( الثلاثة يشتغلونها ) أو الملئ بالتناقضات كما في مسلسل الداعية، وتضيف:إذا كنا نعترف بأن الدراما تسهم بشكل كبير في تشكيل وعي المجتمع المصري فيجب أن نعلم أن صناعة النجم الديني واحترامه وهيبته تبدأ من العمل الدرامي. نجوم القري هل عجزت منابرالأزهر والأوقاف عن فرز علماء بحجم وشعبية الشعراوي مثلا أو الشيخ الغزالي؟؟ الشيخ طارق يحيي إمام وخطيب بمحافظة الغربية يجيب بالنفي علي سؤالنا مؤكدا أن هناك خطباء مغمورين في مساجد بقري صغيرة ونجوع لا يكترثون بإلإعلام ولا يكترث الإعلام بهم، ورغم ذلك فهم نجوم ولكن في محيط أهالي القرية والمترددين علي المسجد، ويوضح هؤلاء لن يكتشفهم أحد ولن يلقوا شهرة واسعة رغم كونهم من الأزهريين المتميزين، لأننا يجب أن نعترف بصراحة أن هناك أزهريين أيضا لا يرقون في المستوي العلمي أو الخطابي للمستوي الذي يجب أن يكونوا عليه، وربما اطلع الناس علي نسب النجاح والقبول من بين الأعداد الهائلة المتقدمة لمسابقات الأوقاف لاختيار أئمة ودعاة، ويوضح أننا يجب أن نفرق بين المكانة العلمية وبين القدرة علي الوصول للبسطاء، فهناك أستاذ جامعة يحمل دكتوراة ولكنه عندما يصعد المنبر لا يكون جاذبا للناس، بينما نجد شيخا مغمورا يحظي بأقصي درجات التأثير والقبول. الدعاة الجدد هم دعاة تحرروا من الزي التقليدي لرجال الدين سواء كان الجبة والكاكولة أو الجلباب والعباءة،وظهروا علي شاشات الفضائيات بحلل أنيقة تحمل توقيع كبار مصممي الأزياء العالميين، لم يظهروا بالمظهر الساكن والمتجمد الذي يظهر به الشيوخ التقليديون علي شاشة التليفزيون المصري، هذه سطور مقتبسة مما كتبه الكاتب الصحفي وائل لطفي في كتابه الدعاة الجدد والذي خرج للضوء قبل حوالي عشر سنوات راصدا ومحللا أسباب ظهور هؤلاء ونجاحهم في اجتذاب جمهور ليس قليلا منذ نشأتهم، ويطرح الكاتب عدة تفسيرات وراء ظهور مايسمي بالدعاة الجدد الذين شكل ظهورهم في مصر ظاهرة لا يستطيع أحد إنكار وجودها وتأثيرها في جمهور معين،يبحث عما يسمي التدين الآمن الذي لا يقود لأي صراع مع السلطة، ولا يؤدي لتصادم الأبناء مع آبائهم الكفرة وترك الوظائف الحكومية كما كان يدعو لذلك تيار التكفير والهجرة بزعامة شكري مصطفي، وكذلك حاجة المجتمع خاصة الصفوة لداعية يرشدهم للحياة السعيدة ويقدم لفكرة الخلاص الفردي والعمل والنجاح عن طريق الدين، لدرجة أن بعضهم تخصص في الاستشارات النفسية والأسرة، ولكن السمة التي سيطرت علي الدعاة الجدد سواء من الجيل الأول أو الثاني يضيف مؤلف الكتاب كانت كونهم مهنيين لم يتلقوا تعليميا دينيا تقليديا ربما باستثناء خالد الجندي فهو من أبناء الأزهر وعمل بالأوقاف، وأنهم جميعا استغلوا جميع الوسائل المتاحة لنشر أفكارهم بدءا من سوق أشرطة الكاسيت وحتي الفضائيات ومواقع الإنترنت ، ورغم أنهم أعلنوا أن هدفهم تغيير المجتمع بعيدا عن العنف إلا أنهم لم يقدموا أي تطوير في الخطاب الإسلامي، ويطرح الكاتب تفسيرا آخر تمثل في حاجة النظام السياسي لسحب البساط من تحت أقدام جماعات العنف، بالاضافة لافتقاد المؤسسة الدينية للمصداقية والتجديد وتبعيتها للسلطة. فتاوي وشيوخ ديليفري البحث عن السهل.. جملة تلخص ماقاله لنا الدكتور عادل عبد الغفار عميد إعلام بني سويف وأستاذ الإعلام بجامعة القاهرة مفسرا ظهور من لا يستحقون لقب علماء ولا مشايخ ولا يستحقون أضواء الشهرة علي قنوات التليفزيون، لأنه يري أن هناك حالة «إستسهال» معظم الوقت من معدي البرامج فبدلا من أن يذهب بنفسه لجامعة الأزهر أو لمديريات الأوقاف بحثا عن وجوه وعقول مؤهلة بالعلم وقادرة علي توصيله بشكل جيد للمشاهد فإنه يفضل البحث عن الشيخ الجاهز (الديليفري) الذي يعرض نفسه ليل نهار علي الفضائيات وعلي الصحفيين والمعدين، ويأتي فور استدعائه بالتليفون، أو يفضل المعد أن يلجأ للوجوه المستهلكة التي تعتاد علي الظهور، من ناحية أخري فالمشاهد يستسهل أيضا الحصول علي مايريد من أجوبة ومعلومات وأحكام حول أهم ما يسير له أمور حياته وهو دينه وعقيدته، ويلجأ لسماع أي ممن يجده أمامه علي أي قناة بل وربما يسارع بالاتصال تليفونيا ليحصل علي فتوي زواج أو طلاق، وهو لا يدرك علم من يفتيه ولا مؤهلاته، ولا مرجعياته، حتي لا يتكلف عناء الاتصال بالجهات الرسمية كلجنة الفتوي أو دار الإفتاء، إضافة إلي ذلك هناك بحث عن الإثارة لا ينكره دكتور عبد الغفار، وهوما يفسر تكرار ظهور أصحاب الفتاوي الشاذة والآراء التافهة التي تحاول شغل الناس بأمور هامشية بدلا من تصحيح سلوكهم وعباداتهم وأخلاقهم، وتقريبهم إلي صورة المسلم الملتزم دون إفراط ولا تفريط. ويحذر محدثنا من خطورة دور الإعلام إذا استمر علي هذا النحو نافيا فكرة الاختيار الحر والانتقاء للأصلح في مجتمع تغلب الأمية الأبجدية علي مواطنيه، فكيف يستطيع التمييز بين الغث والثمين، وينظر لمن يقدمه له الإعلام علي أنه شيخ أو عالم دين.