نزل عالم الإجتماع العربى الفذ عبد الرحمن بن خلدون بأرض مصر قبل أكثر من 600 عام. وكان من بين ما استرعى انتباهه مبكراً السلوك العام للمصريين. فبرغم كل ما رصده فيهم من خصال طيبة إلا أنه لم يسكت عن ملاحظة نقدية أثارت دهشته، ولا تزال تثير إلى اليوم دهشة كثير من الدارسين لأحوال بلدنا. قال بن خلدون «رأيت أهل مصر وكأنهم فرغوا من الحساب». كان لبقاً فصاغ انتقاده بأدب. قال باختصار أن المصريين لا يشتغلون كما يجب وأنهم ليسوا جادين بما يكفي. وهى الملاحظة التى لم يختلف معها تقرير التنافسية العالمية لعام 2014 والذى سجل فروغ المصريين من الحساب لكن بطريقة أكثر دقة. فإنتاجية العامل المصرى مقاسةً بالوقت، وفقاً لهذا التقرير، لا تزيد على عشرين دقيقة يومياً، ما يضعه فى المرتبة 130 عالمياً. وقد جاء معهد «جالوب» لقياس الرأى العام قبل سنتين من خلال مسح دولى واسع لأخلاقيات العمل بنتائج تكشف أيضاً كيف يحيا المصريون. إذ تشير نتائجه إلى أن 13% منهم يقبلون بهمة على أعمالهم، بينما يتهرب 55% من واجباتهم الوظيفية فيما يتبقى 32% يعتبرون هم الأخطر على الإطلاق لأنهم يتفرغون لإفساد مؤسساتهم وتخريب ما يقوم به المتفانون. ولعل الحيرة تملك أى إنسان وهو يتابع مسار هذا البلد. إذ كيف تحظى مصر بكل هذه الأهمية والسمعة، بينما لا يعمل معظم أبنائه إلا لعشرين دقيقة فى اليوم؟. والإجابة بسيطة. فالكتلة البشرية الفعالة فى مصر تبقى برغم صغرها قادرة على إضافة بصمة ملموسة. وهو ما يمكن حسابه إحصائياً. فلو أن 13 % فقط من المصريين، بحسب استنتاجات «جالوب»، يعملون بجدية فمعنى هذا أن عدد الجادين فى بلدنا يصل إلى 14.5 مليونً. وهذا رقم ليس بقليل يفوق عدة دول مجتمعة. المشكلة ليست فى غياب الجادين وإنما فى أنهم لم يستطيعوا إلى الآن نقل أسلوب حياتهم إلى باقى المصريين ليغيروا أخلاقيات العمل لديهم. وبدون تغيير تلك الأخلاقيات فلن تستطيع مصر أن تحيا الحياة الأفضل التى يتمناها أكثر الناس دون أن يعملوا ما يكفى من أجلها. صحيح أن 14.5 مليون مصرى يعملون بدأب، لكنهم لن يضيفوا كثيراً إذا ظل 35% يهدمون لهم ما يبنون وبقى 55 % متفرجين. الهدامون يجب أن يُحاسبوا، والمتفرجون يجب أن يدفعوا إلى العمل بجدية إذا أرادت مصر أن تحيا حياة جديدة. وشعار «تحيا مصر» الذى يُرفع الآن وإن كان عنواناً جميلاً للرغبة فى حياةً أفضل إلا أنه لن يغير أخلاقيات العمل عند المصريين برغم مناشدته المتكررة لهم أن يثبتوا حبهم للوطن. «تحيا مصر» شعار طيب يجب أن يلهب المشاعر لكنه ليس كافياً. فما أسهل أن يردد الناس الكلمات وما أصعب أن يفهموا معانيها أو يعملوا بمقتضاها. لقد بات لدينا مثلاً صندوق مالى لدعم الاقتصاد باسم «تحيا مصر»، وهذا جيد. وجرى فتح حساب فى البنك المركزى لتلقى مساهمات المصريين فى الداخل والخارج لهذا الغرض، وهذا أيضاً جيد. لكن عبارة «تحيا مصر» بدأت تلامس آذان المعجبين والمتسلقين على السواء. المعجبون اتخذوها مرةً اسما لتحالف انتخابى ومرة أخرى مسمى لواحدة من منظمات المجتمع المدنى بينما استغلها المتسلقون كعناوين لمحال تجارية أو مقولات إنشائية فى خطاباتهم الدعائية. وإذا كان على الحياة فى حد ذاتها فمصر سوف تحيا لأنها تملك برغم مشكلاتها المتراكمة والمعقدة كتلة صلبة تستطيع أن تحميها. لكن المطلوب ليس الحياة والسلام، وإنما أن تكون أفضل. وبرغم صعوبة ذلك إلا أنه ليس مستحيلاً. ولست مع ما يذهب إليه بعض المنفرين حتى لو اعتمد فى توقعاته على نظريات علمية. بعضهم مثلاً يعتمد على ما يعرف بالانجليزية بال path dependence أو ما يمكن ترجمته بتصرف بالمصير المحتوم الذى يرى أن المجتمعات متى سلكت طريقاً فإنها لن تتمكن من تغييره فى الأغلب الأعم. وهو ما يعنى أن طريقة المصريين فى الحياة ستبقى كما هي، وأن أسلوبهم الركيك فى العمل مقدر له أن يستمر. وهذا ليس صحيحاً. فقد استطاعت مجتمعات كانت أقل منا فى الجدية أن تتغير. تحدت نفسها وكسرت الحلقة المفرغة. ومصر تستطيع أن تتغير، والرئيس السيسى يستطيع أن يقدم الكثير. فهو رجل جاد وحازم وعد بتحويل مصر إلى ورشة عمل كبيرة. وهذا هو المحك الحقيقى لشعار تحيا مصر. أن يطبق بشكل يبعد عن الطقوس المظهرية للوطنية ليصل إلى جوهرها الحقيقى وهو العمل الدؤوب. المطلوب من الرئيس ومن 13% من المصريين العاملين بدأب أن ينتقلوا بشعار تحيا مصر إلى حالة حركية مستمرة. أن يوقفوا 35% من الهدامين عن إعاقة العمل، وأن يحثوا 55% من المنسحبين أن يعودوا إليه. فلا يعقل مثلاً والبلد مقدم على مشروعات ضخمة بعد ما انتهى إليه المؤتمر الاقتصادى من نتائج أن نجد تلك المشروعات وقد انتهت إلى شركات أجنبية وعربية باتت كفاءة عامليها وجديتهم تفوق كفاءة وجدية كثير من المصريين. مطلوب تحد كبير للذات. اهتمام عاجل مثلاً خلال السنتين القادمتين بالتعليم الفنى وبالمحاسبة الدقيقة والحاسمة للمتسيبين. أو أن تتعهد الحكومة المصرية عندما يصدر تقرير التنافسية العالمية بعد سنتين أن يكون المصرى قد ارتقى بإنتاجيته من المرتبة 130 إلى المرتبة الخمسين مثلاً بأن يرفع إنتاجيته من عشرين دقيقة فى اليوم إلى أربع ساعات على الأقل. فمصر لن تحيا أفضل إلا إذا بذل كل أبنائهم جهداً أكبر. ومن منهم لا يستطيع أن يحاسب نفسه عن عدد الساعات التى يعملها أو كيفية أدائه خلالها يجب أن يجد من يحاسبه. ولو تمكن الرئيس السيسى و13% من المصريين المتفانين فى السنتين القادمتين فقط من تحسين أخلاقيات العمل، وبث الجدية لدى كافة المصريين فوقتها لن يملك ابن خلدون لو عاد إلى الحياة من جديد إلا أن يعيد التفكير فى صحة العبارة التى قالها عنهم قبل ستة قرون. أستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات