1400 طالب يوميًا يستفيدون من دروس التقوية في مساجد الوادي الجديد    طرح لحوم بلدية بأسعار مخفضة في الوادي الجديد استعدادًا لعيد الأضحى    كمين لقوة إسرائيلية في "جباليا" وسقوط 11 جنديًا بين قتيل وجريح    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم المستشفى الإندونيسي في شمال غزة    فلسطين.. 5 شهداء في قصف للاحتلال جنوب مدينة غزة    بعد مفاوضات الزمالك.. مصطفى فتحي يكشف مستقبله مع بيراميدز    عاجل.. اتحاد الكرة يعلن طاقم تحكيم نهائي كأس مصر بين الزمالك وبيراميدز    مجلس الاتحاد السكندري يرفض استقالة مصيلحي    «الحاجة الكبيرة اتحققت».. بيراميدز يكشف مفاجأة بشأن رحيل إبراهيم عادل    مصطفى فتحي: يورتشيتش عوض غياب الجماهير.. وطريقة الحكام تغيرت معي بانضمامي لبيراميدز    السيطرة على حريق نشب بنخل بجوار مخزن مشروبات غازية بقليوب    الوادي الجديد تعلن نتائج النقل وتمنح الشهادات مجانًا لطلابها    تعرف على وجبة عشاء وزير خارجية إيران مع وزراء مصر السابقين ب خان الخليلي (خاص)    ترامب ينتقم من نتنياهو ويقيل مسؤولين كبارا "مؤيدين لإسرائيل" في إدارته    الداخلية توضح حقيقة الفيديو المتداول لسير سيارات في مسار الأتوبيس الترددي    صرف 11 مليون جنيه منحة عيد الأضحى ل7359 عاملًا بالوادي الجديد    عيار 21 الآن يعود للارتفاع.. سعر الذهب اليوم الثلاثاء 3 يونيو في الصاغة (تفاصيل)    سعر الدولار أمام الجنيه والعملات الأخرى قبل بداية تعاملات الثلاثاء 3 يونيو 2025    البيت الأبيض يعلن استعداد ترامب للقاء بوتين وزيلينسكى    ماذا لو قررت المحكمة الرياضية منح الدوري لبيراميدز؟ أحمد دياب يرد    أسطورة ميلان: الأهلي سيصنع الفارق بالمونديال.. وما فعله صلاح خارقًا    مصطفى فتحي: عشت أسوأ يوم في حياتي مع الزمالك    تقارير: ميلان يحلم بالتعاقد مع لوكا مودريتش    منتخب فلسطين يكرم وسام أبو علي بلقب الدوري المصري    طقس ربيعي.. «الأرصاد» تكشف حالة الطقس اليوم في المنيا والصعيد    أخبار 24 ساعة.. برنامج جديد لرد أعباء الصادرات بقيمة 45 مليار جنيه في الموازنة    عامل يتهم 3 أشخاص بسرقة شقته في الهرم    الصلح والتسامح وخصوصية العائلة.. أبرز ما جاء في بيان ورثة المرحوم شريف الدجوي    أفضل أماكن الخروج في عيد الأضحى المبارك 2025 بالمنوفية    إصابة 10 سيدات في حادث «أتوبيس» بمحافظة المنيا الجديدة    الكشف عن تمثال أسمهان بدار الأوبرا بحضور سلاف فواخرجي    تزوج فنانة شهيرة ويخشى الإنجاب.. 18 معلومة عن طارق صبري بعد ارتباط اسمه ب مها الصغير    4 أبراج «بيعرفوا ياخدوا قرار»: قادة بالفطرة يوزّعون الثقة والدعم لمن حولهم    حين يتعطر البيت.. شاهد تطيب الكعبة في مشاهد روحانية    سعد الهلالي: كل الأضحية حق للمضحي.. ولا يوجد مذهب ينص على توزيعها 3 أثلاث    النيابة الإدارية تُشكيل لجنة لفحص واقعة الحفر والتنقيب عن الآثار بقصر ثقافة الأقصر    أزال التاتو ويتعلم تجويد القرآن.. خالد الجندي يكشف تفاصيل توبة أحمد سعد    التنظيم المركزي بالجبهة الوطنية تعقد أول اجتماعاتها برئاسة النائب أحمد رسلان    محافظ قنا يدعو أصحاب الصيدليات الخاصة للانضمام للتأمين الصحي لصرف الأدوية للمرضى    أمين الفتوى يحسم حكم توزيع لحوم أو مال بدلاً عن الأضحية    موعد أذان فجر الثلاثاء 7 من ذي الحجة 2025.. ودعاء في جوف الليل    القومي للبحوث يقدم نصائح مهمة لكيفية تناول لحوم العيد بشكل صحي    محمد ثروت يكشف كواليس مشاركته في «ريستارت»: الضحك رسالة الفيلم (فيديو)    شريف سلامة يكتب: رؤية اقتصادية.. التحول نحو الاقتصاد الرقمي.. أين تقف مصر؟    مدير تلال الفسطاط يستعرض ملامح مشروع الحدائق: يتواءم مع طبيعة القاهرة التاريخية    الجوزاء.. تعرف على صفات برج الفرعون المصري محمد صلاح    أرامكو السعودية تنهي إصدار سندات دولية ب 5 مليارات دولار    الإصلاح والنهضة: 30 يونيو أسقط مشروع الإخوان لتفكيك الدولة ورسّخ الوعي الوطني في مواجهة قوى الظلام    ضربات الشمس في الحج.. الأسباب والأعراض والإسعاف السريع    في رحاب الحرم.. أركان ومناسك الحج من الإحرام إلى الوداع    عبد الرازق يهنىء القيادة السياسية والشعب المصري بعيد الأضحى    رئيس جامعة بنها: تبادل التهاني في المناسبات الدينية يؤكد التماسك    «صحة الاسكندرية» تعلن خطة التأمين الطبي لاحتفالات عيد الأضحى    الرئيس السيسى يستقبل مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية    تخريج 100 شركة ناشئة من برنامج «أورانج كورنرز» في دلتا مصر    حزب السادات: فكر الإخوان ظلامي.. و30 يونيو ملحمة شعب وجيش أنقذت مصر    رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال شهر مايو الماضي    هيئة الشراء الموحد: إطلاق منظومة ذكية لتتبع الدواء من الإنتاج للاستهلاك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض من ذكرياتى
نعمان عاشور

(كروان..مجلة البنات والصبيان).. شعار إعلانى لمجلة أطفال قدمتها فى منتصف الستينيات القرن الماضى (دار التحرير للطبع والنشر) التى كانت تصدرها جريدة الجمهورية مع عدد كبير آخر من المطبوعات. وكان رئيس تحرير (كروان)
هو الأديب المسرحى الكبير نعمان عاشور أحد أفراد حشد الكتاب الزاخر فى تلك الدار، قبل مذبحة الصحفيين الشهيرة عام 1964 والتى تم فيها إبعاد عدد من كبار مفكريها وأدبائها ورساميها إلى أعمال غير صحفية، وأذكر منهم- بالطبع- أبى وعبد الرحمن الشرقاوى وسعد مكاوى وإبراهيم الوردانى وهناك آخرون، وفى ذلك السياق تحضرنى وقائع مكالمة تليفونية دارت بين أبى وصديقه الأقرب عبد الرحمن الشرقاوى بعدما تم نقل الأول إلى مؤسسة تعمير الصحاري، والثانى إلى مؤسسة الثروة السمكية، إذ قال الشرقاوى لأبي: «أنما يا سمعه مدهشة قوى حكاية الصحارى اللى بتعمرها دي»، فقال له:«والله يا عوف هى أقل زفارة من هيئة الثروة السمكية على أى حال».

وراح الصديقان- وسط المأساة- يضحكان من صميمى قلبيهما، بعد أن جمعت بينهما تلك المحنة أيضاً إلى جوار حزمة عناصر أخري، كونهما منوفيين، ومن مواليد نوفمبر (أبى فى الثامن من ذلك الشهر القديس والشرقاوى فى العاشرمنه وهو ذات يوم وفاته كذلك).

نهايته..كانت الجمهورية هى (جريدة الثورة) فى نظر النخب التى ارتبطت بها والتنظيمات السياسية التى أفرزها النظام الجديد، وتعد تلك الجريدة هى المحاولة الثانية لإطلاق جريدة لثلاثة وعشرين يوليو بعد جريدة (الشعب) التى رأس تحريرها الصاغ صلاح سالم أحد أهم أعضاء مجلس قيادة الثورة، وقد حكى لى الأستاذ نعمان عاشور- فى إحدى جلساتنا بمنزله- أنه حين انتقل من عمله كسكرتير صحفى فى وزارة الشئون الاجتماعية إلى جريدة (الشعب) حرص- تمام الحرص على وضع مكتبه خلف الباب، بحيث إذا دخل صلاح سالم لا يراه، ومن ثم لا يرفته، إذ كان صلاح سالم مشهوراً بانفلات الأعصاب والرفت «عمال على بطال».

على أية حال..لم يرفت صلاح سالم الكاتب نعمان عاشور، وإنما توفى ولم يبق منه سوى شارع باسمه وانضمت الشعب على الجمهورية وصارت (الجمهورية..جريدة الشعب).

وفاز حلمى سلام رئيس تحرير الجمهورية عام 1964- وشديد القرب من المشير عبد الحكيم عامر- بفرصة رفت نعمان عاشور، الذى ظل طوال وجوده فى (الشعب) يخشى أن يرفته سالم فلما ذهب إلى (الجمهورية) وظن أنه آمن، جاءه الرفت من حيث لا يدرى ولا يحتسب، ووسط زفة كبرى قامت فيها السلطة بنقل خلاصة نخبتها الفكرية إلى أعمال غير صحفية فى فضيحة تاريخية ستظل تصم علاقة نظام جمال عبد الناصر بالصحافة إلى الأبد، وإن كان البعض رأوها تجلياً لصراع السلطة- الذى كان محتدماً آنذاك- بين (الرئيس) و(المشير)!!

...........................................

وقبل ما يعيش نعمان عاشور مأساة الرفت كانت دار التحرير كلفته بأن يؤسس مطبوعاً للأطفال فاخترع (كروان..مجلة البنات والصبيان) التى كان رسامها الأول محيى الدين اللباد أحد أجمل رسامى الكاريكاتير، وصاحب البصمة الواضحة فى فنون الجرافيك المصرية، وقد وضع عدداً من المؤلفات بين الرسم والكتابة تؤسس لشكل تعبيرى جديد هو الأكثر شيوعاً فى مواقع الفيس بوك وروابط التواصل الاجتماعى الآن، وضمن كتبه (نظر) الذى أشرت إليه فى مناقشة أطروحتى للدكتوراه عام 1985، واصفه بالكتابة (العلمية) وكررت كلمة (العلمية) مرتين، وكان اللباد أحد أفراد جمع من رسامى الكاريكاتير حضروا تلك المناقشة مع حشد كبار الكتاب والصحفيين والسياسيين.

مجلة (كروان) هى نقطة البداية فى معرفتى بالأستاذ نعمان عاشور، الذى جاء لزيارة أبى فى منزلنا القديم بمنيل الروضة ليصطحبنى معه إلى صالة تحرير (كروان) فى دار التحرير (وكان مدخلها من شارع نجيب الريحانى وقتها) لأنه كان يريد أن يري- بنفسه- رد فعل الأطفال على المجلة التى كان يجهزها لهم، ولماكنت فصيح جيلي، والنمرة التى تقدمها أسرتى إلى أصدقاء أبي، لأدهشهم بغلباوتى وشطارتي، ومعلوماتى المستبقة عمرى والتى دفعتني- دون أن أدري- إلى الاستزادة من معرفة وحفظ (كلام الكبار) وعلى نحو جعلني- ومازلت فيما يبدو- أشعر بعلو الكعب على من هم فى نفس عمرى!!

طفل يحفظ أشعار عبد الرحمن الشرقاوى والمتنبى، ويتحدث عن لوحات حسن سليمان والجزار، ويغنى (مضناك) لعبد الوهاب، ويفهم المغزى السياسى لمسرحية (الفرافير) ليوسف إدريس أو (سكة السلامة) لسعد وهبة.

وهكذا وجد نعمان عاشور ضالته فى شخصى وأراد اصطحابى معه إلى حيث يتم تصنيع (كروان..مجلة البنات والصبيان) ولم تك حكاية هذه المجلة هى ما ارتسم فى ذهني- طفلاً- عن نعمان عاشور، وإنما أيضاً كانت اللمسة السحرية للبورتريه الأول لنعمان عاشور فى مخيلتى هى امتلاكه سيارة (نصر- 1300)، وقد كانت باكورة إنتاج مصر فى مصنع تجميع السيارات «فيات» الذى تضمنه مشروع البلد الصناعى الكبير وقد عشنا فيه وعاش فينا.

ركوب السيارة (نصر- 1300) هو مجد كبير فى ذلك الزمان الغابر، وكنت أتلفت- وأنا أهم بالصعود إليها- لأرى نظرات الإنبهار والحسد فى عيون أطفال الجيران.

كانت السيارات الكاديلاك والدودج والبونتيك وقتها- فى انقراض- كنوع من الحمائية للصناعة الوطنية، كما كان ركوب السيارة المحلية يضفى ما يشبه الشعور بالزهو الوطنى على راكبها.

(الزهو الوطني)..هو- بالضبط- الذى دفع إلى تدشين محاولة صوغ مجلة أطفال مصرية، أو (كروان..مجلة البنات والصبيان)، وهى لم تك وحدها، وإنما حاولت دار المعارف- كذلك- أن تقدم قبل (كروان) مجلة بعنوان (سندباد) كان أحد رساميها الفنان الكبير إيهاب شاكر.

كل تلك كانت محاولات لتحصين عقل الطفل ضد تأثير الثقافة الأجنبية، وهو ما كان أمراً شديد الحساسية عند بلد خرج- لتوه- من معركة الاستقلال، ويقود مشروعاً تغييرياً ضد الاستعمار بجميع تجلياته على امتداد بلدان العالم الثالث، ويخشى على الجيل الجديد من عياله أن يقع أسير (التأثير) الذى يمكن أن تتسبب فيه مجلات الأطفال الأجنبية أو ذات الأصول الأجنبية مثل (ميكي) من دار الهلال المصرية، و(لولو) المطبوعة فى بيروت.

مجلة (كروان) التى رأس تحريرها نعمان عاشور، كانت محاولة طموحة جداً لإضافة مطبوع مهم إلى باقة مطبوعات دار التحرير التى ضمت (الإيجيبتشيان جازيت) بالإنجليزية و(جورنال دى إيجيبت) بالفرنسية، فضلاً عن سلسلة (كتب للجميع) التى أرادت السلطات أن تجعلها معادلاً موضوعياً ل (ريدزر دايجست) التى حصلت أخبار اليوم على ترخيص طباعتها، وتردد أن ذلك كان بدفع من المخابرات الأمريكية لمحاصرة الثقافة الشيوعية واليسارية التى كانت بدأت تتوطد فى مصر.

الجمهورية- إذن- كانت جريدة الثورة، وأذكر أنها خاضت معركتين مهمتين ضد «الأهرام»، أو- للدقة- ضد محمد حسنين هيكل، الذى لم يك مشروعه فى «الأهرام» هو (جريدة الثورة) وإنما مشروع بديل يعتمد على علاقة هيكل الشخصية بعبد الناصر!

إحدى المعركتين كانت عام 1969 وهى معركة: (مذكرات الماريشال زوكوف)، إذ حصلت الجمهورية على حق نشر مذكرات بطل الاتحاد السوفيتى الشهير التى تضمنت وقائع دوره فى مواجهة قوات النازى فى الحرب العالمية الثانية، وكان نشرها خبطة معلم مع الأجواء التى سادت مصر- وقتها- فى حرب الاستنزاف، وشعر هيكل بالغيرة فأراد الاستيلاء على المذكرات ونشرها فى الأهرام، وعمد إلى تصعيد الصراع مع الجمهورية وتحويل الموضوع إلى سجال من المقالات والمقالات المضادة حول (حقوق النشر) وبما جعل السلطات العليا تتدخل (فى توقيت لم تك الحالة العامة تحتمل فيه مثل تلك الشجارات).

ونشرت «الجمهورية» و«الأهرام» معاً مذكرات زوكوف، ولكن ذلك لم يمنع تجذر شعور دار التحرير بأن علاقة هيكل الخاصة بعبد الناصر لن تجعل من «الأهرام» جريدة للثورة لابل أن هيكل- فى التحليل النهائي- هو مشروع مضاد لليسار، الذى كان علامة وبصمة النظام الثورى وقتها، فضلاً عن تخاشنات هيكل مع الاتحاد السوفيتى منذ 1958 حتى وقتها والتى لم تجعل مشروعه يتمتع بقبول كبير فى أوساط اليسار، وبالتالى فى جريدة الجمهورية التى كانت حاضنة لمعظم رموز ذلك اليسار.

أما المعركة الثانية بين الجمهورية وهيكل فكانت فى عقب الأولى بسنتين، وقادت فيها كوادر التنظيم السياسى (الإتحاد الإشتراكى العربي) على صفحات الجمهورية هجوماً نارياً ضارياً كاسحاً ضد هيكل، وفيها أبلى محمد صبرى مبدى بلاء هائلاً ضد رئيس تحرير الأهرام، وعلى كل حال فقد كان ذلك المشهد- بالذات- جزءاً من صراع سلطة آخر استبق عملية 15 مايو 1971، التى ضرب فيها السادات (بمعونة هيكل) قيادات الاتحاد الاشتراكى وضمنهم صبرى مبدى بالطبع.

..............................................

ما قصدت الإشارة إليه كان حجم جريدة الجمهورية، ومن ثم ثقل وأرجحية نزوعها إلى إصدار مطبوعات تغطى الاحتياج الصحفى فى كل المجالات وضمنه كانت: (كروان..مجلة البنات والصبيان) التى رأس تحريرها نعمان عاشور.

نعمان كان لأبناء الجيل الحالي- ضعيف الذاكرة وغير المتواصل مع مسيرة بلدنا تاريخياً وثقافياً وسياسياً- مؤلفاً مسرحياً كبيراً جداً، وهو إحدى علامات موجة الأربعينيات ثقيلة العيار، ومن أعماله المسرحية العلامات: (الناس اللى فوق)، و(الناس اللى تحت) و(عيلة الدوغري) و(المغناطيس) و(بشير التقدم).

وهذه المسرحية الأخيرة التى سطرها نعمان عاشور عن سيرة الشيخ التنويرى رفاعة رافع الطهطاوى ربما تكون الأقرب إلى الذهن العام فى اللحظة الراهنة.

إذ تفتق ذهن جابر عصفور وزير الثقافة المقال عن فكرة نميسة رآها إضافة إلى منظومته التى هندسها لأجل تأبيد وجوده فى وزارة الثقافة، وقد كان هدفاً لهث خلفه لسنوات طويلة، ومكنته لحظة السيولة التى أعقبت عملية يناير 2011، من ملامسته ثم الوصول إليه عبر آلية هى غاية فى الغرابة، وقد أخبرتنى بأننى حين أنظر إلى جابر عصفور فينبغى أن أفعل بوصفه (شخصية روائية) لأن عوامل الدراما حاجزة فى تلك الشخصية بكل ما تشمله من تناقضات، وبكل ردود فعلها البراجماتية جداً (النفعية) التى أتتها إزاء عناصر السياق التاريخى التى عاشت وسطها.

لابد من تأمل كيف كان جابر يطرح نفسه وسط مجموعة المثقفين المصريين التى عاشت فى الكويت هروباً من السادات بعد التغييرات التى أعقبت عملية مايو 1971..

تلبست الرجل روح شخصية نضالية معارضة عظيمة الشأن والشنشان..ثم كان هو- نفسه- واحد من مجموعة المثقفين وأساتذة الجامعة التى تحلقت حول السيدة جيهان السادات (بعد عودته الحميدة إلى الوطن)، وكان جزءاً من تلك الجوقة التى ضمت- فى الحقيقة- بعض عناصر محترمة ولكن أحداً منهم- أبداً- لم يدع (مثل جابر) أنه مناضل أو ولد أشاوس لا يشق له غبار.

وتذكرون- طبعاً- هذا المشهد من فيلم أيام السادات لأحمد زكي، الذى كان يصور حوار الرئيس السادات مع بعض المثقفين وأساتذة الجامعة والذى كان يطعم فيه أحدهم فطيراً مشلتتاً بيده، ثم يستشيط غضباً حين يطالب أستاذ الجامعة (بمزيد من الديمقراطية)!

الكثيرون فسروا ذلك المشهد بأنه يمثل جابر، فى أحد إقتراباته القلقة من السلطة، والتى كان يتحسس فيها الخطى عله يتوصل إلى القبض على نفوذ تلك السلطة وفلوسها ومناصبها..وبالذات مناصبها التى يمكن أن تصير طريقاً يفضى تلقائياً إلى النفوذ والفلوس.

وفى هذا الإطار تعرف الجماعة الثقافية المصرية (وبالذات العواجيز من أمثالى الذين أتاحت لهم الظروف أن يلفوا ويوروا فى ساحات ملأى بالأسرار والأخبار) الكثير من ممارسات جابر عصفور وقت دراسة السيدة جيهان السادات فى قسم اللغة العربية بكلية الآداب، ووقت إعدادها لأطروحة الدكتوراه عن الشاعر شيلي.

قطعا لم تك السيدة جيهان تطلب من جابر شيئاً مما فعله فهى سيدة متواضعة وبسيطة وليس فيها تجبر على أحد، ولكن جابر هو الذى كان يتطوع بالإنسحاق أمامها، لانه كان يتصور أن ذلك هو الطريق إلى السلطة، واليسارى المناضل حين يقرر إطاحة مبادئه والتحليق فى أفق سياسى مناقض، يغالى ويوغل ويبالغ حتى يؤكد لنفسه- قبل الآخرين- أنه تغير، لابل ويكره اليسار وسيرته وأم أفكاره (التى يراها- حينذاك- سبباً فى فقره ونحسه وعدم تحصله ما كان ينبغى تحصيله وبما دفعه إلى تيه تطارده فيه السلطة وأجهزتها الأمنية والسياسية فيما يرفع عقيرته شادياً: أضاعونى وأى فتى أضاعوا؟!)

ومنذ ذلك الحين عرف جابر طريقه- كما تصور- وصار مقصده هو السلطة وهدفه هو القبض على تلك السلطة.

ولما رشح الدكتور عاطف صدقى إسم فاروق حسنى ليكون وزيراً للثقافة، رأى جابر أن تلك سوف تكون فرصته التى سنحت فى لحظة ذهبية، لأن فاروق بنى رؤيته على لملمة الجماعة الثقافية بكل أطيافها وإعادة تدويرها فى المشروع السياسى والوطنى للدولة.

تقدم جابر الصفوف وراح يروج لقدراته فى لم الجماعة الثقافية وهو ما حاول تحقيقه من خلال رئاسته للمجلس الأعلى للثقافة.

وهذه هى (السياسة المعلنة Declaratory-Policy) أما السياسة الفعلية (Action-Policy) لجابر فكانت حيازة السلطة لاغيرها.

وأذكر أن جابر دعانى للعشاء مرة فى منزله بمساكن أعضاء هيئة تدريس الجامعة بجوار شارع مصدق عام 1993، وجمع معى فى ذلك اليوم عدداً من المبدعين اليساريين الشباب. وأولم لنا ديكاً رومياً عظيماً جديراً بكل إحترام وإحتفاء، وبعد أن إنتهت السهرة، وتآكل الجمع تحت وطأة إنصراف أفراده واحداً وراء الآخر، وجدت جابر يحاصرنى باصراره على توصيلى إلى منزلى قرب مطار القاهرة، ولابطت الرجل خجلاً من طول المسافة، ولكنه واصل إصراره، فكان أن صحبنى إلى سيارته، ثم بدأ المشوار العجيب، إذ فاتحنى فى موضوع بدا لى مثيراً لأقصى درجات الدهشة، ويتعلق برأيه فى فاروق حسني، ورغبته فى أن يصعد إلى مقعده، ولم يك ذلك- فى تقديري- وليد كراهية، وإنما نتيجة سيطرة رغبة عارمة عند جابر فى الوصول إلى السلطة، التى كان- بالفعل وفى إطار سلطاته كرئيس للمجلس الأعلى للثقافة- قد بدأ يمارسها على نحو مذهل فى إسرافه وشخصانيته.

وراح جابر يلف ويدور بسيارته وبي، كلما أوشكنا على الوصول، بعد أن أحس- فيما يبدو- برغبة ضاغطة فى أن يواصل إفراغ حمولته النفسية والعاطفية المتعلقة بأشواقه للوصول إلى السلطة!

هى نفس الأشواق التى دفعته- لسنوات طوال- أن يقدم نفسه إلى السيدة سوزان مبارك، ويوظف ذاته فى كل فى كل أنشطتها، وإلى الرئيس مبارك ويسخر ذاته فى الدعوة له.

ولما إندلعت عملية يناير 2011، وكان جابر غارقاً إلى شواشيه- وقتها- فى الذوبان عشقاً فى الرئس مبارك والتفانى المخلص فى خدمة السيدة قرينته متصوراً أن ذلك سيقربه إلى السلطة أى أن التخلص من أثر تلك الصورة كان يحتاج إلى حركات درامية عنيفة، وقد كان حين إستقال جابر من وزارة أحمد شفيق بمشهد مسرحى إدعى فيه أنه لم يك يعرف أن تلك وزارة الحزب الوطني، وأنه كان يتصورها حكومة إئتلافية، وهو ما ينفي- مع كثير الأسف- المشهد الذى لا يعلم عنه الناس شيئاً حول الطريقة التى تم بها تكليف جابر بالمنصب فى مكتب د.زكريا عزمى رئيس ديوان رئيس الجمهورية.

ولكن الجلالة كانت تلبست جابر فواصل أداءه المسرحي، مدعياً ارتباطه بيناير، ومندمجاً فى رعاية فرق ادعت الثورية وتبنت أفكاراً ومواقفً بعينها من السلطة التقليدية التى انتمى إليها جابر- من الأصل والأساس- كما لم ينتم إليها أحد قبله، ومارس فى إطارها انحيازات مخجلة باستخدام مقدرات وزارة الثقافة، وكان أحدها هو معايير منح جوائز الدولة، التى أخبرني- مرة- أنه منح إحداها لمؤلفة شديدة المحدودية، لأنها كانت تكلمه - كل ليلة - بالتليفون وتلح عليه!

وبلماحية الرجل الذى عاش طوال عمره يتطلع إلى السلطة، عمد جابر إلى ربط نفسه بأكبر معارك الدولة الحالية وأكثرها إلحاحاً، وأعنى بها مواجهة الإرهاب والتطرف الديني، وهى التى يحقق الارتباط بها اقتراباً من جموع المثقفين الذين فرغوا- لتوهم- من معركة طرد الوزير الإخوانى علاء عبد العزيز من وزارة الثقافة، وكما تحقق المشاركة فى الحرب ضد الإرهاب انضماماً أكثر حميمية للدولة الجديدة ومسئوليها فى مقدمتهم الرئيس حيث أن الحرب على الإرهاب هى أولى أولوياتهم.

وهنا- وفى أحد لقاءات الرئيس بالمثقفين والكتاب التى يتم الإعداد والدعوة لها وفقاً لآليات غامضة- عمد جابر إلى طرح فكرة التنسيق بين وزارات الثقافة والإعلام والتعليم والأوقاف والشباب فى مجهودها ضد الإرهاب، وهى فكرة سبق أن طرحها- بتفصيلها- الأستاذ لطفى الخولى على الرئيس مبارك فى التسعينيات، وقرر جابر بأن يسطو عليها، تقرباً للسلطة الجديدة، ومضى عبرها يحاول بسط نفوذه على تلك الوزارات، ودون خطوة واحدة فعالة أو مدروسة تحقق الهدف!

كان ما قاله جابر فى هذا السياق- كان إعادة إنتاج لما سبق أن طرحته فى حلقات برنامجى التليفزيونى (حالة حوار) عن تجديد الخطاب الديني، والتى كان- هو نفسه- أحد ضيوفها.

وضمن المساندات (الصوتية) لسلطة مصر الجديدة فى معركتها ضد الإرهاب، والتى لا تكلف جابر شيئاً، عمد إلى إعادة عرض مسرحية شهيرة لنعمان عاشور اسمها (بشير التقدم) عن سيرة الشيخ رفاعة الطهطاوى وكنت شاهدت العرض الأصلى حين دعانى إليه مخرجه الأستاذ عبدالغفار عودة- رحمه الله- فى السبعينيات، ولكن فكرة إعادة عرضه بدت لى عجيبة جداً، ومحاولة تريد استغلاله فى التظاهر بتقديم عمل تنويرى يساعد فى الحرب على التطرف، يعنى إعادة تدوير العمل تحقيقاً لهدف انتهازى جداً.

لم يطلق جابر عملاً جديداً، ولم يحفز القوى الثقافية والمبدعين لتقديم عمل طازج يتوافق مع مزاج اللحظة الراهنة ويتجاوب مع أحداثها، ولكنه اختار عملاً قدمته مصر لينسجم مع مزاج زمن آخر..وحتى إذا كان عن مسيرة تاريخية لرفاعة الطهطاوى فإن جوانب التركيز على زاوية أو أخرى تختلف بزمن عرض ذات السيرة وملابساته..

جابر قدم لنا (ريبرتوار) بشير التقدم وسطا على فكرة مقاومة التطرف بها، بالضبط كما سرق فكرة لطفى الخولى للتنسيق بين الوزارات الأربع المختصة بتشكيل العقل المصري.

....................................................

جمعتنى بنعمان عاشور جلسات عديدة للحوار، كان فيها جميعاً يرتدى بيجامة مقلمة، حتى خيل لى أنه لا يخرج من منزله، ووقتها (منتصف الثمانينيات) كان الرجل على شفا إكماله مذكراته: (المسرح حياتي).

وقد شعرت- بالفعل- أن انخراطه فى الحركة المسرحية استغرقه تماماً وأنه أحس وكأنه صراع كوكبة- ضمته مع مثقفى اليسار- ضد السلطة على متداد عقود، شكل مسار حياته ومجراها.

لابل نظر إلى اضطهاد المثقف الحقيقى وكأنه حتمى أو كأنه جزء من السيرة الذاتية لكل مثقف!!

رأى نعمان أن كل كتاب المسرح فى الستينيات كانوا إنتاجاً لفترة الأربعينيات الخصبة التى شهدت مخاضاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً كبيراً.

وقال لي- وسط تدخينه المتواصل- فيما جلسنا على مقعدين بجانب زجاج نافذة كبيرة: كان الصراع كبيراً..على جانب منه وقفت سلطة القصر تساندها قوات الإستعمار، وعلى جانب آخر وقفت قوات الجبهة الشعبية التى قادها الوفد، ثم الاتجاه اليسارى الوفدى الذى انشق عنه، إلى جانب الإخوان والجماعات الشيوعية وفصائل الاشتراكية التى مثلها أحمد حسين.

كان الدور الثقافى لأى حزب هو أهم عناصر ظهوره وشرعيته، فعندما أراد النقراشى وأحمد ماهر أن يشكلا الحزب السعدى وينفصلا عن الوفد أقاما محاضرات ثقافية فى ناديهما الجديد (النادى السعدى) لتكون معادلاً موضوعياً للندوات الثقافية لحزب الوفد فى بيت الأمة، ولم يقتصر الأمر على الأحزاب- فقط- ولكن كل الهيئات والمؤسسات كانت تلجأ لنفس الأسلوب فرأينا سلامة موسى يقود مدرسة وتياراً فى جمعية الشبان (المسيحيين) ورأينا تيار (أبولو) يأتلف من المجموعةالتى وقفت ضد مدرسة (الديوان) وضد رموزها (العقاد- المازني) وذلك فى جمعية أسميتها أبوللو (جمعية الموظفين) وكان مقرها شارع عماد الدين».

وأضاف نعمان عاشور:«ببساطة أعلن هذا الزخم الثقافى والفنى نفسه فى كلمة واحدة هي: الواقعية.. كلمة واحدة أفرزها الإطار الثقافى الذى أحيطت به الحركة السياسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى قيام ثورة 1952..دخلت الواقعية- إذن- إلى الميدان لتنحى الرومانتيكية جانباً وتعلن ميلاد عصر جديد وكان يوسف إدريس والشارونى أولى الضربات فى جبهة القصة القصيرة، وقاد نجيب محفوظ تياراً واقعياً فى الرواية فى حين أعلن كل من عبد الرحمن الشرقاوى وصلاح عبد الصبور الواقعية الجديدة فى الشعر، ولكن الشئ الذى بنقصنا هو الأدب الدرامي، ويرجع الفضل الكبير لتوفيق الحكيم فى إيجاد لون من (الكتابةالدرامية) وهى ليست مسرحاً- بالضبط- ولكنها (مسرحة) للرواية، وكل ما كان قبل الحكيم من محاولات تتمثل فى ترجمات طه حسين لمسرح سوفوكليس لم يك يسمى مسرحاً وإنما قصة تمثيلية»

ولقد دفعنى هذا الحوار مع نعمان عاشور إلى أن أحاول تحقيق فكرة ظهور الواقعية فى الإبداع المصري، وقد فعلت بأكثر من اقتراب، ربما كان أهمها- بالنسبة لي- هو حوار أجريته مع المخرج الأستاذ صلاح أبو سيف قال لى فيه:

«جلست بين رفاق عدة فى جلسات سلامة موسى الأسبوعية كل يوم ثلاثاء أو جمعة فى جمعية الشبان المسيحيين..حولى كان كامل زهيرى وإبراهيم عامر وفاروق نجيب، ومصطفى منيب (وكان أول من ترجم فونتمارا)، وإلى جانب تأثير تلك الندوة فى نفسى كانت ترجمات إبراهيم المصرى هناك فضلاً عن كتبه المعروفة (الأدب الحديث) و(الأدب الحي)، وتسلحت- كذلك- بما طالعته من أعمال تشيكوف وموباسان فلوبير وأميل زولا، وكنت- عادة- أخرج من ندوة سلامة موسى إلى ندوة لويس عوض عن الموسيقي، ورغم أن الجو الثقافى كان محصوراً فى بعض الجمعيات مثل (الخبز والحرية) و(الاتحاد الديمقراطى) وهى جمعيات ظاهرها ثقافى وباطنها سياسى خالطنا فيها بعض عساكر الإنجليز العائدين من الحرب المتحدثين بلوعة عن أشواقهم للرجوع إلى الوطن..وأيضاً كانت هناك لقاءات مع بعض رفاق المحنة الذين رجعت معهم من مرسيليا وسط الحرب حين راحت المركب (النيل) تلم كل الشباب المصرى فى فرنسا للعودة بهم إلى الوطن، وكنت أدرس فى باريس فهرعت إليها وعلى ظهرها تعرفت بطه حسين وزوجته وأحمد الصاوي، وزوجة سفير النمسا فى مصر، وكانت- بعد العودة- تقيم صالوناً أدبياً موسيقياً، وكنت أحضر جلسات ذلك الصالون فى العمارة التى توجد بها قهوة لاباس (العمارة رقم 17 قصر النيل وقد جاء ذكرها فى ذكرياتى عن عادل إمام وتعود صلاح أبو سيف- بعد ما رحلت زوجة سفير النمسا- أن يجلس فى لاباس أسفل العمارة يومياً) وهناك تعودت التقاء شخصيات يصعب الوصول إليها مثل الأستاذ محمد التابعي.

كان أحد مشاريعي- التى لم أكملها- أن أجمع الشهادات الحوارية لعدد من المبدعين، لابل أحاور عدداً منهم كذلك حول نشأة وجذور الواقعية المصرية، ربما عطلنى بعض الإجهاد جراء الحروب التى شنها ضدى جيش من أرباع الموهوبين، أو ذلك الحصار الخانق والجاهل من متصدرى الساحتين الصحفية والسياسية كأصداغ اللفت والذين كنا نفلت منهم بمعجزة، ليستعيدونا إلى قبضاتهم التى هصرتنا هصراً!

نهايته..كنت مع نعمان عاشور فى حوار متصل، قادنى إلى حوارات أخرى فى ذات الموضوعات، وكنت أتلقى إفاداته عن الفرقة القومية وفرقة المسرح الحُر وأحمد حمروش (الذى شغل منصب مدير المسرح القومى لفترة) وثروت عكاشة (الذى عمل نعمان معه سكرتيراً صحفياً لوزارة الثقافة) على نحو سردى هادئ، ولكن حوارى مع الأستاذ نعمان كان يستحيل صداماً صاخباً فى أحيان أخرى حين أكون طرفاً بالمعايشة فى موضوع الحوار..يعنى فيما هو (تاريخي) لم يك مجالا للصدام، أما فيما هو (معاصر) فكنت أشتبك ما وسعنى الاشتباك.

وأذكر أن إحدى جلساتنا فى يونيو عام 1987 تحولت إلى ما يشبه الحرب، وقد استفتح نعمان النفخ فى أوارها قائلاً: «إن المسرح تحول فى السبعينيات إلى (دار مناسبات) للإضحاك والتسلية، وكنا بإزاء معركة بين المسرح التجارى الذى يمثل دار المناسبات تلك، والمسرح الجاد.

بعد النكسة- مباشرة- حدث انهيار للمثقفين وبدأ المسرح يفقد دوره كبؤرة إشعاع ثقافي، وتوقف جيلنا عن الكتابة، وأرسل لى الدكتور ثروت عكاشة فى الكويت- وقتها- يطلب منى كتابة مسرحية عن الهزيمة العسكرية فكتبت (سر الكون) التى دعوت فيها للصمود ولكنها لم تعرض، ورفضت مقولة الأستاذ نعمان قائلاً ولكن تلك لم تك حالة فردية تخصك يا أستاذ نعمان فمعظم الذين كتبوا مسرحاً عن النكسة لم يتمكنوا من عرضه وقتها نظراً لظرف التمزق الذى عاشته مصر وقتها، ومن هؤلاء- مثلاً- سعد وهبة فى مسرحية (سبع سواقي)، كما لم تقنعنى مقولتك بأن المسرح الجاد وقتها توقف لأن ألفريد فرج قدم- حينها- (على جناح التبريزى وتابعه قفة)..

وفى إحدى مناطق ذلك الحوار العاصف قال نعمان: وساد اتجاه غريب فى السبعينيات بإغلاق المجلات الثقافية وحل مؤسسة السينما، وحل هيئة المسرح تحت دعوة أن تلك المؤسسات تخسر اقتصادياً، ثم سادت فكرة أخرى بحل وزارة الثقافة وعهد البعض بدورها إلى المجلس الأعلى للفنون وحمل يوسف السباعى راية ذلك الاتجاه وفى هذا المناخ ظهر الكتاب الرسميون الجدد الذين عينوا فى مناصب للسيطرة على الأوضاع الثقافية فظهر الدكاترة سمير سرحان ومحمد عنانى وعبد العزيز حمودة وبدأوا يكتبون مسرح المناسبات بتقديم مسرحيات متفانية فى تمجيد الأوضاع، ولم تنجح تلك المسرحيات رغم المصاريف الباهظة وتجنيد كبار النجوم مثل محمود ياسين ونور الشريف لها. وأذكر أننى خبطت على المنضدة أمامنا قائلاً:«لم تك مسرحيات هؤلاء سائرة فى ركب تمجيد الأوضاع فقد ألف سمير سرحان (روض الفرج) التى أثيرت حولها ضجة كبري، كما ألفت بقية تلك الكوكبية أعمالاً لها وزنها وقيمتها، ثم ما الذى يضيرنا فى توليهم مناصب رسمية..ألم يك فى جيلكم من يتولون مناصبً رسمية، أو أن تولى أى إنسان لوظيفة يحول دون ممارسة حقة الشرعى فى الإبداع ودوره المشروع فى الكتابة للمسرح»؟

وعاد نعمان ليناطحنى رأساً برأس: «نتيجة عوامل السبعينيات المحيطة توقف جيلى عن الكتابة ولم يقدم يوسف إدريس أو سعد وهبة جديداً، ومات نجيب سرور ومحمود دياب قهراً»

وقررت أن أبادله مناطحة بمناطحة فقلت: «فى منتصف السبعينيات قدم المسرح القومى (قولوا لعين الشمس) لنجيب سرور، و(جواز على ورق طلاق) لألفريد فرج ولم يتوقف سعد وهبة عن الكتابة وإنما قدم ست مسرحيات من فصل واحد جمع كل ثلاث فى سهرة مسرحية، كما قدم يوسف إدريس مسرحية (البهلوان)، ومارس شكلاً آخر من الكتابة اختاره بنفسه فى (أنا سلطان قانون الوجود) وغيرها»

وقال: «تقديم عمل واحد ليس مقياساً فهؤلاء كانوا ينتجون عشر مسرحيات فى كل عقد، كما أن مسرحيات الفصل الواحد لسعد وهبة كانت هروباً من البناء والتقليدى للمسرح الذى يتيح للأفكار الجديدة أن تطرح نفسها بشكل متكامل..بل أضيف أن عبد الرحمن الشرقاوي- حتي- لم يقدم جديداً فى تلك الفترة»

وعلى الرغم من أننى لم أحب- أبداً- حقبة السبعينيات ولا أبغى أن أبدو مدافعاً عنها، فإننى حاججت نعمان عاشور متخذاً الموقف الضد حتى أستنطقه فى المزيد وأحافظ على منطق وإيقاع الحوار، وألابط فيما تنبغى فيه الملابطة وبحيث لا يتغلب الرأى على المعلومات فينحرف بنا إلى مغالطات لا أحبها.

وقلت له:«غير صحيح أن عبد الرحمن الشرقاوى توقف فى السبعينيات بل قدم (النسر الأحمر)».

وأجابني:«هذا- فقط- لأنها كانت تمجد فى التوجهات السياسية وقتها»

فقلت:«كانت تمجيداً لموقف مجيد..كما أن عبد الرحمن الشرقاوى قدم فى ذات الحقبة (ثأر الله) لم تنجزها عناصر الرقابة فى المؤسسة الدينية التى لم تتعامل بأفق مفتوح مع ذلك العظيم»

ورد نعمان: «الرقابة واحدة وإن اختلفت مسمياتها، وسوف أتحدث عن نفسى حتى يكون كلامى دقيقاً..كنت موجوداً ولم أخرج من البلد وكتبت مسرحية (برج المدابغ) وحاولت مع الناقدة فريدة النقاش أن نشكل جمعية للدفاع عن المسرح ولكن وزارة الشئون الاجتماعية أغلقتها وقالت انها لا تفعل شيئاً..أكرر لم يفعل أحد شيئاً فى تلك الفترة إلا سمير العصفورى رغم تحفظى على الأسلوب الذى اختاره لأعمال مسرح الطليعة».

وقلت للمسرحى العنيد:«الإتجاه للشعبيات واستلهام أشكال جديدة من التراث يمثل اتجاهاً رائداً، كما أن استخدام أدوات المسرح الشامل فى أعمال مسرح الطليعة يعد خطوة متقدمة جداً..وفضلاً عن ذلك كله فقد أفلح سمير العصفورى فى خلق (فورم) عربى للمسرح الغنائى وخلق موجة امتدت لتنفس كل المسارح العربية وتخرج المسرح العربى من حيرته وتخبطه فى الأشكال الأوروبية والغربية»

وقال نعمان:«العودة للتراث ليست عيباً فقد قدم ألفريد فرج ذلك فى (حلاق بغداد) و(على جناح التبريزي) ولكن فى إطار قواعد المسرح التى نعرفها..أما الذى يقدم فى الطليعة فيشعرنا بأننا نقدم فناً أوروبياً خالصاً وهو ما يجب أن يتغير بدءا بشكل الخشبة التى يسمونها خشبة إيطالية بين أربعة أبعاد..لقد قاد سمير العصفورى اتجاهاً من علاماته يسرى الجندى وأبو العلا السلاموني، وكان مقصودا به- فى الواقع- الهروب من معالجة مشاكل الواقع تجنباً للمنع عن طريق التستر وراء التراث ولكن أعمال هؤلاء الكتاب ليست جماهيرية».

وصرخت معترضاً ربما مدفوعاً بارتباطى بمدرسة مسرح الطليعة وسمير العصفورى بالذات، والذى كنت أحضر بعض أعماله لعشرين مرة متتالية أحياناً وبالمناسبة فإننى بعد ربع قرن استضفت سمير العصفورى فى برنامجى التليفزيونى (حالة حوار) وطرحت ضمن أسئلتى بعض آراء نعمان عاشور التى احتاجت- فى نظري- إلى مناقشة.

نهايته..مرة أخري..قلت:

«لم تك أعمال مسرح الطليعة غير جماهيرية فهو المسرح الوحيد الذى شاهدنا جنباته تمتلئ بجمهور مسرح حقيقى ونجحت أعماله (الغول) و(مجانين- ماراصاد) و(يا عنتر) و(مولد الملك معروف) و(أبو زيد الهلالي)»

ورد نعمان:«كانت ناجحة بالنسبة للمسرح التجريبى الصغير، وله بعض الجمهور، وخطورة تلك الموجة أنها تأثرت بموجات شبيهة فى المسرح العربى سواء أعمال الطيب الصديقى فى المغرب، أو سعد ونوس فى سوريا ولا أعرف إن كان هناك مبرر حقيقى لتلك الموجة، ولكن ما أعرفه أن المسرح بشكله التقليدى الذى عرفناه لا يمكن تعويضه».

وقلت:«هل تريد أن تتوقف حركة المسرح عند جيلك والشكل الذى أبدع من خلاله»!

......................................................

وأسكت- هنا- عن الحوار المباح، ولكننى أسجل انطباعى بإنني- حتي- وأنا أزور أفكارى وأوراقى القديمة التى جمعتنى بالأستاذ نعمان عاشور أشعر أننى مازلت الطفل الغلباوى الذى لا يتوقف عن المناكفة أو المناهدة!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.