اختلف جنوب قارة أروبا تاريخيًا عن شمالها، ففى إيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان بقى التصنيع دون اكتمال فى نشأته المتأخرة وظلت الزراعة متخلفة واستمرت العلاقات الإكليريكية والأسرية العتيقة قوية. وفى مناهضة هذه الأوضاع مناهضة متسقة للتخلص منها لزمت نشأة اتجاهات أكثر راديكالية مما كان يسمى بالاشتراكية الديمقراطية بإصلاحيتها المتدرجة البعيدة عن الحسم الثوري. وكان الأمر فى الشمال، بريطانيا وألمانيا والنمسا وبلجيكا وهولندا والدول الاسكندنافية مختلفًا. فهناك طبقة عاملة ضخمة تعمل فى تركزات كبرى للصناعة الثقيلة وشريحة مزارعين ضئيلة تميل إلى التحالف مع العمال. وفى السبعينيات المبكرة كان هناك رؤساء وزراء ينتمون إلى أحزاب الاشتراكية الديمقراطية فى كل بلاد الشمال التى تم ذكرها سابقًا. وكان الشعار المشترك الأعلى لتك الأحزاب المحقق لجماهيريتها الانتخابية هو إقامة دولة الرخاء، دولة العمالة الكاملة وتقديم الخدمات الاجتماعية المتنوعة فى الصحة والتعليم وظروف العمل من حد أدنى للأجور ومعاش بعد التعاقد وإجازات بالإضافة إلى حقوق التنظيم النقابى والفاعلية السياسية. وتسمى هذه البلاد دائمًا بصيغ التبجيل ، ولكن ما أسرع ما انهارت بالأزمة الشروط الاقتصادية التى هى أساس نجاح الاشتراكية الديمقراطية، فقد تسارع التضخم وصعدت البطالة، ولا سبيل أمام الاشتراكية الديمقراطية لتفادى الأزمة فى إطار النظام الرأسمالى التى تدعى إصلاحه من داخله. كان هناك رد فعل جماعى مضاد للاشتراكية الديمقراطية واعتبار إنفاقها المسرف على دولة الرفاه عند بعض المفكرين الجماهيريين اليمينين سببًا للأزمة. واستولى اليمين بالانتخاب على السلطة فى الشمال الأوروبى (بريطانيا تاتشرعام 1979) والولايات المتحدة (ريجان) وألمانيا وهولندا وبعض البلاد الاسكندنافية. وفى إيطاليا ظلت هيمنة الحزب الديمقراطى المسيحى دون انقطاع لمدة ثلاثين عامًا بعد اندلاع الحرب الباردة. وفى إسبانيا والبرتغال استمرت الديكتاتورية الفاشية من فترة ما قبل الحرب حتى الستينيات واستولت طغمة ديكتاتورية على السلطة فى اليونان. ولكن التطور الاقتصادى والتغير الاجتماعى والمقاومة الشعبية أدت إلى تصفية أسس النظام اليمينى الذى ساد الجنوب. ففى النصف الثانى من السبعينيات انتهت أنظمة فرانكو وسالازار وبابادوبليو. وفى إيطاليا اضطر رئيس الوزراء أندريوتى إلى توسيع مساحة دعمه البرلمانى لاستشارات غير رسمية مع الحزب الشيوعى الإيطالي. وقد فتح إدخال تعديلات ليبرالية على النظام السياسى فرصًا لليسار الشيوعى فى دعايته لنفسه باعتباره حامل بدائل مسعفة جرى إنكارها طويلاً. وفى إسبانيا والبرتغال واليونان وفرنسا حاولت الأحزاب الشيوعية أن تطرح نفسها كشيوعية أوروبية مرشحة طبيعيًا لتغيير السلطة بواسطة تبنى نزعة دستورية تتسم بتقديم تنازلات إيديولوجية بالمحافظة على التقاليد الغربية الديمقراطية فى تعارضها مع التقاليد الغربية الديمقراطية فى تعارضها مع التقاليد السوفيتية. ولكن محاولة الشيوعية الأوروبية التكيف مع شروط جديدة أخفقت فى إحداث الأثر المطلوب، فتنكرها فى ألوان الاشتراكية الديمقراطية اضطر أحزابها الإيطالية والإسبانية والفرنسية إلى مواجهة منافسة خاسرة مع الاشتراكية الديمقراطية ذات اللون الأصيل التى كانت أضعف فى البداية ولكنها لم تكن تعانى من البيروقراطية الداخلية والارتباط الخارجى بأنظمة أوروبا الشرقية البغيضة. ومع ذلك خضع الإثنان لالتفاف وتفوق تشكيلات هى تشكيلات يسار جديد عفوى فى الجنوب أعمق راديكالية من الاثنين. وحدث تدهور فى حجم وقوة النقابات وظل عدد العاطلين مرتفعًا طوال الثمانينيات. وحققت إسبانيا حيث طال أمد حكم الاشتراكيين الديمقراطيين رقمًا قياسيًا فى تضخم الكتلة الجماعية للعاطلين بما أفقد الحكام جماهيريتهم. إن الضغوط نفسها من السوق المعولمة التى ساعدت على توصيل اليمين إلى السلطة فى الشمال كبحت أى دوافع حكم لتطبيق برامجها لدى اليسار التقليدى فى الجنوب وتركته عائمًا طافيًا مع الاقتصاد المعولم، وصار يتأثر من حمى المضاربة التى أطلقها ريجان لسياسة التمويل بالعجز التى شجعت، ونشرت دوافع الاستهلاك المفرط بين الشرائح الأكثر رخاء من الناخبين على حين لم تقدم سوى الفتات للعاطلين والفقراء وهو نمط شديد البروز فى إيطاليا أثناء حكم كراكسى وأثناء إدارة جونزاليس الثانية فى إسبانيا. وقد مهد ذلك الطريق لصعود يسار أكثر راديكالية لمواجهة الأزمة. وقد سبق أن تناولنا وصول حركة سيريزا اليسارية الراديكالية إلى الحكم فى اليونان. وفى إسبانيا صدم صعود نجم حزب ديموس اليسارى حديث النشأة نظام الحزبين الرئيسيين على الرغم من أنه لم يتشكل إلا فى يناير 2014 وصار يتحدى الحزبين الرئيسيين فى انتخابات 2015. وقد حصل على خمسة مقاعد فى البرلمان الأوروبي. ويؤكد رئيس حزب ديموس أن نظام الحزبين قددمر إسبانيا. وليس من المفاجئ جاذبية هذا الحزب وسياسته الاشتراكية الشعبية للإسبان، فالبطالة عندهم من أعلى المعدلات فى أوروبا إذ تبلغ 24% بين الشباب، ويعلن ستة من كل عشرة شباب أنهم سيغادرون إسبانيا بحثُا عن عمل. وقد أدت أزمة اليورو فى 2012 وسياسة التقشف إلى احتجاج جماهيرى فى قلب مدريد وولد حزب بوديموس من هذه المظاهرات ونال شعبية ساعدها إجماع عام حول أن النظام يعانى من الدمار حين هزت سلسلة فضائح الفساد الثقة فى الأحزاب السياسية. وفى الواقع يضع الإسبان الفساد فى صدارة آفاتهم بعد البطالة. ولا تنفرد إسبانيا ببلاغة حزب بوديموس المؤثرة فى الاحتشاد الشعبى خلفه، بل ينتشر الخطاب اليسارى الراديكالى فى الجنوب الأوروبي، اليونان والبرتغال وإيطاليا. لمزيد من مقالات ابراهيم فتحى