كشف اجتماع الدورة الثامنة والعشرين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عن حجم المأزق الذى تواجهه قضية حقوق الإنسان, حيث أصبحت ساحة اختلط فيها السياسى بالقانوني, وتحولت من قضية صارعت من أجلها أجيال عديدة, وشهدت طفرات كبيرة سواء على المستوى التشريعى الدولى أو الوطني, إلى مجنى عليها وأداة للمزايدة السياسية وتحقيق الأجندات الدولية. فمنذ إصدار الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فى ديسمبر 1948 تراكمت منظومة دولية واسعة من القوانين سواء الصادرة عن المنظمات الدولية أو القوانين المحلية, كما تكونت عشرات الآلاف من المنظمات الدولية والمحلية, مثل العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش, ورغم الانتهاكات الجسيمة حول العالم لحقوق الإنسان سواء من قبل الأنظمة الديكتاتورية والتسلطية او انتهاكات الحروب الأهلية والإرهاب, فإن منظومة العدالة الدولية لم تنجح حتى الآن فى وقف تلك الانتهاكات المنتشرة فى كثير من المناطق العالم, وتزايدت الفجوة بين النصوص القانونية الدولية والوطنية البديعة فى الدفاع عن حقوق الإنسانى وحمايتها وعلى رأسها القانون الدولى واتفاقات جنيف عام 1977. ويرجع الخلل فى تراجع قضية حقوق الإنسان إلى عدة أمور: أولا: غياب الآليات المحددة والواضحة لتنفيذ قرارات المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة أو المنظمات المستقلة المعنية بحقوق الإنسان, حيث تظل تلك القرارات فى إطار التوصيات والاستشارات, التى تخضع للاعتبارات السياسية والمواءمات, وهو ما ساعد فى استمرار الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان مع غياب الردع والعقاب. ثانيا: التنازع بين المصالح والقيم, وهى العقبة الحقيقية أمام تحسين أوضاع حقوق الإنسان فى العالم, فقد تم تسييس حقوق الإنسان فى العالم لتحقيق مصالح الدول الكبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدة, المهمينة على المنظمات الدولية مثل مجلس الأمن ومنظمة العفو الدولية, ورغم أن السياسة الخارجية الأمريكية تحكمها اعتبارات المصالح الإستراتيجية, واعتبارات القيم والدفاع عن حقوق الإنسان والحريات, إلا أن خبرة الواقع أوضحت أنه عندما تتعارض المصالح مع القيم فإنها غالبا ما تضحى بالأخيرة, وهذا ما حدث مع كثير من الحالات فى الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وآسيا, عندما تحالفت الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع الأنظمة الاستبدادية التى تنتهك حقوق مواطنيها, وذلك لاعتبارات المصالح وحشد دعم هذه الأنظمة لتوجهاتها وكسب تعاونها سواء فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب أو المصالح الإستراتيجية العسكرية, كما أنها تستخدم حقوق الإنسان كأداة للتدخل فى الشئون الداخلية للدول تحت مظلة واعتبارات الديمقراطية, وذلك للضغط عليها حتى تتواءم مع التوجهات والمصالح الأمريكية. ثالثا: الازدواجية والانتقائية فى التعامل مع قضية حقوق الإنسان, والتى أصبحت سمة أساسية سواء من جانب الدول الكبرى والمنظمات الدولية أو على المستويات الوطنية, ففى الوقت الذى يناقش فيه مجلس حقوق الإنسان تقرير جرائم الحرب الإسرائيلية فى غزة عام 2014 والتى راح ضحيتها أكثر من ألفى شخص, غالبيتهم الساحقة من المدنيين, عبر استخدام أسلحة محرمة دوليا مثل القنابل العنقودية والفوسفورية, يتهم وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى المجلس بالانحياز ضد إسرائيل ويدافع عن جرائمها المتواصلة منذ عقود ضد الفلسطينيين, واستخدمت أمريكا حق الفيتو فى مجلس الأمن عشرات المرات لمنع إصدار قرارات تدين الانتهاكات الإسرائيلية, ولاشك أن الحماية الأمريكية القانونية والسياسية لإسرائيل قد دفعها لتحدى المجتمع الدولى والاستمرار فى جرائمها. وفى الوقت الذى يتعرض فيه المسلمون فى ماينمار لعمليات الإبادة الجماعية ولا تسمع صوتا من جانب المنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان, التى تملأ الدنيا ضجيجا عندما يتعلق الأمر بانتهاكات لجماعات عرقية ودينية فى مناطق أخرى من العالم. وبالتالى افتقدت سياسات الدفاع عن حقوق الإنسان التى ترفعها وتدعيها الدول الكبرى والمنظمات الحقوقية المصداقية, التى بدورها أسهمت فى تفاقم انتهاكات حالات الإنسان فى العالم. رابعا: غلبة الاعتبارات الإيديولوجية والدينية على الاعتبارات الإنسانية فى التعامل مع قضية حقوق الإنسان, وهذا أمر جلى على المستويات الوطنية والدولية, حيث لا يتم التعامل مع الإنسان كإنسان بغض النظر عن عرقه ودينه ومذهبه وتوجهه السياسي, وفى الوقت الذى يتم التركيز فيه على انتهاكات وجرائم التنظيمات الإرهابية التى تنتمى للأصولية الإسلامية, فإنه يتم التجاهل أو التغاضى عن جرائم التنظيمات الإرهابية التى تنتمى للأصوليات الدينية الأخرى ولا تقل خطورة. خامسا: رغم أن تزايد عدد المنظمات المحلية المدافعة عن حقوق الإنسان يعد خطوة إيجابية فإنها تواجه العديد من العقبات سواء القيود الإدارية أو الضغوط السياسية والتمويلية, ووجود بعض المنظمات التى تتخذ من قضية حقوق الإنسان وسيلة للتربح المالي, وهذا دفع البعض إلى وصف تلك المنظمات بالعميلة للدول الأجنبية. إن تطور حقوق الإنسان يتطلب مراجعة شاملة لمنهج وآليات التعامل مع تلك القضية فى ظل الانتهاكات الصارخة والمستمرة فى العديد من مناطق العالم سواء من جانب النظم الاستبدادية أو من جانب التنظيمات الإرهابية, وتحقيق التوازن بين اعتبارات وقف وردع تلك الانتهاكات ومحاكمة مرتكبيها أيا كان, وبين الحيادية وعدم التسييس, والتعامل بمكيال واحد تجاه قضية حقوق الإنسان فى العالم. لمزيد من مقالات احمد سيد احمد