أى سخرية يمكن أن تثيرها تلك الأقنعة البلاغية الكاذبة ؟! ضمن مقال يرسله الديوان الأميرى بدولة قطر ممهورا بتوقيع أميرها لتنشره صحيفة ال «نيويورك تايمز» بالتزامن مع زيارة استثنائية لواشنطن. يدعو المقال لمحاسبة الحكام المستبدين كما يدعو إلى معالجة أسباب الإرهاب عبر تقاسم السلطة!! وربما كان حجم المفارقة فى حديث الأمير هو ما دعا مجلة فورين بوليسى إلى القول بأن خطاب تميم يدعو حقا إلى المزيد من السخرية، لاسيما أننا أمام حاكم ينسى أنه تسلم عرش بلاده بالوراثة ورضخ فى النهاية للسلطة الاستبدادية مقابل الحصول على الثروة النفطية الهائلة ليستخدم تلك الأموال فى تمويل أنشطة الجماعات الإسلامية فى المنطقة. وفى هذا السياق نقلت المجلة عن بعض مسئولى الاستخبارات الأمريكية أن ذلك التمويل شمل تمويل الإرهاب أو على الأقل غض الطرف عنه عبر ممولين قطريين. وسواء كان الأمير هو كاتب المقال أو كتبه نيابة عنه أحد «مفكري» البلاط الأميرى فالأمر يستحق مغامرة نقاشية حول قطر وساستها وسياستها لفض الالتباسات التى شغلت عامة القارئين والكاتبين على السواء. وبالقدر الذى تتواضع به هذه القراءة أملا فى أن تتفهم أحاجى الدولة القطرية فهى بالقدر نفسه تدعى امتلاك الكثير من اليقين حول أن التاريخ مغامرة لم تبدأ مع ولادة دولة قطر فى العام 1971 أو مع تأسيس مُرضِعتها «أمريكا» فى العام 1783. وربما كان هذا العمر المبتسر والقصير للدولتين على رأس الأسباب التى تدفعهما للتعامل بعدائية مقززة مع الكتل الحضارية القديمة فى العالم، وهى كُتَل كانت وستظل تمثل إشكالية كبرى أمام تلك الكتل المستحدثة التى تمتلك المال والقوة، لكنها ليس بإمكانها أن تشترى لنفسها تاريخا. وإذا كانت القيمة الحضارية للتاريخ الإنساني،الذى يحتقره سمو الأمير، تعنى تشكل منظومة من القيم المعرفية التى تعمل ضد الهمجية والبربرية، فإن الرطان الذى ينطوى عليه المقال تعزيزا لقيم الديمقراطية والعدل يبدو مفارقا حد المأساة إذا ما وضعناه فى مواجهة الدعم الأمريكى القطرى غير المحدود للبربرية الجديدة الممثلة بأكثر أشكال العنف عبر التاريخ، لتظل المقولات ونقائضها موضع دهشة الملايين فى عالمنا. وأظن أنه لن يكون ثمة سخرية فى القول بأن تميم ربما يكون الشبل الذى تربى وتحت إبطه مؤلفات مفكر القومية الأمريكية الجديدة» صمويل هنتنجتون « الذى ظل هو الآخر موضع سخرية من عشرات الباحثين حول العالم، بعدما أطلق بحثه الإشكالى فى العام 1993 حول اعتبار القرن الحادى والعشرين قرن الحروب العقائدية ومن ثم فهو، فى نظره، قرن يمثل النهاية الحتمية للحضارات التقليدية ما يعنى حلولا للمدنية الأمريكية ذات الطبيعة النفعية المتوحشة لتسود فى النهاية «الحكمة السيئة التى يؤمن بها السادة «حسب تعبير آدم سميث»، وذلك يعنى بالضرورة إزاحة التاريخ لصالح اللا تاريخ. وهكذا تستطيع القوة الأمريكية أن تبيع فائض قوتها مقابل مليارات الدولارات تحت غطاء حماية النظام فى العالم ،غير أنها بدورها كانت معنية باستئجار فوائض العمالة لدى قوى إقليمية تقوم نيابة عنها ببعض «أعمالها القذرة». ولاشك أن الدعم الأمريكى غير المحدود للحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفيتى كان يمثل التدشين الأول لذلك الصراع الذى أسفر فى النهاية عن تسويق انتصار مزيف باسم الجهاد الإسلامى الذى تمددت أحلامه عندما وجد متسعا لإقامة خلافة لم يكتب لها التاريخ أن تنهض لأنها كانت وستظل ضد قوانين الصيرورة. ورغم مئات الآلاف من الأرواح التى تم إزهاقها تحت راية الجهاد منذ ذلك التاريخ تعاملت القوة الأمريكية ورجلها فى قطر مع الثورات العربية باعتبارها ربيعا حقيقيا، لكنه للأسف لم يكن ربيعا لشعوبه قدر كونه حديقة خلفية لفرض مشاريع الاستشراق الجديد الذى يستكمل أجندته بتعضيد الصراع الحضارى على تلك الأسس العقائدية التى انحطت وسائلها بشكل لم يشهد له التاريخ مثالا. إن مشروع تحطيم الدولة القومية الذى بدأ بالقوة السوفيتية وامتداداتها فى شرق أوروبا كان مُقدرا له أن يشمل حاضرة العرب الأولي «القاهرة» التى اعتبرتها أجهزة الاستخبارات «الجائزة الكبري»، وهى كذلك بالفعل قبل وبعد أن نصح الفيلسوف الفرنسي «ليبنتز» لويس السادس عشر عام 1672 باحتلال مصر قائلا له: «لا يوجد بين أجزاء الأرض جميعها بلد يمكن التسلط منه على العالم كله ، وعلى بحار الدنيا بأسرها غير مصر». من هنا ربما نتفهم لماذا يتفاقم العداء القطرى الأمريكى لثورة الثلاثين من يونيو بكل ما أسفرت عنه. وأمام هذا التسلط فإن أحرار العالم العربى مطالبون بتذكير شعوبهم بأن تاريخ التخلف فى الدولة العربية ظل مرتهنا بأدوار استعمارية معروفة كانت روافعها محلية الصناعة مما يشكل ضمن تراثنا مدونة فريدة للخيانة. ولم يكن للشعوب فى ذلك ثمة أدوار سوى كونها وقودا لحروب يقودها عملاء صغار لصالح عملاء أطول قامة منهم. وأظن أن واقعا من هذا النوع يجعل من سؤالنا: لماذا تتصرف قطرعلى هذا النحو ؟! لامحل له، لكن شيئا لن يمنعنا من الضحك ونحن نشاهد دويلة تتسقط تاريخ أنسابها فى أبيات من الشعر المنتحل الذى لم يُعثَر له على أصل فى وقت تتقدم فيه لاحتلال مواقع الحواضر العربية الثلاث: بغداد، دمشق، والقاهرة. وأظن أن الفشل المؤكد للدور القطرى سيدفع حكام المنطقة إلى التفكير جديا فى إعادة إنتاج سيناريو ضم القرم للاتحاد الروسى بحيث ينتهى حكم عائلة آل ثان على ذات الوتيرة، لاسيما أن قطر كانت جزءا من ولاية نجد ضمن الإحساء والبحرين منذ العام 1812، كما أن شعوب الخليج لم تنس بعد أن حاكم قطر محمد بن ثان كان أول حاكم عربى يطلب الاحتلال العثمانى عام 1871 ثم طلب الاحتلال الإنجليزى عام 1913 بعد الخلاف مع العثمانيين، وكذلك كانت قطر هى الدولة الوحيدة التى قاومت الاتحاد الإماراتى عند إنشائه. وإذا كانت القاهرة تتصرف حيال الموقف القطرى برفعة تاريخ يليق بها فذلك لأن رئيسها ورث قبل آلاف السنين كتابا اسمه «كتاب الموتى» يقول له: إن التعاون مع الأعداء هلاك للروح، بينما ثمة أجداد لأمير قطر سبق لهم طلب الاحتلال بعرائض رسمية. لمزيد من مقالات محمود قرنى